• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : شهر رمضان .
                    • الموضوع : الجزاء الأخروي .

الجزاء الأخروي

الجزاء الأخروي

من المسائل التي تطرح عادة في موضوع العدل الإلهي مسألة المجازاة الأخروية، فيُتساءل عن أنه لا بد من رعاية التناسب بين الذنب والعقوبة.
ففي القوانين الجزائية، إذا رمى شخص ما النفايات على قارعة الطريق –مثلاُ – فالعدالة تقتضي معاقبته، ولكن لا شك في أنّ عقوبته ينبغي أن تتناسب مع ذنبه. فلا يعاقب بالإعدام أو السجن المؤبّد، وإلا تنافى ذلك مع العدل ولم ينسجم معه، فالتناسب بين الذنب والعقوبة ضروريّ وإلا كان من الظلم الواضح.
إن الذنوب كالغيبة والكذب والزنا وقتل النفس هي جرائم يستحق مرتكبها العقوبة، ولكن أليست العقوبة التي خُصّصت لها في الآخرة تتجاوز الحدود؟! بمعنى أنّ العقوبات المقرّرة في القرآن الكريم قاسيةً ولا تقبل التحمّل؟ّ ألا يتناقض عدم التناسب هذا بين الذنب والعقوبة مع العدل الإلهي؟!
والإجابة على هذا السؤال تتوقف على بيان أمور ثلاثة:

الأمر الأول: اختلاف عالم الدنيا عن الآخرة:
إنّ بين عالم الدنيا وعالم الآخرة اختلافاً كبيراً، فهما نشأتان مختلفتان، إنهما لونان من الحياة، وعالم الدنيا بالنسبة لعالم الآخرة كعالم الرحم لدى الجنين بالنسبة لعالم الدنيا، إنّ عالم الرحم يختلف عن الدنيا، فالطفل لا يتنفس برئتيه ولا يأكل بفمه، ومتى ما ولد وخرج إلى هذه الدنيا فإنه لن يتمكن من أن يعيش لحظةً واحدةً كما كان يعيش في عالم الرحم، والعكس صحيحٌ، أي إن الطفل لو دخل الهواء إلى رئتيه وهو في عالم الرحم، أو دخل الطعام عبر فمه، فإنه سوف يموت كما أنّه لو لم يتنفس برئتيه متى خرج إلى الدنيا سوف يموت أيضاً!
إن هذا المثال يوضح لنا أنّ بين العالمين اختلافاً، فكذلك إنّ لكلّ واحد من عالمي الدنيا والآخرة قوانينه ونظمه، فما هي النقطة التي يختلف فيها العالمان؟
في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لمّا أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعاناً ورأيت فيها ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنةً من فضة وربما أمسكوا، فقلت لهم: ما لكم قد أمسكتم؟ قالوا: حتى تجيئنا النفقة، قلت: وما نفقتكم؟ قالوا: قول المؤمن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال بنينا وإذا سكت أمسكنا).

الأمر الثالث: أنواع الجزاء:
إن معرفة أنواع الجزاء له الدور الأساس في حلّ مشكلة التناسب في الجزاء الأخروي، فأنواع الجزاء ثلاثة:
1- الجزاء الاعتباري.
2- الجزاء التكويني الطبيعي.
3- الجزاء الذي هو تجسد للذنب.

1- الجزاء الاعتباري:
وإنما أسميناه اعتبارياً لأنّه عبارة عن مقررات جزائية، إما إلهية وإما بشرية.
فالحياة الاجتماعية للبشرية متقومة بأمرين:
أحدهما: عامل التربية: لأنّ التربية السليمة تخفض نسبة الجريمة.
وثانيهما: العقوبة العادلة للمتخلف.
ولا يكفي أحد هذين الأمرين بمفرده لبناء الحياة الاجتماعية العادلة، فالتربية مع عدم عقاب المجرم لا تكفي لمنع وقوع وتكرّر الفعل المخالف للقانون، ولذلك فإنّ الهدف من الجزاء الاعتباري أمران:
أولاً: الحيلولة دون تكرر الذنب من قبل المجرم أو غيره في عقوبة منبهة.
ثانياً: تسلية المظلوم وإدخال شيء من الطمأنينة إلى نفسه، لأن الطبيعة الإنسانية تقتضي التشفي للمظلوم عن عقاب الظالم.
ولكنّ هذا النوع من الجزاء لا يمكن تصوره في عالم الآخرة، لأنه ليس في ذلك العالم مجال لتكرّر الذنب حتى يكون الغرض من العقوبة الحيلولة دون تكرّر الذنب، كما أنّه لا مجال للتشفيّ في حقّ الله تعالى لا سيما في العقوبات التي ترجع إلى الحقوق الإلهية التي لا ترتبط بحقوق الناس.

2- الجزاء الوضعّي الطبيعيّ:
إن من أنواع الجزاء ما يرتبط بالذنب إرتباط المعلول بعلّته: أي إنه نتيجة طبيعية للذنب، وهو ما يسمى بالأثر الوضعي للذنب.
إن لبعض الأعمال التي يقوم بها الإنسان آثاراً ذاتية لا يمكن فكّ الإرتباط بينها وبين العمل، فمثلاً شرب السم لا بدّ أن يؤدي إلى الهلاك، فلا يمكن أن يقال: إن هذا المسكين قد قام بإرتكاب عملٍ صغيرٍ لم يستمر سوى لدقائق فكيف يعاقب بهذا العقاب؟ وكذا لو نُبِّه شخصٌ إلى عدم إلقاء نفسه من قمة الجبل بأنّه سوف يموت، فلا يحقّ له أن يعترض متسائلاً عن التناسب بين معاندته وهذا الجزاء الشاقّ؟
هكذا الذنوب فإنّ لبعضها آثاراً وضعيّةً ذاتيةً لا يمكن التفكيك بينها وبين العمل، فالإساءة للوالدين – مثلاً- لها عقوبة لا تنفك عنها، وينقل لنا التاريخ في هذا المجال أنّ المنتصر – الخليفة العباسي – سمع أباه المتوكّل يشتم السيدة الزهراء عليها السلام فسأل رجلاً يثق به عن جزاء من يفعل ذلك، فقال له: إن جزاءه القتل، ولكنه نبّهه على أنّ من يقتل أباه لا يعمّر طويلاً بعده، ولكنّ المنتصر صمّم على قتل والده، فقتله ولم يبقَ حياً بعده سوى عدّة أشهر.

3- الجزاء عين العمل (العذاب الأخروي):
إن الإرتباط بين العمل والجزاء الأخروي هو إرتباط تكويني، ولكنه أقوى من الإرتباط المتقدم، هو أعلى من إرتباط العلّة والمعلول والأثر والمؤثر ، إذ هو إرتباط الاتّحاد والعينية: أي إنّ الجزاء الأخروي هو عبارة عن تجسّم الأعمال التي قام بها الإنسان في الدنيا ويدل عليه قوله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=131
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 05 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29