• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : الآخر والخطاب الحواري الإسلامي .

الآخر والخطاب الحواري الإسلامي


الآخر والخطاب الحواري الإسلامي


السيد محمد علي جواد فضل الله  

 

مدخل في جدلية الخطاب : للخطاب والحوار أثر حاسم في منطلق أي دعوة وإستمراريتها وهدفيتها وتثميرها ، فالخطاب هو أداة الإتصال والترابط بين الأنا الداعوية والآخر ، فبقدر ما نحكم هذا الرابط متانة وتماسكاً وجاذبية بقدر ما نجذر الجدلية التفاعلية بين الأنا والآخر حتى نصل في مرحلة الثنائية التجاذبية نظرة ومنهجاً بين طرفي الحوار إلى مرحلة الإنصهار في رؤيوية وحدوية ما هي إلا رؤية الآنا الداعوية ، ومن هنا يستحيل قطبا الحوار إلى قطب واحد ، وهنا قمة الإيناع الخطابي الحواري ، ومنتهاه حيث التمايز ينقلب شفافية فتناغماً فتماه في منهجية فاردة ، ولكن هذا لا يعني على الإطلاق أن يكون الآخر فريسة للحوار والخطابة يسقط في شركة ، ويذوي معه فكره ورأيه ، بقدر ما يعني وفي حد ذاته نجاحاً مطلوباً للمنهج الحواري في بوتقة الصراع الفكري وما يحمله في طروحات وتوجهات تحدث هزة عنيفة في البنيوة الفكرية للآخر ما قبلت أن تمتد إلى لدنيته ونفسيته ، فإذا به كينوية أخرى وهوية مغايرة وما عنيت بالآخر إلا ذاك الذي يمثل وبالنسبة إلينا الحظ المقابل تماماً بحيث يسبح في مدار فكري مغاير ، له رأيه العقائدي ومنظومته المفهومية فيما ينظر فيه ويتعاطى معه مما لا يلتقي معنا في خطوطه العامة والخاصة .
وأما الأنا التي عنيت فهي المتمثلة في كل داعية يحمل مسؤولية الدعوة ويعي جليل أثرها ومدى شفافيتها وحساسيتها " الأنا " وبأختصار هي : الإنسان الرسالي الأمثل .
إلى هذا ، فهناك خطاب آخر مع من يتفق معنا في الحظ بما يمثل في الثوابت ولكن يختلف معنا من حيث المبنى المنهجي والرؤية إلى التفاصيل وكيفية التعاطي فيما هو متغير في خضم الواقع ، تبدلٌ فيما تفرضه ملابسات الحياة وحيثيات الوجود ، هنا يكون جوهر الإختلاف في تعددية القراءة والتأويل ولكن للسفر والنص الواحد ، والآخر هنا مختلف عنه في الأول ، وفي الطبيعي أن تختلف معه تركيبة الحوار وبناؤه ، آليه وهدفية .
فإذا كانت الحوارية الأولى تتخذ طابع المفاهيم المتوازية فيما هي العقيدة والعمل في الحظ السلوكي ، من حيث العلاقة مع الخالق والمجتمع والأفراد ، فإن الحوارية الثانية تتسم بالتقاطع والإلتقاء المفهومي لما بين المتحاورين في أصول يتمأسس عليها الخطاب ، وتدفع به في لجة الجدل الفكري ، ربما إلى تزاوج في هذ الثنائية النظرية المتضادة ، ليتولد من ثم ، وإنطلاقاً من ذلك ، فإن الباب هنا ليس موصداً ، بل هو منفتح على إحتمالات التلاقح والتزاوج الخلاّق والمولد لأفاق ورؤى على أنقاض أفكار مترنحة ، ولكنها ممهدة ، وهكذا ، فإننا نلاحظ أن للخطاب والحوار هنا ، توقاً وتوثباً دائماً نحو التفاعل للتكامل إلا للإختزال والقضم ، وذلك في لباس من التجديد والمرونة يعطيه ، أي للخطاب ، ديمومة وإستمرارية لما يتمتع به الخطاب من سيولة في اللفظ والمعنى ، أسلوباً ومضموناً ، تثري ذاتيته وتنفتح الروح فيها ، فبعدة إياها عن روحية الثبات والتقوقع ، وهكذا ، يكون للخطاب تحفز مستمر على إطلالات معرفية ، وشمولية رؤيوية نحو عالم جديدة تظل مجهولة لولا المرونة تلك .
واخلص لما تقدم إلى القول بأن الشخصانية الحوارية الأولية تختلف عنها ذو الثانية ، وهذا تحصيل طبيعي لوحدة المرتكزات والأسس فيها بخلاف الأولى ، مع أن الحوارية الأولي قد ثبت في الخطاب الدعوي نوعا من النضج والتنقيح المترافق مع تطور إيقاع الخطاب وشمولية طرحه ، فيخرج الفكر الداعوي من إنطوائية إحتياطية ـ مبررة أم غير مبررة ـ في تأمله للنص وتأويلاته ، وبالتالي في الروح العامة التي تحكمه ، ويستنتج ذلك تفتق في الذهنية الداعوية ، بحيث تغدو بحجم العالم طرحاً ومواكبة وشمولية .
إلى ما تقدم من عرض عام لطبيعة الجدل الحواري وهدفيته ، نريد أن نلج إلى تركيبة ونطلع على قواعده وأدبياته ن لنجد ما للأسلوب الحواري من اهمية بالغة ، تتوقف عليها معطياته ونتائجه سلباً أم إيجاباً .
الهيكلية التركيبية للخطاب الحواري : عندما نريد التعاطي مع أي موضوع أو مفهوم لا بد لنا لتحصيل المعرفة من الوقوف على عناصره الذاتية ، وخصائصه المميزة له بغية إصابة الفكر لموضوع التعاطي ، وبالتالي تجنب الزلل الرؤيوي فيه والإبتعداد عن الإرتجالية الهشة توصلاً للمارسة العقلانية المتزنة عليه .
ومن هنا ، فعندما نريد دراسة الشخصانية الحوراية لا بد لنا من معرفة مضمونها ومكوناتها وبالتالي ما هي الشروط المفترض توفرها ووجودها لكي يؤتي الحوار أُكُلَه وتثمر أهدافه وتينع ، وتأتي في مقدمة مكونات الحوار وعناصره الذاتان المتحاورتان والتي أطلقنا عليهما فيما سبق " الأنا الداعوية " و " الآخر " ممن يختلف معه في الحظ العقيدي أو التفكر والرؤية التأويلية على ما يؤمنان به معاً ، ولا بد لطرفي الحوار أن يعيشا التجرد في عملية الحوار من كل الأفكار المسبقة والمفاهيم الموروثة والدوافع الذاتية الخاصة أو الإجتماعية التي يفرضها العقل الجمعي للجماعة المنسجمة والمؤتلفة ، فيقدم كل منهما على الحوار وذهنه في نقاء تام من كل ما ذكر ، وهذا مما يمهد السبيل أمامه لتقبل ما يطرحه الآخر من أفكار ، وعدم الصعوبة في تقبلها لدراستها وتمحيصها ومعرفة قيمتها أمام الحجة والبرهان ،وإلا فلو كان الآخر منطلقاً من أفكار مسبقة لها طابع القداسة ، لا تقبل المساومة ولا تصغي للدليل ، فيغدو الحوار عندها جدلاً فيما تحكمه العاطفة والعصبية ، ويسوده العناد ، ولا يؤدي إلا إلى المكابرة والإفتراء ، ويعطي القرآن الكريم نماذج لأولئك المعاندين يقول تعالى ( ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين ) الأنعام/ 25. ،ويقول تعالى : ( ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانو ليؤمنوا إلاأن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ) الأنعام / 111 ، والآن سنقف عند الرابط والجامع بين المتخاطبين في العملية الحوارية وأعني به موضوع الحوار ، فإن توضيح الفكرة موضوع الحوار وتحديدها بشكل دقيق ، وجلاء الغموض والإلتباس عنها ، والإتفاق علىإعطاء المفاهيم الفضفاضة معاني محددة ودقيقة ، هذا كله مما يساعد على حصر موضوع النقاش وعدم التشتت في ضبابية المفاهيم المطروحة والمتداولة ، وبالتالي معرفة رأي الآخر منه بشكل شفاف ونقي ، إذا لا بد من الإحاطة بموضوع الحوار وإلا لغدت طبيعة الحوار طبيعة سجالية لا يفقه طرفاها ما يطرحانه من فكر ، وما يستقبلانه منه ، لإنتقاء الرؤية الواضحة والإحاطة الشاملة كل بفكرة وكذلك بفكر الآخر ، عندها يحتل الجهل مقام الفكر والعلم ، والمنفر من الكلام فكان المقرب منه والوديع والأحسن ، وهذا مما يجب على كل داع رسالي يريد تبليغ ما يحمل من فكر ويؤمن من حقيقة تجنبه حذر الوقوع في نقيض ما يصبو له ويهدف إليه من إثبات فكرته في عقول الآخرين وإدخاله في قلوبهم ، فعندها ، وبسبب هشاشتة المعرفية ، وإضطرابه الرؤيوي المفهومي فيما يحمل من أفكار ، وعدم قدرته على ربط أفكاره وتعضيدها بعضها بالبعض الآخر تاسيساً لوحدة فكرية متناغمة ومنسجمة ، تبدو أفكاره مترنحة حائرة قلقة أماماً يواجه من حجج وأدلة مضادة ،وبالتالي فهذا مما ينعكس وبشكل خطير ، على قيمة ما يحمل من فكرة ويؤمن به من عقيدة ، وعلى إنتشار الدعوة وسيرورتها في واقع الحياة ، ومن هنا ، فلا بد للداعي ، وخوفاً من الهزيمة الفكرية أن يعيش التعبئة ،المعرفية والفكرية ، والإشباع الوافر من الثقافة الإسلامية ، وكذلك من ثقافة الآخرين لأن معرفة فكر الغير بنقاط ضعفه وقوته مما يسهل التعاطي معه برؤية واضحة ، للمعرفة المسبقة لما يحمله في جعبته من أفكار ومفاهيم ، وبالتالي فالإنكشاف هذا للخصم مما يمهد الطريق لبيان التناقص والعثرات في بنائه الفكري والمعرفي وكذلك وبالمقابل ببيان القوة والتماسك فيما نواجه به م حجة وبراهين .
إلى ما تقدم من الكلام حول تركيبة الحوار وعناصره ، نحلص للكلام عن عنصر أساسي وحاسم في عملية الحوار ، ألا وهو أسلوب الحوار ، والأسلوب الحواري الذي يؤكد عليه القرآن الكريم ، هو أسلوب " التي هي احسن " أسلوب الكلمة الحسنة مقابل الكلمة السيئة ، أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة بعيداً عن كل الأقاويل والكلمات التي تشنف الآذان وتقفل القلوب وتحجر العقول وتصلبها ، فذلك ما يساعد أن تغدو لغة المشاعر والعواطف وما يتبعها من تشنجات ومشاحنات هي السائدة ، وهنا يفقد الحوار الغاية التي إنطلق من أجلها ووجد لتحقيقها وهي طي المسافات الرؤيوية والعقائدية الفاصلة بين المتحاورين وبالتالي خلق التقارب على أساس المشتركات والتقاطعات الأصلية ، ربما وصولاً إلى إنصهار رؤيوي واحد.
يقول تعالى : ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هوأعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) النحل / 125 .
ويقول تعالى ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) العنكبوت / 46 .
طريقة الحوار وكيفياته : بم أننا نملك واقعية الحق ، لما يمثل الإسلام من حقيقة مطلقة لا يعتريها باطل ولا يشوبها وهن ، وطالما أن حوارنا جدلية حق وباطل ، فإنه وإن تنازلنا فرضاً وتكتيكاً عن هذه الأحقية ،وذلك لما تقتضيه روحية الحوار وفاقاً للقاعدة الحوارية التي أطلقها القرآن الكريم ( وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) سبأ / 24 وفي المقابل تنازل الآخر عما يؤمن به كذلك ، وجذباً له لحلبة الجدل والحوار ، فإن هذا التنازل لا يغير بصدقية الحوار طالما أن شروطه الظاهرية ومحفزاته مؤمنة ومتوافرة إذ إن ثبات الحقيقة عندك لا بد إن توفرت الموضوعية المطلوبة من الآخر ـ أن تتجلى عنها معطيات الحوار ، وتنقشع عنها تدريجاً ضبابية الباطل وسرابيته ، لأن الباطل لا قرار له ، كي يعطي صاحبة متانة في الموقف ، ومندوحة في المناورة ، وهكذا ، عندما يكون خطابك مع الآخر تشكيكاً فيما تؤمنان به ، وصولاً إلى تعيين منشود ، فإنك تكون قد بذرت بذور الشك فيما يعتقده من افكار ويوؤمن به من قناعات إذن هناك عملية إخلائية تجريدية تكشح ككل الرواسب والخلفيات الفكرية المسبقة ، وتميط اللثام عن واقعية ذهنية قشيبة لا بد لنا من ممارستها ن هذا مما يمهد السبيل لإنطلاق الحوار في كل تفاصيل الموضوع المطروح للنقاش ، فلا محذورات ولا محرمات تأطره وتعيقه عن الحركة والتقدم ، وبهذا نكون قد سوينا التربة العقلية والنفسية بمستوى يجعلها تتقبل كل ما يطرح في الحوار مما يصمد أمام الحجة والبرهان ، إلى هذا ، فإن للداعية إتباع أسلوب خطابي آخر مع محاوره ، حاصلة ، أن رأي صحيح يحتمل الخطا ،ورأيك خاطىء يحتمل الصحة ـ وهنا يختلف الحوار عنه في الأول ، فإذا كان الشك فيما نعتقد هو المنطلق للحوار في الأول فالثبات في الإعتقاد وصحته مع فتح باب إحتمال الخطأ هو المنطلق للحوارية الثاني ، ومن هنا فيكون الآخر مطالباً بإعطاء الأدلة والحجج فيما ننكره ولا نقربه ، مما يعتقد ويعتنق ، وحينئذ نضعه في موقع المدافع بوضعيته في الحصينة ، وسلامة غير الماضية ، كيف لا ، والباطل والضلال مآلها إلى زهوق .
يقول تعالى : ( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) الإسراء / 81 ، إلى هذا فإن خصوصية هذا الأسلوب كونه يجعل الآخر فيموقع ينكشف له من خلاله وهن موقفه ، وعدم تماسك أدلته مقارنة مع محاور ، فينقلب على ذاته في حيرة مترددة بين تبني موقف المحاور أو التمييع والمراوغة والعناد
إلى ذلك ، فليس للداعي تلمس الباطل للوصول إلى الحق ، فهذا مما يخرج الجدل عن الغاية التي من أجلها وجد ، وهي إثبات الحق وكشح الباطل عنه ، فمن الطبيعي عندما تريد أن تجسد الفكرة الحقة في خطابك مع الآخر ، فعليك بالمقابل أن تزيل الفكرة الباطلة منه ، وإلا فإنه لا محالة سيجد الداعي نفسه متناقصة بين ما تريد إثباته وما تريد نفيه ، وهذا مما يجعله في موقف مرتبك ملتبس أمام ذاته والآخر ، فالإرتكاز للفكرة الباطلة في عملية الجدل والمحاورة ، قد تستلزم الإتكاء على أفكار باطلة أخرى ، مما يوسع من دائرة الباطل على حساب الحق المفترض كون الحوار مجسداً له وحده فقط ، أضف إلى ذلك فإن لهذا الأسلوب من التعاطي مخاطرة الحجة من حيث إنه يصير فتنة على الضعفاء من المؤمنين فتغتم قلوبهم لما يرون من ضعف الحق في يد الباطل ، وكذلك يصير فتنة على المبطلين من حيث إنهم يجعلون من ضعف حجة الداعي حجة على باطلهم ، وما تقدم مضمون ما جاء في الحديث عن الإمام الصادق "ع" الذي أعتبر فيه أن أمثال هذا الجدال محرم على شيعته ، ولذلك فقد روي عنه "ع" قوله ( لا تمزج الحق بالباطل ، وقليل الحق يغني عن كثير من الباطل ) .
وأخيراً ، لا بد للخطاب الإسلامي أن يتخفف من واقعة الدوغمائي الإملائي تجاه الآخرين ، وبالمقابل لا بد من تسلحه بالمحاور والجدال والإنفتاح المعرفي على كل الطروحات التي تملأ الواقع وتستغرق ذهنية العصر ، وذلك بغية التلاقيح وتفتق الذهنية على آليات ووسائل معرفية وعلمية جديدة ، والغوص بعيداً وبدون رهبة المحرمات ، في أصول الفكرة والإيمان والمعتقد .
 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=24
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2007 / 04 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16