• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : تجديد الفكر الديني .
                          • رقم العدد : العدد السابع عشر .

تجديد الفكر الديني

 

 


تجديد الفكر الديني

الشيخ ربيع سويدان

إنَّ الحديث عن تجديد الفكر الدِّيني والبحث عن عناصر التأصيل والمعاصرة يتطلب منا تشعيب البحث إلى عدَّة أقسام فنتكلم بدايةً عن أهمية التجديد ومعناه ودوره في واقعنا المعُاش ثم نتحدث عن آلياته وطرقه وأبرز أعلامه ونختم حديثنا حول انعكاس هذا المنهج على موروثنا الرِّوائي ونتاجنا الفقهي ومنهجنا الأصولي والاستنباطي فضلاً عن الحقول المعرفية الإسلامية الأخرى من علم كلام وفلسفة واجتماع وغيرها. فنقول بدايةً إنَّ التجديد حركة واعية طموحة للنهوض بالحاضر والتأثير في المستقبل وهو عبارة عن الإرادة العازمة على صنع التغيير لا هوساً به بل لترسُّخ الاعتقاد بجدواه وهو لا يتأتى إلا من ثقافة متجذِّرة في النفوس، لا تعرف الكلل والملل ولا تنام على عضِّ الجراح. وغياب التجديد ما هو إلاَّ جزء من ثقافة مأزومة تتصارع فيما بينها ولا تلبث أن تندثر، ولذلك ينبغي علينا أن نبقى في حركة اجتهاد متواصلة على كافة الصُعُد والميادين، ليس في علوم الشريعة وحدها فحسب بل في كل حقول المعرفة ومناحي الحياة وضرورات العصر، ولذلك نرى وللأسف أنَّ مناهجنا التعليمية والتربوية قائمة على التلقين لا على الاجتهاد وعلى الاستتباع لا الإبداع ولذلك لا بدَّ أن نتوقع تعثر حركة الاجتهاد ومساعي التجديد وإن شهد القرن العشرون جهوداً تجديدية فردية كالتجديد في علم الكلام الذي ظهر بقوة عند محمد عبده في كتابه التوحيد ومحمد إقبال في تجديد التفكير الديني في الإسلام ومحمد باقر الصدر في الأسس المنطقية للاستقراء، وعلى مستوى المنهج في الفقه عند علال الفاسي والطَّاهر بن عاشور فى فقه المقاصد، ولا يمكننا أن نغفل جهود جمال الدِّين الأفغاني والكواكبي والنائيني والمظفر محمد رضا والحكيم محمد تقي ومطهري وشريعتي وغيرهم ممّا لا يتسع المقام لاستعراض أسمائهم، ولكن لم تصل هذه الجهود الفردية المباركة والنتاجات المهمة إلى مستوى تأسيس مدرسة قادرة على مواصلة الجهد وتطوير المنتج وذلك عائدٌ بالدرجة الأولى إلى الظروف الموضوعية المحيطة بها؛ فالمؤسسة الدِّينية لم تكن قادرة على مواكبة هذه الحركة بفعل انغلاقها على نفسها وبعدها عن مسرح الحراك الفكري العالمي، ولكن هذه الجهود ما كانت لترى النور، لولا الانفتاح الواعي على نتاج الفكر البشري الحديث والمعاصر وهو الذي تحدّث عنه الشهيد الصدر تحت عنوان التجربة البشريَّة، التي جعلها منطلقاً للعودة من جديد إلى نصوص الشريعة للخروج بالفهم الجديد والتصور القائم على المعطيات العلمية المعاصرة ولذلك استطاع الاجتهاد الحديث والمعاصر فتح الأبواب أمام تصورات جديدة وقابلة للتجدُّد بدورها على المستويين الفقهي والكلامي والأصولي. لذلك إنّ خلق فرص التجديد الذي يتصف بالتواصلية والتكاملية تجديد يطال كل عناصر المعرفة هو مهمة كبيرة ملقاة على عواتقنا جميعاً وهذه المهمة لا تنهض بها جهود فردية متفرقة مهما كثرت بل لا بدّ من مشروع متكامل ومتواصل حتى يتمكن من إرساء عناصر جديدة للثقافة الإسلامية ومنطلقات أخرى للفكر الإسلامي فيجب أن نتوجه إلى معاقل إنتاج الفكر الدِّيني للقول إنّ مهمة علماء الدِّين في كل عصر ليست حماية التراث الذي أنتجه السلف بإبداعاتهم وأفكارهم حتى يصبح الدِّين ما قدمه السلف من تفسير له، بل نتعاطى مع هذا التراث بحسٍ نقدي وروح منفتحة توظف ما يصلح منه في معتركنا الفكري الراهن ونترك الآخر الذي إن تمسكنا به يصبح عبئاً ثقيلاً علينا.
فالفرق شاسع بين الإتباع والتقليد وبين الإبداع والتجديد، فالفكر الإسلامي منذ عهد الانحطاط مُني بذهنية التقليد والاتباع فلم يتجاوز الخلف حدود الدوائر التي رسمها السَّلف فأسقطوا عامل الزمان والمكان، وتجمد الإبداع وشهد ضموراً وتدهوراً حضارياً شاملاً صاحبه الانحطاط السياسي والثقافي لذلك نحن بحاجة إلى ثورة في عالم الفكر تعيد تأصيل المفاهيم والقيم والأفكار الإسلامية بطريقة علمية ومعاصرة تستطيع أن تواكب حركة العصر وروح الحياة في كل زمان ومكان.
فعلى صعيد الفقه مثلاً لا بد من وضع الأسس العلمية المتينة لفقهٍ حيَّ يتجاوز المنحى الفقهي الفردي إلى الفقه المجتمعي فنضع التقنين الفقهي لقضايا المجتمع والدولة وهذا الاتجاه لا يتحقق إلاّ بالاستناد إلى رؤية نظرية شمولية في كل نواحي الفكر والحياة ولذلك نجد أن السيد الصدر مثلاً قد أسس للنظرية الإسلامية الشاملة لكل الميادين وذلك من خلال مشروعه الفقهي والتنظيري السبّاق في مجاله وهو كتاب البنك اللاربوي في الإسلام وعلى مستوى نظرية المعرفة وضع مشروعه الكبير في الأسس المنطقية للاستقراء فكانت نظريته المعرفية أحوج ما نكون إليها للخروج من حدود المنطق الأرسطي التقليدي ولذلك استطعنا تطبيق منهج الاستقراء الصدري في علم الكلام، للبرهنة على أصول الدِّين بمنهج جديد يمتاز على المنهج التقليدي القائم على أسس المنطق الأرسطي وتمكنّا من خلال ذلك أن نقتحم على المذهب التجريبي أسواره لننفخ فيه الروح ونثبت أنه قادرٌ على أن يتسلّح بالسلاح العلمي الدقيق الذي يؤهله ليس فقط إلى بلوغ المعرفة اليقينية في حدود التجربة والحس بل إلى المعرفة اليقينية في القضايا الميتافيريقية.
وعلى أساس هذا المنهج يمكننا إثبات وجود الله تعالى وفق المنهج العلمي الاستقرائي وقواعده وأدواته، فبعد جمع الملاحظات والظواهر، وتقديم الفرضيات الممكنة في تفسير هذه الظواهر ثمّ تقييم هذه الفرضيات على ضوء وحساب الاحتمالات نصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أن للكون صانعاً حكيماً بدلالة كلِّ ما في الكون من آيات الإتساق والتدبير ثم نأتي إلى المسائل الحيوية المستحدثة في المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فلا يمكن أن تعالج عن طريق الالتفاف على موضوعاتها من أجل البحث عن سلوك مبرر حيالها إننا نحتاج إلى استيعاب دقيق وشامل لموضوعاتها ولما لهذه الموضوعات  من علائق معقدة بموضوعات أخرى تفرض نفسها على الواقع وهذا الاستيعاب لا يمكن تحصيله دون تحصيل المعرفة الجيّدة بإنجازات العلوم الإنسانية الحديثة، والأسس النظرية التي تقوم عليها هذه المعاملات المستجدة، ولمّا لم يتوفر الفقه التقليدي على هذا الشرط الأساسي فإنه لا يستطيع أن يتجاوز تلك الأنساق الفردية المحدودة كما لا يستطيع أن يقدّم حلوله المستحدثة على نحو الاستيعاب للقضية وموضوعها فيلجأ الفقيه مرغماً إلى الفتاوى الشرطية «إذا كان الموضوع كذا فحكمه كذا» مع أن المكلّف البسيط يرجع إلى الفقيه ليرفع عنه التحير والشك ولكن جواب الفقيه يوقعه في مأزق أكبر بحجَّة أن الفقيه دوره تشخيص الأحكام لا تحديد الموضوعات فلقد ترك هذا الأسلوب للفقيه أثره الكبير في أفق الفقه ومداه.
ولذلك حصل انكماش في الهدف الذي يصبو الفقه إليه فأهملت وغابت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي، فاتّجه الفقيه إلى الفرد وحده وحاجاته الخاصة، تاركاً المجتمع وحاجاته إلى تنظيم الحياة الاجتماعية، ولعلّ أول انحسار تواجهه عملية الاجتهاد في الإسلام هو ما نتج عن تقليص مساحة الفقه، وقصره على الأحكام الشرعيّة التي تتركز حول الأفراد في عباداتهم ومعاملاتهم، المبدأ الذي لا ينسجم مع شمول الإسلام، وانفتاح الفقه على جوانب الحياة المختلفة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وتربوياً.
الاجتهاد على الصعيد الشيعي:
فعلى الصعيد الشيعي فإنّ حركة الاجتهاد قد قاست منذ وُلدت عزلاً سياسياً عن المجالات الاجتماعية للفقه الإسلامي وهذا العزل السياسي أدّى تدريجياً إلى تقليص نطاق الهدف الذي تعمل لحسابه حركة الاجتهاد، وتعمّق مع الزمن شعورها بأن مجالها الوحيد الذي يمكن أن تنعكس عليه في واقع الحياة وتستهدفه هو مجال التطبيق الفردي، وهكذا ارتبط الاجتهاد بصورة الفرد المسلم في ذهن الفقيه لا بصورة المجتمع المسلم وهناك أمثلة على ما نقول توضح كيف انعكست الرؤية الفردية للفقهاء على مناهجهم وآلياتهم الاستنباطية ففي نظام الصيرفة القائم على أساس الرِّبا، مثلاً بوصفه جزءاً من الواقع الاجتماعي المُعاش يجعل الفقيه يحس بأنَّ الفرد المسلم يعاني مشكلة تحديد موقفه من التعامل مع مصارف الرِّبا، ويتجه البحث عندئذ لحل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تقديم تفسير مشروع للواقع المعاش، بدلاً من الإحساس بأنَّ نظام الصيرفة الربوي يعتبر مشكلة في حياة الجماعة ككلٍ حتى بعد أن يقدم التفسير المشروع للواقع المعاش من زاوية الفرد وليس ذلك إلاّ لأنّ ذهن الفقيه في عملية الاستنباط  قد استحضر صورة الفرد والمشكلة بالقدر الذي يرتبط به بما هو فرد ولم تنحصر إشكالية الانكماش الفقهي في ترسيخ الفردية للفقه والشريعة كُلّها وحسب، وإنما انعكست مرّة أخرى في ظاهرة سلبية تجاه الشريعة التي جاءت لتنظيم الحياة الاجتماعية بأسرها وهو عامل الذاتية في شخص الفقيه نفسه فالشهيد مرتضى مطهّري يرى أنه صحيح أنّ عمل الفقيه هو استنباط الأحكام إلاّ أن معرفته وإحاطته وطراز نظرته إلى العالم، تؤثر تأثيراً كبيراً في فتاواه فإذا افترضنا فقيهاً دائم الإنزواء في بيته أو مدرسته، ثم نقارنه بفقيهٍ آخر يواكب الحياة، نجد أن كليهما يرجعان إلى الأدلة الشرعية لاستنباط الحكم، ولكن كلاً منهم يستنبط حكمه على أساس وجهة نظره الخاصة وهذه آثار ظاهرة في فتاوى الفقهاء، فلو أجرينا مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرفنا على ظروف  حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرفنا كيف أن المنظورات الفكريَّة لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تؤثر في فتاواه، بحيث أن فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب وفتوى الأعجمي تفوح منها رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدينة، ولذلك نجد أنَّ الفقيه يحاول دمج النص في إطار خاصٍ قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش وقد لا يكون فتأتي المحاولة هنا لفهم النص ضمن ذلك الإطار المعيَّن، فإذا وجد النص لا ينسجم مع هذا الإطار  أهمله إضافة إلى أنه يجب أن لا يجرّد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه، دون مبرر موضوعي، وهذه المحاولة كثيراً ما ترتكب في نوع خاص من الأدلة الشرعية، وهو السُّنّة التقريرية أي سكوت النبيّP أو الإمامQ عن عملٍ معيّنٍ يقع على مرأى منه ومسمع سكوتاً يكشف عن سماحه به وعن جوازه في الإسلام وعلى المجتهد المجدِّد عدم اتخاذ موقف مُسبق تجاه النص كيلا يكون للوضع النفسي الذي تفترضه ذاتية الممارس لعملية الفهم والاستنباط أي دور في ذلك بل موضوعية البحث تكون هي الطريق للوصول إلى النتيجة السليمة لذلك نجد أن الفقيه لا يستنبط أحكامه من خلال أدوات الاستنباط وحدها، بل تتدخل في ذلك بعض الأحيان شعورياً أو لا شعورياً ذات الفقيه نفسه ورؤيته للحياة وتوجهاته العقيدية واستيعابه لمعادلات الحياة، فكل هذه عوامل تكمن وراء اختلاف الفقهاء وعلى ضوء هذا يصبح من المعقول ومن المحتمل أن توجد لدى كلِّ مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي وإن كان معذوراً فيها ويُصبح من المعقول أيضاً أن يكون واقع التشريع الإسلامي في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزعاً هنا وهناك وبنسب متفاوتة في آراء المجتهدين فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة واقعاً وصواب في أخرى ويكون الآخر على العكس ولهذا يجب أن نفرِّق بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبيّP وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معيّن خلال ممارسته للنصوص، ولذلك نحن نرى أن الفقيه المبدع هو الذي عاش لمجتمعه وأعطاه عقله وروحه وعاش الشريعة ووعاها وتذوقها، فبذلك سيدخل الفقه أفقاً جديداً هو في غاية الأهمية عبر الفهم الاجتماعي للنّصِّ هذا الفهم الذي يُمثّل ذهنية موحدة وارتكاز تشريعي عام يستطيع الفقيه من خلاله أن يحكم بأن الشي‏ء الذي يناسب أن يكون موضوعاً للنص هو أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظية للنّص وهذا لا يختلف من حيث المفهوم عن أسلوب الاستدلال المتفق عليه لدى الفقهاء تحت عنوان مناسبات الحكم والموضوع، فهذا الاصطلاح الأخير هو أيضاً تعبير آخر عن ذهنية موحدة وارتكاز تشريعي عام يحكم الفقيه على ضوئه، فالمبررات للاعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النّص هو نفس مبدأ حجية الظهور لأنّ هذا الارتكاز يكسب النص ظهوراً في المعنى الذي يتفق معه، وهذا الظهور حجة لدى العقلاء كالظهور اللغوي ولا بد من التمييز بين هذا الأسلوب وبين القياس، فهما وإن كانا يشتركان في تعميم الحكم، إلا أن الأمر هنا ليس من قبيل قياس غير المنصوص على المنصوص، بل راجعٌ إلى الاستناد إلى ظهور عام يشكِّل قرينة على أن ما ذكر في النَّص إنّما جاء على سبيل المثال لا الحصر أو لأسباب رافقته فجعلته موضوعاً للحكم وعلى هذا يكون الدّليل نفسه ظاهراً في الحكم العام أو الحكم على مفردات أخرى تحمل في ظرف ما نفس تلك الخصوصيات والأسباب التي جعلت المثال السابق محلاً للنّص خصوصاً أن الروايات  الواصلة إلينا نُقلت لنا بالمعنى ولذلك وإن كان اللفظ فيها ثابتاً إلاّ أنّ مضمونها يمكن أن يكون متحركاً شاملاً لكل عصر ومصر.
لذلك كُلِّه نقول إن ثمة قوانين وتشريعات في الإسلام لا ترتبط بالفطرة الإنسانية وطبيعتها، بل بالمزاج الخاص للمجتمع ومذاقه العام الذي يحيا الفرد في أجوائه والخصوصيات التي تحيط به، فهذه العوامل بمجموعها هي التي تملي التشريعات والقوانين وليست قليلة تلك التشريعات التي أصبحت متحجرة بفعل تطور الزمن وتغير الظروف وما لم تستجب لنداء التجدُّد فإنّها سوف تحجر على الإنسان المسلم دخول عالم الحضارة والمدنية. نعم إن جملة من القوانين والأحكام كرفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ، وقاعدة البيِّنة على من أدّعى واليمين على من أنكر وقاعدة لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها، والصُّلح خير والناس في سعة ما لا يعلمون، ولا ضرر ولا ضرار، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز، وسلسلة طويلة من هذه الأحكام والقواعد كحرمة القتل والسرقة والغش والكذب والخيانة ووجوب العدل والصدق والأمانة وغيرها من قوانين الشريعة الغرّاء هذه الأحكام من المستحيل أن تطالها يد التغيير والتحول أو تكون موضوعاً للاجتهاد، وإن تقلبت على الإنسان الصروف وتوالت عليه القرون لجهة أن هذه الأحكام تمسّ فطرته وتعنى بخصوصيته، فهي لهذا السبب تعد أحكاماً مسلماً بها لا تحرِّكها رياح التغيير التي تهب من بعض العلوم ومثل هذه الأحكام كمثل القوانين الفيزيائية على سبيل المثال إن الجسم يتمدّد بالحرارة، أو إنّ الجسم يحتاج إلى حيِّز لأنه ثلاثي الأبعاد، طول وعرض وارتفاع فهذه قوانين ثابتة لا تقبل التغيير، ومثلها الأحكام الشرعية التي ذكرنا فهي باقية إلى يوم يبعثون ولذلك هناك من يعتقد بأنه إذا دخل التجدّد على الفقه سيحلّل حرام الدِّين ويحرِّم حلاله.
وهو ما لا تعترف به النصوص المعتبرة ووردت في تفنيده روايات وأحاديث كثيرة عن المعصومينR من قبيل أن حلال محمدP حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة، ونلاحظ هنا أن قراءتهم لهذه الأحاديث هي قراءة خاطئة لا تستند إلى أساس صحيح. فالتجدُّد الفقهي لا يعني أبداً تحليل الحرام وتحريم الحلال.
مفهوما الزمان والمكان:
ومن أجل الوقوف على المعنى الحقيقي للتجدُّد نجد لزاماً أن نبسط الكلام حول مفهوم الزمان والمكان والتجدُّد الفقهي والسكون والتغيير في الفقه دفعاً لكل إشكالٍ وشبهة، فنقول إن مفهوم الزمان ليس المقصود به الأيام والليالي والشهور والسنين وانقضاءها، أو البحث الفلسفي في ماهية كلٍ منها، إذ لا شأن للاجتهاد والفقه بذلك على الإطلاق، بل إنّ الهدف شي‏ء مختلف تماماً، فالزمان والمكان في منظور المجتهد هما الوعاءان اللذان يحتويان المجتمعات الإنسانية، والمراد بهما مجموع الظروف الطبيعية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحيط بكل مجتمع، والتطور الذي يحرزه في مجال العلوم والصناعات التقنية، والغاية التي ينشدها هذا التحول والتجدد الفقهي هو رفع الاستفهامات وحلِّ المشاكل والاستجابة للمتطلبات، فيفتح الفقه المتجدِّد آفاق التطور، ويستمر فقهنا الغنيّ الثري في عطائه بوصفه قانوناً مثالياً مستشرفاً للمستقبل وسباقاً بحسب نبض المجتمع ويسير على وقعه ليأخذ بيده إلى ذرى الحضارة والتمدن بخطى متسارعة وواثقة. وللمكان أيضاً موقع متميز في تجدّدية الفقه ونضارته، ونعني به المحيط أو البيئة التي يحيا فيها الإنسان، ولا جدال في أهمية هذا العنصر وأثره في تطور الفقه وحركته الصاعدة. والبيئة هي العناصر المكوِّنة للمجتمع البشري، فالاجتهاد التنويري في حقيقة الأمر مهارة وفن، وهو ملكة قدسية تنهل من فيض السماء وتعضدها قدرة الاستيعاب، وصفاء الذهن، أو تتأثر عن طريق الجهد والمثابرة والتجربة الطويلة المستمرة ولذلك إنّ إحدى المزايا المهمة للفقه الإسلامي الأصيل هي النظرة الواقعية، فالمصالح الواقعية، لم تغب عن أحكام الشريعة في أدق تفاصيلها وأعمق جزئياتها، وليس أدلّ على ذلك من العبارة الفقهية الشهيرة بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية لذلك فإن الفقيه المحيط بشؤون عصره هو الذي يمتلك رؤية فقهية أكثر مساساً بالمصالح اليومية ويخوض في المصادر الفقهية والمنابع الأولى للفقه بعين الواقعية والعملية، وهو ما يصطلح عليه الفقهاء بشمِّ الفقاهة. من هنا فإن الفقيه هو المُلمُّ بجوانب الشريعة إلماماً تاماً، والمحيط بملاكات الأحكام الشرعية باستثناء العبادات بصورة جيدة ولا بأس هنا أن نستحضر كشاهد على ما نقول كلاماً للمحقق الكبير الميرزا النائيني{ في كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملّة) حيث يقول: «اعلم أنّ كل الوظائف المتعلقة بتنظيم شؤون البلد والمحافظة عليه وتدبير أمور وشؤون الشعب سواء كانت أحكاماً أولية متكفلة لأصل القوانين العملية الراجعة للوظائف النوعية، أو ثانوية متضمنة عقوبات مترتبة على مخالفة الأحكام الأولية لا تخرج عن هذين القسمين، لأنها بالضرورة إما أن تكون أحكاماً نص عليها الشرع فهي وظائف عملية ثابتة في الشرع، أو لم ينص عليها الشرع فهي موكولة إلى نظر الوليّ لعدم اندراجها تحت ضابط خاص، وبالتالي عدم تعيين الوظيفة العملية فيها. والقسم الأول لا يختلف باختلاف الأعصار وتغير الأمصار ولا يجري فيه غير التعبد بمنصوصه الشرعي إلى قيام الساعة، ولا يتصور فيه أي وضع آخر ووظيفة أخرى، بينما يكون القسم الثاني تابعاً لمصالح الزمان ومقتضياته، ويختلف باختلاف الزمان والمكان، وهو موكول لنظر النائب الخاص للإمامQ وكذا النوّاب العموميين أي الفقهاء.
إلى هنا نقلنا كلام النائيني بطوله لنقول إننا نرى أن النبيP نفسه نجد تشريعاته التي ملأ بها منطقة الفراغ، بوصفه ولي الأمر ليست أحكاماً دائمية بطبيعتها، لأنها لم تصدر من النبيP بوصفه مبلغاً للأحكام العامة الثابتة بل باعتباره حاكماً وولياً للمسلمين، فهي إذن لا تعتبر جزءاً ثابتاً ولكنها تلقي ضوءاً إلى حدِّ كبير على عملية ملىء الفراغ التي يجب أن تمارس في كل حين وفقاً للظروف الموضوعية. نعم نحن لا ننكر أنه كان للعزلة والحرمان اللذين أثقلا كاهل الشيعة أثرهما السلبي المباشر على الفقه الإمامي الذي ظلَّ حبيس عقول الفقهاء العظام، في محيط المدرسة والبيت فحيل دون انطلاقه إلى فضاءات المجتمع الواسعة لئلا ينصرف إلى مهمته الرئيسية، ولكن هذا الانكماش الموضوعي يزول، والامتداد العمودي الذي يعبر عن الدرجة العالية من الدقة التي وصل إليها الفكر العلمي يتحول في سيره إلى الامتداد الأفقي ليستوعب كل مجالات الحياة، وسوف يتحول الاتجاه نحو تبرير التعامل مع الواقع الفاسد إلى اتجاه جهادي نحو تغيير الواقع الفاسد وتقديم البديل الفكري الكامل عنه من وجهة نظر الإسلام وسوف يُمحى من مفهوم حركة الاجتهاد أي تصوُّر ضيِّق للشريعة ويزول عن الذهنية الفقهية وتزول كل آثاره وانعكاساته على البحث الفقهي الأصولي.
ولذلك وعلى الرغم من قدرة العقل مستقلاً على استنباط الأحكام الشرعية بالاستناد إلى القواعد الأصولية، إلاّ أنّ هذا لم يحدث في أي مرحلة من مراحل الفقه الشيعي الاجتهادي وأملنا أن تبعث الروح من جديد في الدليل العقلي ليفجر طاقاته الكامنة تجدداً وحيوية وارتقاء، وذلك  بفضل جهود العلماء والفقهاء الذين تهفو قلوبهم إلى فقه شيعي حاضر في حياة الأمة، ناهض بمسؤولياته الاجتماعية صغيرة كانت أم كبيرة، حتى لا تبقى مسألة عالقة تنتظر الحل، وليمارس الفقيه مسؤوليته كقائد لمجتمع الثورة في مسيرة الحياة والصعود، ويعالج الانسدادات التي تخنق طريق التقدم على مختلف الأصعدة، حتى لا تعود هناك حاجة إلى الاقتباس من القوانين والتشريعات الأجنبية الاستعمارية لذلك فالحذر من أن يندفع الإنسان المسلم والمثقف المسلم نحو الفلسفات والمرجعيات الأوروبية، التي كانت تتحرك بسرعة في العالم متحدية الحواجز والمسافات، ومهيمنة على مناخ العصر، ومؤثرة على اتجاهات المعرفة الإنسانية، وكونها تدعي دون غيرها امتلاك مفاتيح الحداثة والتمدّن والتقدم، ولهذا فقد استطاعت هذه الفلسفات أن تؤثر بقوة وعلى نطاق واسع في العالم، وأنا أعتقد أنّ أوروبا وإن نجحت في إقامة نظم مثالية في العصر الحديث، إلاّ أنّ الحقيقة التي يكشفها العقل المحض أنه لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق تلك الجذوة التي يستطيع الدِّين المتجدّد وحده أن يشعلها. وبناءً عليه لا بدّ للفكر الإسلامي أن يتخطى فقه الأحكام إلى فقه النظريات وهي المهمة الأساسية في فقه الدِّين، فليس من الصحيح أن ينحصر جهد الفقيه في استنباط أحكام جزئية متناثرة، بل لا بدّ من إدراك حقيقة أنَّ الأحكام الجزئية المتناثرة في موضوع واحد إنما ترتبط بنظرية أساسية يتبناها الإسلام حول هذا الموضوع، فلا بدّ إذن من اتجاه موضوعي في الفقه يتخطى فقه الأحكام الجزئية إلى اكتشاف النظرة الإسلامية في الموضوع، ولا بد أن يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ليصل إلى النظريات الأساسية، لا أن يكتفي بالبناءات العلويّة والتشريعات التفصيلية، بل ينفذ من خلال هذه البناءات العلوية إلى النظريات الأساسية والتصورات الرئيسية التي تمثل وجهة نظر الإسلام، لأننا نعلم أنّ كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بمثل تلك النظريات والتصورات فإن لذلك هناك فارقاً أساسياً بين عملية خلق وتكوين النظرية، وبين عملية اكتشاف النظرية ففي الحالة الأولى يمارس المفكر والمجتهد دوره مباشرة في وضع النظريات العامة، ثم يجعل منها أساساً لبحوث ثانوية وأبنية علوية من القوانين التي ترتكز عليها وأما في الحالة الثانية، والتي تنحصر فيها مهمة المفكر والمجدّد الإسلامي، فإن العملية تكون معكوسة فتبدأ من البناء العُلوي، من القوانين والأحكام، وصولاً إلى القاعدة النظرية، فتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها إلى الظفر بصورة محددة للنظرية. من هنا عندما نتناول مجموعة من أحكام الإسلام المندرجة تحت موضوع معيّن، لنجتازها إلى ما هو أعمق، أي إلى القواعد الأساسية التي تشكل النظرية الإسلامية، يجب أن لا نكتفي بعرض أو فحص كلُّ واحد من تلك الأحكام بصورة منعزلة ومستقلة عن الأحكام الأخرى، لأنّ طريقة العزل هذه إنما تنسجم مع بحث على مستوى القانون المدني في أحكام الشريعة، أما إذا كان الهدف هو عملية اكتشاف النظرية أو المذهب الإسلامي فلا بد أن ننجز عملية تركيب بين تلك المفردات، أي ندرس كلَّ واحدٍ منها بوصفه جزءاً من كُل، وجانباً من صيغة عامة مترابطة لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشع من خلال الكل، أو من خلال المركب وتصلح لتفسيره وتبريره، ولذلك إن عملية استنباط كهذه تتطلب بالضرورة منهجاً إسلامياً واعياً للعناصر الثابتة، وإدراكاً معمقاً مؤشراتها ودلالاتها العامة أي معرفة معمقة بروح الشريعة وأهدافها ومقاصدها واستيعاباً شاملاً لطبيعة المرحلة وشروطها وفهمها فقهياً قانونياً لحدود صلاحيات الحاكم الشرعي والمساحات التي يمكنه التحرك خلالها لمل‏ء منطقة الفراغ التشريعي من خلال استنباط الأحكام التي تتطلبها طبيعة المرحلة على ضوء أهداف الشريعة ودلالاتها العامة. ومن هنا فإن الحق في فهم الشريعة وتطبيقاتها ليس حكراً على الفقيه المختص بالمعنى التقليدي، فهناك إلى جانب الفقه معارف أساسية في عملية كهذه قد يتوفر عليها آخرون من أصحاب التخصصات الأخرى ولتتحقق هذه المهمة لا بدّ أن يتصدى لها مفكرون إسلاميون واعون ويكونون في نفس الوقت فقهاء مبدعون. فعلى الفقيه المجدِّد أن يضطلع بمعرفة دقيقة وواسعة بثمرات العلوم الإنسانية الحديثة بل يشترط دخول ثمرات هذه العلوم في تكوين الرؤية الفقهية السليمة ، أما الوقوف عند أدوات الاستنباط المتعارفة في الفقه التقليدي فلا ينتج أكثر من فتاوى تجزيئية لا يمكن أن تشكل جزءاً من الحل في المشكلة الاجتماعية ناهيك عن بعدها عن دائرة التصور النظري المحيط بالموضوع. فتحرك الفتوى باتجاه تحقيق العدالة هو المعيار لتشخيص صحة هذه الفتوى خلافاً لمن يرى أن اعتبار الفتاوى معيار لتشخيص العدل، فالفقيه المتنور هو الذي يفتح أبواب الفقه أمام المزيد من أدوات الاستنباط لكي ينقذ الفقه ويصونه من التخبط في الاعتبارات والافتراضات الذهنية الخالصة والمنقطعة عن واقع الحياة فلقد أنتجت المعارف البشرية العلمية الكثير مما لا يمكن إغفاله عند مزاولة إستنباط شي‏ء من الأحكام التي تمس وقائع الحياة المستجدة، ولذلك تجد أن أهم ما يتميز به منهج الأفغاني جمال الدين في العروة الوثقى هو بيان سنن الله تعالى في الخلق ونظام الاجتماع البشري وأسباب ترقي الأمم وتدينها وبيان أن الإسلام دين سيادة وسلطان وجمع بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وإنّ المسلمين ليس لهم جنسية إلاّ دينهم، فهم أخوة لا يجوز أن يفرقهم نسب ولا لغة ولا حكومة وعليه يمكن بحق أن يعد السيد جمال الدِّين الأفغاني رائد التجديد في مناهج التفسير القرآني كما كان رائداً في منهجه الإصلاحي كله فلقد رأى بوضوح أن تلك المناهج انصرفت عن الأخذ بروح القرآن والعمل بمعانيه ومضامينه إلى الاشتغال بألفاظه وإعرابه، فحملت ألفاظاً لفظية ومناقشات فرضية واستنتاجات ليست في مصلحة البشر ولا هي من وسائل هدايتهم إلى الإيمان به. فهذه المسألة الحيوية التي أصبحت بمستوى ما قلقاً يساور أهل الوعي بفقه الحياة، ففقهاء كثيرون يساورهم القلق ويسيرون على الخط نفسه في إثارة الأسئلة ضد هذه الرؤية التي لا تعيش أبعاد النص  ومقاصده ويتساءلون أنه لماذا لا نتدبر القرآن أولاً حتى نعرف أبعاد التكاليف التي أناطها الإسلام بأعناقنا ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش فيها والأساليب التي يتبعها خصومنا لكسب معاركهم ضدّنا.
من هنا نرى لزاماً علينا القول إن الإلتزام بالنص لا يُلغي الاجتهاد المتحرك فنحن نعلم أن الإسلام يحتوي اجتهادات مختلفة بالرغم من قدسية النص ففي كتاب الله تعالى أن النص القرآني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما يعني أن الكتاب إلهي في نصّه ولكنه اجتهادي في اجتهاد المفكرين والمفسرين ومن هنا فإن التزام المسلم بالنص لا يُلغي اجتهاده وفكره ولذلك نجد أن اجتهاداً ما في الإسلام قد يلتقي مع اجتهاد هناك في الحداثة وكم نجد من اجتهادات كثيرة فرضت نفسها على الواقع ربما ثار بعض الناس عليها، وربما قبلها بعضهم، ولكنها بقيت إسلامية في معنى سعة الاجتهاد في الإسلام، لا سيّما عندما لا يكون الاجتهاد مزاجياً، بل يكون علمياً موضوعياً يخضع لقواعد الاجتهاد ولذلك الإسلام عندما يوجه الناس إلى العلم وإلى صنع القوة، فهو يعطي المنهج ويحرك بعض التشريعات، ويشرّع الباب واسعاً أمام الجهد الإنساني، ولكن المشكلة تتمحور حول ما نعيشه من تخلف وجمود، ويكفي ما أطلقناه من كلام دائم عن أمجاد المسلمين القديمة الذي لا يدل إلاّ على محاولة لوضع أنفسنا في حالة مشرفة أمام الغرب، فالمشكلة هي في هذا الجمود الفكري عند المسلمين مع أن الإسلام وجد لكل زمان ومكان ولذلك نحن لا ندعو إلى إسلام جديد يتوافق مع الغرب كما وقع في ذلك  عدد من الكتّاب والمفكرين الذين ينسبون لأنفسهم صفة التنور والحداثة ويرمون الإسلام القائم بالجهل والتخلف وأنه هو سبب انحطاط الأمة وكل مشكلاتها، فهذه شطحات وترهات لا حاجة لإتعاب النفس في الردِّ عليها. نعم نحن نريد أن نفهم إسلامنا سواء توافق مع الآخرين أم لم يتوافق، ندعو إلى الإسلام بعناصره الحقيقية التي تلتقي أو تختلف مع الحداثة لذلك نحن لا نقبل أن نطلق على الإسلام أي اسم فلا نقول إسلام ديمقراطي أو إسلام اشتراكي ولا حداثوي ولا تنويري ونهضوي؛ بل نقول قد يلتقي الإسلام بالديمقراطية ولكن ليس بخصوصيتها الفكرية وقد يلتقي مع الاشتراكية ولكن لا بخصوصيتها الفكرية أيضاً فالإسلام له عناصره الشخصية التي يتميز بها عن المبادى‏ء الأخرى كما أن المبادى‏ء الأخرى لها عناصرها الشخصية ولا يجوز أن نقرب الإسلام من المبادى‏ء الأخرى فنلغي خصوصيته وأصالته ففلسفة الإسلام وقاعدته الفكرية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتربوي والأخلاقي لا تنسجم مع كثير من المبادى‏ء الأخرى إلاّ في بعض العناوين العامة، فالعولمة مثلاً هي إحدى نتائج الحداثة، وفي ظاهرها هي عنوان إنساني يفترض على العالم أن يلتقي في اقتصاده وفي ثقافته، ولكنها في الواقع تسعى لتذويب الخصوصيات القومية والإقليمية والوطنية والإسلامية للذين يملكون القوة وللسيطرة على العالم سواء كانت سيطرة ثقافية أو اقتصادية أو أمنية، ومن هنا فإن العولمة تختلف عن العالمية، فالإسلام عالمي وهو يدعو إلى وحدة الإنسانية على الخط المستقيم ليرتقي بالبشرية إلى أعلى درجات الترقي والسموّ والرفعة فالإسلام دين ودنيا يعنى بتنظيم كافة شؤون وشجون الواقع والمجتمع والحياة وما يحاوله بعض الكُتاب عبر القول بأن الإسلام هو نظام دين وليس نظام دولة أو أن الإسلام لا يوجد في هيكليته البنيوية أي مبادى‏ء فكرية لمسائل الاقتصاد والاجتماع والفلسفة وواقع الحياة هي محاولة غير موفقة لعدة أسباب تقدم من خلال ما أسلفنا شرحاً لبعضها، بل نجد عند البعض دواعي مغرضة ونيّاتٍ غير صافية لتشويه صورة الإسلام العزيز وتقزيم دوره عبر حصره في علاقة روحية إيمانية يمارسها المسلم بينه وبين الله.
فعندما قامت الثقافة الغربية المعاصرة شرعت منذ قرن بعملية غزو للمجتمع الإسلامي الذي أصيب بالضعف السياسي والاجتماعي، وفي ظل هذه الأجواء تكوَّنت أو برزت في العالم الإسلامي مواقف تجاه النظرية الغربية، ومن هذه المواقف الموقف الرافض مطلقاً للتعاطي مع الحضارة الغربية وفكرها واعتبار ذلك إثماً كبيراً ممّا سبب أضراراً فادحة بالساحة الثقافية الإسلامية، فنشأت من وراء هذا الجمود ردّة فعل عند مجموعة من الأقلام والعقول الفكرية تبنت كامل معطيات الثقافة الغربية وافتتنت بها كطه حسين في مصر وساطع الحصري في الشام وموقف آخر وهو موقف الشيخ محمد عبدة والسيد جمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال الذين لا يرون في الثقافة الغربية بكاملها شراً وخطراً على ثقافتنا الإسلامية، ونحن من وجهة نظرنا نرى أن الاتجاه الذي نسميه بالانتقائي هو الاتجاه الموضوعي المدرك للعناصر التي يجب توفيرها للتقدم ونحن كمسلمين ينبغي أن نحافظ على هويتنا الإسلامية، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نتذكر أن الهوية ليست مخلوقاً ثابتاً مستقراً غير قابل للتطور والتغيير، فالهوية أيضاً متغيرة ولكن يوجد في داخل هذه الهوية عناصر من الثبات لا يجوز أن تتخلى عنها ولا يكون التمسك بها مضراً في السعي نحو إنتاج حضارة جديدة، ومن هنا أرى أنه يتوجب علينا نحن الذين نعتنق التشيّع أن نشعر أننا أكثر من أيِّ فترة أخرى قادرون على المساهمة على إقامة النهضة الإسلامية  ومطالبون بأن ننجح نموذجنا الإسلامي الحقيقي الذي لا يتخذ العنف وسيلة بحد ذاتها أو هدفاً مطلوباً بحد ذاته وعلينا أن نساهم في إصلاح مشروع النهضة وأن نواجه ظاهرة العنف باسم الإسلام، أي باسم الدِّين، والتي تحدث ضرراً بالغاً بمشروع النهوض الإسلامي الذي نفكر فيه ونؤمن به فأنا ألاحظ أن هناك تراجعات فالعالم الإسلامي منذ عقدين من الزمن كان في مرحلة أكثر تفاؤلاً وأكثر نضجاً مما هو عليه في مواجهة تيارات عنف نشأت في العالم الإسلامي والتي لا يمكن أن تحقق هذا المنقلب المرجو في حضارة المسلمين وفي تقدمهم وفي إقامة كيان مستقل لهم، لذلك عندما يجري الكلام عن تحديث الخطاب الدِّيني، علينا أن نهتم بالموضوع اهتماماً يوازي أهمية الخطاب الدِّيني، لنستفيد في تصورنا وفي رؤيتنا طبيعة الإسلام نفسه وبالتالي عندما نقول بالتحديث فهذا يعني أن نقدم قراءتنا الخاصة أي قراءة عصرنا للقرآن الكريم والسُّنّة الشريفة وهذا أمر جداً ضروري ولا يعني أن نلغي قراءات العصور السابقة بل العكس هو الصحيح إن التراث وقراءة القرآن تراث وليس القرآن تراثاً بل قراءته هي تراث وتفسيره وهو تراث فيجب أن نقرأها ولكن لا يجب أن نتوقف عندها ومن هنا لا بدّ من تحديث الخطاب الدِّيني، من حيث احتكاك القراءة القرآنية والسنّتيّة وآليات الاستنباط بالعصر أي يجب أن تكون القراءة متحركة متطورة متغيرة وهذا عنصر تمليه الطبيعة الخالدة للقرآن الكريم. وتحديث الإسلام يعني تحديث الرؤية الإنسانية للإسلام، وليس تحديثاً للإسلام نفسه وأود أن أذكّر بما قاله الشهيد الصدر ذات يوم في النجف الأشرف في تسمية هذا النوع من القراءة بالقراءة الموضوعية أي التي نذهب فيها إلى القرآن، ونحن نحمل حصيلة من المعلومات والمعطيات الجليلة، فنعرضها على القرآن، ثم نرجع إلى هذه المعلومات في ضوء ما عرفنا من القرآن الكريم وبهذا المعنى لا بدّ من هذا التحديث لكي تكون الدعوة الإسلامية دعوة مستمرة وليست دعوة قاصرة على ما أنجزه السلف. إلى هنا انتهى الكلام حول عنوان التجديد وما المراد منه وحول آلياته وطرحه ويبقى أن نبحث حول أبرز أعلامه مفصلاً بين الفقهاء والمفكرين كنماذج وهذا ما نتركه إلى بحث مستقل وبذلك نكون قد التزمنا بالتقسيم الثلاثي الذي ذكرناه في صدر البحث.


المصادر والمراجع حسب الترتيب الأبجدي وتسلسل البحث:
1 - الأسس المنطقية للاستقراء (محمد باقر الصدر).
2 - الطوسي العدّة في أصول الفقه: 22 من المقدمة تحقيق الأنصاري.
3 - أحمد بن علي الخطيب البغدادي، كتاب الفقيه والمتفقِّه تحقيق: عادل بن يوسف العزازي.
4 - النائيني رسالة تنبيه الأمة وتنزيه الملّة.
5 - الموسوعة الفلسفية العربية معهد الإنماء العربي بيروت 1986م.
6 - ابن عاشور تفسير التحرير والتنويه 2.
7 - ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد (مجلد1).
8 - الآصفي الشيخ محمد مهدي بحث في كتاب الاجتهاد والحياة، حوار على الورق، إعداد وحوار محمد الحسيني.
9 - أمين، عثمان، العروة الوثقى لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده تراث الإنسانية، ج‏5.
10 - البهي، د. محمد، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي دار الفكر، 1991م.
11 - حسنة عمر عبيد كيف نتعامل مع القرآن الكريم مدارسة مع الشيخ محمد الغزالي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
12 - اقتصادنا من وجهة نظر مختلفة مجلة المنهاج عدد 17.
13 - الحكيم، السيد محمد باقر علوم القرآن.
14 - الريسوني د. أحمد نظرية المقاصد عند الشاطبي المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
15 - شبستري محمد مجتهد، بحث حول التجديد في الفقه المشهد الثقافي في إيران، إعداد عبد الجبار الرفاعي.
16 - السيد د. رضوان، سياسات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات دار الكتاب العربي بيروت ط1، 1418ه.
17 - منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي سلسلة رواد الإصلاح مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي.
18 - شمس الدين الشيخ محمد مهدي الاجتهاد والتقليد المؤسسة الدولية ط1، 1419ه.
19 - الإسلام يقود الحياة - المجموعة الكاملة م‏12.
20 - البنك اللاربوي في الإسلام - المجموعة الكاملة م‏12.
21 - الفهم الاجتماعي للنَّص - الاجتهاد والحياة حوار على الورق. إعداد وحوار محمد الحسيني.
22 - فلسفتنا المجموعة الكاملة م‏2.
23 - الطالقاني، آية الله أبو الحسن مقدمة على كتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملّة، للشيخ النائيني.
24 - الطهطاوي رفاعة، تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز.
25 - عبد الحميد د. محسن الفكر الإسلامي تقويمه وتجديده دار ومكتبة الأنبار.
26 - كيف نتعامل مع القرآن الكريم - المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
27 - الفاروقي د. إسماعيل راجي، الاجتهاد والإجماع كطرفي الديناميكية في الإسلام - مجلة المسلم المعاصر العدد التاسع.
28 - الفاسي علال، مقاصد الشريعة، ومكارمها دار الغرب الإسلامي.
29 - فضل الله محمد حسين حديث في كتاب الاجتهاد والحياة حوار على الورق إعداد وحوار محمد الحسيني.
30 - مطهري د. مرتضى الاجتهاد في الإسلام ترجمة جعفر صادق الخليلي بعثت طهران.
31 - ملاّط - شبلي تجديد الفقه الإسلامي  دار النهار للنشر 1998.
32 - ابن نبي مالك الظاهرة القرآنية ترجمة عبد الصبور شاهين دار الفكر.
33 - الطباطبائي السيد محمد حسين الميزان في تفسير القرآن.
34 - محمد خاتمي - مطالعات في الدين والإسلام والعصر: 99 - 100.
35 - محمد سليم العوا: رؤى إسلامية معاصرة: 7 - 8.
36 - سويدان، الشيخ ربيع مجلة الاجتهاد والتجديد عدد 1 - 2 - 3 - 4.
37 - تاريخ الفقه الشيعي، ص 32.
38 - تاريخ الفقه الإسلامي محمد يوسف موسى.
39 - يقسّم الفقه إلى قسمين: مُتلقى وتفريعي، والفقه المتلقى هو الفقه الذي تلقى الرُواة فيه الحديث من الإمام مباشرة وهذه هي الثروة التي تلقاها الأصحاب عن الأئمةQ، يداً عن يد حتى أوصلوها إلينا ولكن الفقه التفريعي هو المسائل والفروع التي فرّعها الفقهاء طبقاً للحاجة فيما بعد.
40 - الإمام الخميني رسالة الاجتهاد والتقليد وقد طبعت ضمن كتابه الوسائل ص 135.
41 - الشيخ محمد جواد مغنية، علم أصول الفقه في ثوبه الجديد.
42 - فلسفة التشريع في الإسلام ص 263.
43 - تطور الاجتهاد ص 15 محمد باقر الصدر دار روزبة للنشر 1980.



  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=249
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18