• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : تنمية العقل (الفكر النقدي)(*) .
                          • رقم العدد : العدد السابع عشر .

تنمية العقل (الفكر النقدي)(*)

 

 

تنمية العقل (الفكر النقدي)(*)


الشهيد آية الله مرتضى مطهري

يتوخى من التربية والتعليم بناء شخصية الإنسان، وبناء شخصية الفرد ضروري من جهة أنّ الفرد نفسه هدف للتربية، ومن جهة كونه مقدمة لبناء المجتمع الصالح.
من هنا علينا أن نتعرف أصول التربية والتعليم في الإسلام، وهل أنّ الإسلام يعتني بتنمية عقل وفكر الإنسان أم ليست له هذه العناية.
من وجهة النظر التربوية والتعليمية فإنّ مقررات الإسلام الأخلاقية تهدف لتربية الإنسان الذي يريده الإسلام، فمن هو الإنسان المسلم النموذجي؟ وما هي خصائصه؟ طبعاً هناك مسائل أخرى ترتبط بكيفية تطبيق الأهداف، أي أنّ الهدف واضح، ولكن ما هو الشكل والطريق الذي ينبغي سلوكه من أجل تربية الإنسان؟ وإلى أي مدى لوحظت القضايا النفسية في الإسلام؟ مثلاً في تعليم الطفل وتربيته ما هي التوجيهات الإسلامية، وإلى أي حدّ روعي الواقع والقضايا النفسية في تلك التوجيهات، وبالنسبة لما مضى، ما هو مقدار انطباق تربيتنا وتعليمنا السابق مع التعاليم الإسلامية؟ وما هو مقدار عدم انطباقها؟ وما هو مدى تطبيق التربية والتعليم في عصرنا؟
تنمية العقل:
إنّ المسألة الأولى التي ينبغي بحثها هي مسألة تنمية العقل والفكر نفسها وهنا مسألتان: الأولى هي مسألة تنمية العقل، والثانية مسألة العلم.
مسألة العلم هي نفس التعليم، والتعليم عبارة عن اعطاء المعلومات، ففي التعليم لا يكون المتعلّم إلاّ آخذاً، ومخّه بمثابة المخزن الذي توضع فيه سلسلة كبيرة من المعلومات، ولكن ليس هذا وحده هو الهدف من التعليم، بل يجب أن يكون هدف المعلّم أسمى من ذلك وهو أن يسعى لتنمية الطاقة الفكرية للمتعلّم، ويعطيه الاستقلال، وينّمي فيه القدرة على الابتكار، أي أنّ عمل المعلّم في الواقع يشابه الجذوة، فثمة فرق بين التنور الذي نريد اشعاله من الخارج ليصبح حارّاً، والتنور الذي نجمع فيه الحطب والخشب ونأتي بالجذوة ونضعها داخل الحطب، وننفخ فيه حتّى يشتعل الحطب تدريجاً، فيشتعل التنور وما فيه من الحطب، من هنا يتضّح سبب البحث حول العقل والتعقل ـ في قبال العلم والتعلّم ـ وأنّه ناظر إلى هذه الحالة من الرشد العقلي والاستقلال الفكري، ليمتلك الإنسان قدرة على الإستنباط.
نوعان من العلم:
هناك كلمة لأمير المؤمنينQ في نهج البلاغة ـ وكنت منذ مدّة ملتفتاً إليها وجدت لها عدّة شواهد ـ يقول فيها: «العلم علمان ـ وفي نقل آخر: العقل عقلان ـ علم مطبوع وعلم مسموع، أو (العقل المطبوع والعقل المسموع) ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع» .
العلم المطبوع هو العلم الذي ينبع من طبيعة الإنسان وجبلّته، العلم الذي لم يتعلمه الإنسان من آخر، ومن الواضح أنّه قوة الابتكار للشخص ثم يقول: لا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع، وواقع الأمر كذلك، فقد أدركتم هذه الحقيقة عن طريق التجارب: كثير من الأفراد ليس لديهم علم مطبوع ومنشأ أكثره هو سوء التربية والتعليم، لا عدم امتلاكهم القابلية على الفهم، بل إنّ التعليم كان بنحو لا يحرك القدرة المطبوعة ولا ينميها.
نظام التعليم القديم وتنمية العقل
إن أغلب نظامنا التعليمي القديم كان كذلك، إنكم ترون أنّ الأفراد ـ أما بسبب وجود نقص في قابليتهم أو بسبب قصور التعليم والتربية ـ كان وضعهم تماماً كآلة التسجيل بالنسبة إلى ما تعلّموه، درس كتاباً وانشغل به كثيراً ودقّق فيه وحفظه درساً بعد درس، وكتبه، وبعد ذلك صار مدرّساً، وهو يريد أن يدرّس نفس ما تعلمه، فطالع كل ما في الكتاب وحواشيه وشروحه، وما أخذه عن الأستاذ، فيجيب بشكل جيّد عن كل ما تسألونه عنه، ولكن ما إن تضعوا أرجلكم قليلاً خارج تلك الجهة حتّى يغدو أعرج، إنّ معلوماته فقط هي هذه المسموعات، فلو كان هناك موضوع آخر في مكان آخر لم يمكنه أن يستنتجه من خلال معلوماته الحاضرة، بل رأيت أشخاصاً يحكمون في مورد بخلاف ما تعلموه في مورد آخر، ولذا ترون عالماً جامد العقل رغم أنّه تعلم الكثير، فما إن تسألوه عن مسألة خارج معلوماته حتى ترون أنفسكم أمام شخص عاميّ تماماً.
الرمّال والأمير مثل معروف ـ إلاّ أنّه أسطورة ـ قالوا: إنّ رمّالاً علّم ابنه علم الرمل والأخبار بالمغيّبات، وكان يقبض من البلاط أموالاً كثيرة، فقام بتعليم ابنه هذا العلم ليحتلّ منصبه بعده، ثم عرّفه للأمير، فأراد الأمير اختباره، فوضع بيضة في يده وقال: هل بإمكانك أن تخبرني بما في يدي؟ فلم يدر، فقال الأمير: إنّ وسطها أصفر وأطرافها بيضاء، ففكّر قليلاً ثم قال: إنّها طاحونة في وسطها جزرة، فاستاء الأمير وأحضر أباه وقال: ما هذا العلم الذي علّمته إياه؟ فقال: علّمته العلم بشكل جيّد، ولكن هذا لا عقل له، فقد قال الكلام الأول عن علمه، ولكن هذا الثاني عن جهله، لم يطرق ذهنه أنّ الطاحونة لا يمكن أن تستوعبها كفّ الإنسان، وهذا ما يجب أن يحكم به العقل.
وهناك قصة معروفة وقد سمعت بها لحدّ الآن من عدّة أشخاص: قالوا: قد جاء أجنبي إلى كرج فصادف قروياً، وكان هذا القروي يجيب بأجوبة سليمة ومتينة، عن كلّ سؤال يطرحه عليه، بعد ذلك قال: من أين علمت كلّ هذا؟ فقال: (بما أنّنا لم ندرس فأخذنا نفكّر)، هذا الكلام مليء بالمعاني: أن من يتعلّم ينقل علمه، ولكني أفكّر والفكر أفضل من التعلّم بكثير.
إنّ هذه المسألة وهي ضرورة إيجاد نضج فكري وعقلائي في الأشخاص والمجتمع، وتقوية قدراتهم على التجزئة والتحليل، وهذا أمر أساسي، ففي التعليم والتربية والمدرسة يجب أن تكون وظيفة المعلم أسمى من تعليم الطفل، بأن يعمل على تقوية قدرته على البحث والتحليل، لا أن يلقي المعلومات فقط، إذ أن الاكتفاء بالقاء المعلومات وتراكمها في ذهن الطفل سيؤدي إلى ركود ذهنه.
من بين العلماء أفراد كثيرون تتلمذوا على عدّة من الأساتذة، وأنا لا أعتقد بقابلياتهم، للسبب نفسه الذي يرونه من مفاخرهم، فمثلاً يقال: إنّ فلاناً حضر مدة ثلاثين سنة درس المرحوم النائيني أو حضر درس الآغا ضياء مدة خمس وعشرين سنة بشكل متوال، إنّ العالم الذي قضى ثلاثين سنة أو خمساً وعشرين سنة من عمره في حضور درس هذا الأستاذ أو ذاك لم يبق لنفسه مجالاً يفكّر فيه، فهو يأخذ دائماً وقد بذل جميع قواه في الأخذ، ولم يبق له وقت ليصل بجهده إلى شيء.
تشابه المخ والمعدة:
مخّ الإنسان يشابه تماماً حالة المعدة، على المعدة أن تستلم الطعام من الخارج بمقدار كاف، وبالإفرازات التي تفرزها عليه، تقوم بإعداده، ولا بدّ للمعدة من حرية كافية ومكان خال ليتمكن من هضم الطعام بسهولة، ولكنّ المعدة التي تملأ بالطعام وتحشى بالغذاء ما دام فيها مكان، لا تبقى لها إمكانية تحريك الطعام وهضمه  بشكل جيّد وعندها يحصل اضطراب في عمل الجهاز الهضمي، ولا تتم عملية الامتصاص في الأمعاء بشكل صحيح أيضاً.
ومخ الإنسان قطعاً كذلك، في التعليم والتربية يجب أن تعطى للطالب فرصة للتفكير وأن يشجع على الابتكار.
ليس الملاك حضور درس الأستاذ كثيراً:
نشاهد من بين أساتذتنا ذوي الابتكار، رغم أنّهم لم يحضروا دروساً بكثرة، فالشيخ الأنصاري وهو أحد أكبر مبتكري المائة والخمسين سنة الأخيرة قد درس أقل من جميع العلماء الحاليين، أي أنّ دورة دراسته كانت قصيرة جدّاً، كان طالباً وذهب إلى النجف وحضر دروساً قليلة ثم بحث عن أساتذة متنوعين، ذهب إلى مشهد ومكث مدّة فلم يعجب كثيراً بالأساتذة، فجاء إلى طهران ولم يبق كثيراً، ثم ذهب إلى أصفهان فبقي مدّة أطول كان الآغا السيد محمد باقر حجّة الإسلام في هذه المدينة معلّماً في «الرجال» فتعلّم هذا الفن عنده، ثم انتقل إلى كاشان ومكث فيها ثلاث سنين، وكان فيها النراقيون فمكث فيها أكثر من غيرها، يعني أنّ دورته الدراسية لم تصل إلى عشر سنين، في حين أنّ الآخرين قد درسوا عشرين سنة وخمساً وعشرين وثلاثين سنة، وكانوا غالباً ما يشكلون على البروجردي وأنّه درس قليلاً.
ولكننا نرى أن نقطة القوّة فيه راجعة إلى هذه الجهة وهي: أنّه لم يدرس كثيراً، فمع أنّه قد درس عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة عند أساتذة من الدرجة الأولى حتّى أنّ النجفيين لم يقبلوه بسبب قلّة دراسته، فقد كان ينبغي عليه مثلاً أن يدرس ثلاثين سنة، ولأجل أنّه حضر دروساً قليلة كان ابتكاره أكثر من أغلب معاصريه، لقد كانت له فرصة التفكير في المسائل.
وعلى كل حال لا أتصور وجود ترديد في هذه القضية وهي أنّه في مسألة التربية والتعليم يجب أن يكون الهدف هو اعطاء النضج الفكري للمتعلّم، وعلى المرشد والمربّي أيّاً كان، معلّماً أو أستاذاً أو خطيباً أو واعظاً أن يسعى لاعطاء الشخص نضجاً فكرياً أي قدرة على البحث والتحليل، لا أن يكون تمام همّه أن: تعلّموا استقبلوا، احفظوا ففي هذه الحال لن يكون المتعلّم شيئاً. ما نعتقده عن التعقل هو أنّ التعقل قوّة التفكير لدى الشخص، وقدرته على أن يستنبط ويجتهد ويقوم بارجاع الفروع إلى أصولها.
مفهوم الاجتهاد
تكلّم المرحوم الآغا حجت بكلام جيّد بشأن الاجتهاد قال: إنّ الاجتهاد الواقعي هو أنّه لو عرضت مسألة جديدة على شخص لم تكن له سابقة ذهنية عنها، ولم تطرح في أي كتاب لاستطاع أن يطبق الأصول فوراً بشكل صحيح ويستنتج منها، وإلاّ فإنّه إذا تعلّم الوسائل كلّها من كتاب جواهر الكلام، ثم أخذ يردد: أنا أعلم أنّ صاحب الجواهر يرى كذا في هذه المسألة، وأنا أوافقه على رأيه، فإنّ هذا ليس اجتهاداً، إنّ الاجتهاد ابتكار، وأن يرجع الإنسان بنفسه الفرع إلى الأصل، ولذا فالمجتهد الواقعي في كلّ علم هو كذلك، ولكنْ هناك مجتهدون يُعدّون من جملة المقلّدين، أجل إنّهم مقلّدون من طبقة عليا، نلاحظ أنّه في كل بضعة قرون يظهر شخص يغيّر الأصول ويأتي بأصول جديدة مكانها، ثم يتابعه جمع المجتهدين على رأيه. إن المجتهد الواقعي هو ذلك الشخص وأما الباقي فهم مقلدون في صورة مجتهدين أرقى من العوام قليلاً، إنّ المجتهد الواقعي هو هذا سواء كان في الأدب أم الفلسفة أم المنطق والفقه والأصول والفيزياء والرياضيات، قد يأتي عالم في ميدان الفيزياء ويطرح آراء جديدة في الفيزياء، ثم يتبعه جميع علماء الفيزياء على رأيه، إن هذا الذي يأتي بقواعد جديدة مقبولة، ويجعل جميع الأفكار تابعة لفكره، يجب أن يقال عنه إنّه مجتهد حقيقي.
ولكنّ التفكير من غير التعليم والتعلم غير ممكن، فإنّ المادة الأساسية في التفكير هي التعليم والتعلّم ـ طبعاً نحن نتكلم على التفكير العقلاني ولا شأن لنا فعلاً بمسألة الوحي ـ وإنّ ما هو موجود في باب التفكر أكثر ممّا هو موجود في باب التعلم، فمثلاً: أفضل العبادة «التفكر»  و»لا عبادة كالتفكر»  أو «كانت أكثر عبادة أبي ذرّ التفكر»  وطبعاً يوجد الكثير في هذا المجال، وهي غير مسألة التعلم: ففي التفكير علاوة على ما يحصل عليه الإنسان من نتائج فإنّه يقوم بتنمية عقله، ولدينا في القرآن الكريم مطالب كثيرة في التفكر والتعقل، إذ دعا القرآن إلى التفكر والتعقل في موارد عديدة.
دعوة الإسلام إلى التعليم والتعلّم
لا أتصور أن ثمة حاجة إلى أن نبحث في دعوة الإسلام إلى التعليم والتعلّم، لأنها أمر واضح وإنّما ينبغي أن نبحث حدود العلم الإسلامي والتعاليم الإسلامية، وما هو العلم الذي يدعو له الإسلام، وإلاّ فإنّ أول آيات الوحي تقول: }اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم{ ، وهي أكبر شاهد على اعتناء الإسلام الفائق بالتعليم والتعلّم، «الذي علّم بالقلم» فالقلم مظهر الكتابة، }هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون{ .
آية أخرى: }هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة{ ، كلمة يزكيهم تناسب التربية أكثر من التعليم، وفي قوله }ويعلّمهم الكتاب والحكمة{ أيّاً كان المراد من الكتاب، سواءً مطلق الكتاب أو خصوص القرآن، فبالتالي نجد الكتاب والحكمة توأمان، إذ الحكمة هي الحصول على الحقيقة، والبحث في أنّه أيّ شيء يعدّ حكمة وأي شيء لا يعد حكمة «بحث صغروي» فكل حصول على حقيقة يسمّى حكمة: }يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً{ .
المهم في مسألة التعلم والتعليم، أن نرى ما هي حدود هذا الموضوع؟ إنّ بعض العلوم واجبة عيناً، مثل: معرفة الله وملائكته ورسله واليوم الآخر، ذلك المقدار الذي يكون مقدمة للإيمان أو هو من شرائطه، لأن الإيمان في الإسلام هو الاعتقاد عن علم لا عن تقليد.
إنّ العلم أمّا أن يكون هدفاً أو مقدّمة لهدف، فكلّما كان العلم هدفاً يكون واجباً مثل أصول العقيدة، ولو لم يكن هدفاً، فإن توقف عليه هدف من الأهداف الإسلامية كان واجباً من باب وجوب المقدّمة.
وكلّ وظيفة من الوظائف  الإسلامية تتوقف على علم، يكون ذلك العلم واجباً، من الواجبات المقدمية، وعلم الأخلاق طبعاً «واجب نفسي تهيؤي»، فالإسلام يريد منا أنّ نزكي أنفسنا وذلك لا يمكن دون تعلم، فإذن تعلم المسائل الروحية والأخلاقية مقدمة  لتزكية النفس، وكذلك عندما نريد أن نتعلم أوامر القرآن وارشاداته يكون بديهياً وجوب تعلم القرآن وتفسيره، وحينئذ تتسع دائرة العلم، إذ لدينا إضافة إلى الواجبات العينية واجبات كفائية، نظير وجود الطبيب فإنّه لا بدّ منه، لذا يكون علم الطب واجباً كفائياً ولا يمكن للطبيب أن يكون طبيباً دون تعلم فإذن يجب تعلّم الطب، إنّ وجود الطبيب لازم، ولكن من البديهي أنّ عليه أن يهيئ مقدمة أيضاً، فعلم الطب واجب كفائي.
مثال آخر: يقول القرآن }واعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل ترهبون به عدّو الله وعدوّكم{ ، هل إنّ إعداد القوة بنحو يرهب عدو الله واجب أم لا؟ نعم هو واجب، ولكن هذا العمل لا يتأتى بنفسه، فلا تحصل القوّة بحمل المسحاة، بل هناك طريق لتحصيل القوّة ألا وهو العلم، أمّا إلى أيّ مستوى؟ أنّه المستوى الذي يحصل به ارهاب عدوّ الله وعدوكم المختلف باختلاف الأزمنة.
ينبغي للعقل أن يكون غربالاً:
لدينا رواية معروفة في باب (العقل والجهل) من كتاب الكافي والبحار وتحف العقول ، وقد نقلها هشام بن الحكم  المتكلم الشهير عن الإمام موسى بن جعفرQ مخاطباً هشاماً وهي رواية مفصّلة، وفيها يستند الإمام على قوله تعالى في سورة الزمر: }فبشّر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب{ ، إنّها آية عجيبة، فيا ترى هل أن هؤلاء يصدّقون بكل ما يسمعونه وينفذونه؟ أو أنّهم يرفضونه مرة واحدة.
إنّهم يستمعون الكلام وينتقدونه ويزنونه فينتخبون أحسنه ويتبعونه، ثم يقول تعالى أولئك الذين هداهم الله، أي ألهمهم الاستفادة من قوة العقل.
قال الإمام لهشام: يا هشام إنّ الله تعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه فقال: }فبشّر عباد، الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه...{.
يظهر من هذه الآية والحديث بشكل كامل أنّ أبرز صفات العقل الإنساني هي التمييز والفرز، فرز الكلام الصادق عن الكاذب، والضعيف عن القوي، والمنطقي عن غير المنطقي، والخلاصة: إنّه يقوم بعملية غربلة للكلام، لا يكون العقل عقلاً ما لم يكن غربالاً يزن كل ما يرد عليه ويغربله فيرمي ما لا ينفع خارجاً ويحتفظ بما ينفع.
هناك حديث عن الرسول الأكرم، ناظر إلى هذا المطلب يقول: «كفى بالمرء جهلاً أن يحدّث بكلّ ما سمع» ، توجد عند البعض خاصية المسجل، يمتلئون بكل ما يسمعون، وبعد ذلك يكررونه في محل آخر دون أن يشخّص أنّ ما سمعوه كان صحيحاً أم خاطئاً.
هناك بعض العلماء أقل عقلاً ممّا علموه، فهم علماء بمعنى أنّ لديهم معلومات كثيرة، لكنهم عاقلون بنحو أقل، لأنهم يجمعون كل شيء أينما يرونه وينقلونه بأجمعه دون أن يتدبروه، ليروا هل أنّه يتلاءم مع الواقع أم لا؟ والعجيب أنّه مع وجود روايات تقول: إنّ الراوي ينبغي أن يكون ناقداً، وأن لا ينقل كل ما سمعه، نرى الكثير من هؤلاء المحدثين والرواة والمؤرخين لا يراعون هذه القاعدة.
انتقاد ابن خلدون
أحد الانتقادات التي يوجهها ابن خلدون في مقدمة تاريخه لبعض المؤرخين أنّهم يبحثون عن صحة السند فقط في نقلهم التاريخ، يقول: قبل هذا ينبغي أن نبحث في صحة المضمون، فلا بدّ أولاً من التفكير في أنّ هذا المطلب هل ينسجم مع المنطق أو أنّه لا ينسجم، ثم يمثل لذلك بقوله: إنهم كتبوا أنّه عندما اجتاز قوم موسىQ البحر وتعقبهم الفراعنة كانوا مائتين وخمسين ألف رجل محارب، ولا بد من تمحيص هذا الأمر، فإنّ بني إسرائيل كلّهم اولاد يعقوب وهو شخص واحد، ولم يمض عليه خمسة أو ستة أظهر 164 سنة وذكروا أيضاً أنّها 400 سنة فحتى لو مضى 400 سنة فإذا قلنا أن عددهم 250000 ألف رجل محارب فلا بد أن يكون عددهم في الأقل مليون شخص ربعهم جنود مع أنّ فرعون كان يقوم بقتل أبنائهم: }يذبّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم{ وهذا أمير غير مقبول عقلاً.
يقول ابن خلدون: إنّ المؤرخين لم يلتفتوا إلى أن هذه الواقعة التي ينقلونها تلائم المنطق أم لا؟
قرأت يوماً في كتب التاريخ المتداولة التي كتبها أشخاص كبار: انّه في واقعة الحرّة أحدثوا القتل الذريع في المدينة، وقد دخلوا بيت شخص من أهل المدينة وكان من الأنصار ـ وكانت عائلته فقيرة وامرأته قد وضعت حملها قريباً، وكانت راقدة في الفراش والطفل في مهده، فدخل رجل شامي ليأخذ شيئاً من هذا البيت، فتوسلت به المرأة قائلة: أنا زوجة فلان أحد أصحاب رسول الله P وقد بايعنا رسول الله في بيعة الرضوان، فلم ينفع ذلك وأخذ الرجل الشامي برجل الطفل وأداره حول رأسه  ثم ضرب به الجدار فتناثر مخّه.
نقل هذه الواقعة عدد كبير، فهل يكفي هذا في صحتها؟ يعني هل يمكن للمرأة التي بايعت مع زوجها رسول الله في بيعة الرضوان أن تضع حملاً في سنة 63 للهجرة بعد فاصلة زمنية قدرها 58 سنة؟ فلو فرضنا أنّها في ذلك الوقت كانت صبية عمرها عشر سنوات متزوجة حديثاً وذهبت مع زوجها لمبايعة الرسول، فإنّها تكون الآن في الثامنة والستين من عمرها، فهل يمكن لمن في سنِّها أن تضع حملاً؟ هذه المسائل بحاجة إلى نقد وتمحيص، فلو فكّر الإنسان قليلاً لوقف على مخالفتها للواقع، وهذه هي عملية الغربلة، قال الرسول P: «كفى بالمرء جهلاً أن يحدّث بكلّ ما سمع» الجهل غالباً لا يكون في الأحاديث في قبال العلم، بل يكون في قبال العقل، أي عدم التفكير لا عدم العلم، فيكفي في عدم تفكر الإنسان وتمحيصه للأشياء أن يحدّث بكل ما سمع.
نقد الكلام
المسألة الأخرى القريبة من هذا المطلب والتي تستنبط من هذه الآية وبعض الأحاديث هي مسألة تحليل الكلام وعزل العناصر الصحيحة عن العناصر غير الصحيحة، ففرق بين أن يأخذ الإنسان من كلامين الصحيح منهما ويهمل الآخر، وبين تجزئة الكلام بحيث ينتقي الإنسان العناصر الصحيحة، ويفنّد العناصر الخاطئة فيه بحيث تكون له القدرة على التشخيص في أن يقول: هذا الجزء من الكلام صحيح وهذا الجزء غير صحيح، وهذا هو الأمر الذي عبّر عنه في الروايات بالنقد والانتقاد.
عندما يقولون: انتقد الدرهم أو أنقد الكلام، يعني: أظهر عيوبه ومحاسنه، فكما أنّ السكّة عندما توضع في المحك ليتعرفوا أنّها ذهب خالص، ومقدار عياره، فكذلك نقد الكلام معناه عزل محاسنه عن مساوئه.
لدينا بهذا الشأن أحاديث كثيرة وعجيبة منها أن المسيحQ قال: «خذ الحق من أهل الباطل ولا تأخذ الحق من أهل الحق» والأظهر أنّه يريد أن يقول: لا تلتفت إلى القائل، بل التفت إلى نفس القول، والشاهد على ذلك الجملة الأخيرة حيث قال: «كونوا نقّاد الكلام» .
ثم ينقل الإمام جملاً في هذا الخصوص: يا هشام إنّ الله تبارك وتعالى أكمل  للناس الحجج بالعقول، ونصر النبيين بالبيان، ودلّهم على ربوبيته بالأدلاء، فقال: }وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو الرحمن الرحيم، إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف اللّيل والنهار... لآياتٍ لقوم يعقلون{ .
تدبّر العاقبة
الشيء الآخر الذي يجب أن تقوم تربية العقل على أساسه هو مسألة الاهتمام بالمستقبل، إذ يستند في التربية الإسلامية استناداً كبيراً على هذه المسألة، وأنّه لا ينبغي لكم أن تقيّدوا أنفسكم بهذا العصر، بل إلتفتوا إلى المستقبل، وضعوا نصب أعينكم العواقب والنتائج النهائية للعمل الذي أنتم بصدد فعله.
ثمة حديث مشهور نقلناه عن كتاب (قصص الأبرار) وهو أنّه: قد جاء شخص إلى رسول الله P وقال: يا رسول الله عظني، فقال الرسول: وهل ستفعل ما أقوله لك حقّاً؟ فقال: نعم، فكرّر عليه الرسول جملته، فقال: أجل، فكرر الرسول كلامه للمرة الثالثة، وما هذا التكرار من رسول P إلاّ لأنّه أراد أن يجعله مستعداً بشكل كامل لما سيقوله له، وما إن أتم ذلك حتى قال له: إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته .
العقل والعلم توأمان
المسألة الأخرى هي وجوب أن يكون العقل والعلم توأمين، وهذه النقطة مهمة للغاية فإن الإنسان الذي يفكر ولكن معلوماته ضعيفة يكون كالمصنع الذي تكون فيه المواد الخام معدومة أو قليلة، فإنّ انتاجه سيكون قليلاً، لأنّ الانتاج موقوف على وصول المادة الخام، وكذلك المصنع الذي تتوفر فيه المادة الخام إلاّ أنّه لا يعمل فإنّه يكون مشلولاً وغير منتج.
يقول الإمامQ في تلك الرواية: «يا هشام ثم بيّن أن العقل مع العلم» وقد قلنا: إنّ العلم هو عملية الأخذ، وهو بمنزلة الحصول على المادة الخام، وأما العقل فهو تفكير واستنتاج واستخلاص وتجزئة وتحليل، ثم يستند الإمام على هذه الآية }وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون{ ، أترون كيف تمت الملاءمة بين العقل والعلم.
تحرير العقل من تقاليد المجتمع
الأمر الآخر مسألة تحرير العقل من أن تتحكم به ايحاءات المجتمع المحيط والعرف وتقاليده، أو ما يصطلح عليه اليوم بنفوذ السنن وعادات المجتمع، يقول الإمامQ: يا هشام ثمّ ذمّ الذين لا يعقلون، فقال: }وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءَنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون{ .
فالقرآن يذمّ الذين يقيّدون أنفسهم بتقليد آبائهم واتباعهم إياهم ولا يفكرون بتحرير أنفسهم من هذا القيد، ما هو هدف القرآن من هذا الذم؟ هدفه هو التربية، يعني أنّه هو يريد تنبيه الناس إلى أنّ المعيار والمقياس يجب أن يكون هو ما يشخصّه العقل والتفكير، لا مجرد فعل الآباء. استخرجت يوماً الآيات التي تتحدث عن الإتباع والتقليد فوجدتها كثيرة جدّاً، والشيء الذي لفت انتباهي فيها أنّه ما من نبيّ دعا قومه إلى الله إلاّ جوبه بهذا الكلام: }إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على أثارهم مقتدون{ ، وأنّه لماذا تريد صرفنا عن تقاليد آبائنا الماضين؟ مع أنّ أقوام الأنبياء كانوا يختلفون جدّاً من حيث الظروف. فكان كل نبيّ يطرح على قومه مسائل تنسجم مع وضع حياتهم، وكان يواجه مشاكل مختصة بقومه، إلاّ أنّه كان هناك إشكال مشترك ووجه به جميع الأنبياء وهو مصيبة تقليد الآباء والأجداد، وعلى حدّ تعبيرنا اليوم، إتباع التقاليد وأمّا الأنبياء فعلى العكس، إنّهم كانوا يشحذون عقول الناس ويوصونهم بالتفكير، }أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون{.
الإمام الصادق والتابع للتقاليد
هناك قصّة معروفة وهي أن الإمام الصادق ذهب إلى بيت أحد أصحابه أو شيعته وكان بيتاً صغيراً جدّاً، وكأنّه كان من الذين يعلم الإمام الصادقQ أنّ حالته تقتضي أن يكون له بيت أفضل فقال له الإمام: لماذا تسكن في هذا البيت؟ «من سعادة المرء سعة داره» ، فقال: يا ابن رسول الله إنّ هذا بيت آبائي وأجدادي ولا أستطيع مغادرته، وبما أنّ أبي وجدّي كانا فيه، فلا أريد مفارقته، فقال له الإمام: لو كان أبوك جاهلاً فهل عليك أن تقيّد نفسك بجهل أبيك؟ اذهب وهيأ لنفسك بيتاً أفضل.
حقاً إنّها أمور عجيبة، الإنسان من الناحية التربوية لا يلتفت إلى أنّ الكلمات التي يقولها القرآن إنّما يريد بها أن يربّي الناس على هذه القواعد.
عدم إتباع الأكثرية
ثم ذكر الإمام موسى الكاظمQ موضوعاً آخر فقال: «ثم ذمّ الله الكثرة فقال: }وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله{ .
وخلاصة القول: التحرر من حكومة العدد وأنّه ينبغي أن لا تكون الأكثرية والكثرة هي الملاك، وأن لا ينظر المرء إلى أكثر الناس ويسلك الطريق الذي يسلكونه، ويقول: إنه هو الطريق الصحيح، فإنّ هذا نظير لذلك التقليد، فكما أنّ الإنسان بطبعه ينقاد إلى تقليد الآخرين، كذلك ينقاد لرأي الأكثرية، والقرآن يرفض هذا المقياس، والدليل على خطئه هو أنّ أكثر الناس تتبع الظنّ والحدس لا العقل والعلم واليقين.
عدم التأثر بحكم الآخرين
المسألة الأخرى التي تتعلق أيضاً بالتربية العقلائية هي أنّ حكم الناس على الإنسان يجب أن لا يكون هو الملاك، إنّ هذه أمراض عامة يبتلى بها الناس من قريب أو بعيد، فمثلاً لو اختار الإنسان ثوباً معتقداً أنّه قد اختار لوناً جميلاً، ثم يأتي آخر ويقول له: ما هذا اللّون المضحك الذي اخترته لنفسك؟ وكذلك الثاني والثالث يقولان له الكلام نفسه، فإنّه سيعتقد بالتدريج أنّه قد اختار لوناً غير مناسب، وفي بعض الأحيان يقول الناس هذه الأشياء لا لأجل أنّهم يعتقدون بها، بل هدفهم أن يغيروا اعتقاد الآخرين، فليس من الصحيح أن يتأثر الإنسان في ما يتعلق بشؤونه الخاصة بأحكام الآخرين.
المعلم وتلاميذه
ينقل (المثنوي): أن أحد المعلمين قديماً كان يدرّس عدداً كثيراً من الصبية (وكان المعلمون آنذاك يضربون الأطفال بشدّة) وكان الأطفال ينشدون يوم الخلاص من قبضة معلمهم،  ففكر الأذكياء منهم في طريقة للخلاص، وفي الغد عندما دخل أول طالب ـ وكان المعلّم جالساً ـ قال له: خيراً جناب الأستاذ كأنك مريض، هل أنت متألم، فقال: كلاّ لست مريضاً، اذهب واجلس مكانك فذهب وجلس، فجاء الطالب الثاني وقال: جناب المعلّم، قد انخطف لونك، فقال المعلم بهدوء: اجلس مكانك، فجاء الثالث وقال العبارة نفسها، وفي نهاية الأمر قال المعلّم: أجل أنا مريض ومتألم جدّاً، فقالوا له: اسمح لنا أن نضع لك حساءً، بدأ الأستاذ يتألم تدريجياً ثمّ استلقى وشرع يتأوه، وأمر الطلاب أن اذهبوا إلى منازلكم فأنا مريض، وكان هذا ما يريده الطلاّب.
قال الإمام: يا هشام، لا ترتّب أثراً على حكم الناس، فأية دعوة هذه لاستقلال العقل والتفكير. ثمّ قالQ: لو كان في يدك جوزة، وقال الناس في يدك لؤلؤة، ما كان ينفعك وأنت تعلم أنّها جوزة؟ ولو كان في يدك لؤلؤة، وقال الناس: إنّها جوزة، ما كان يضرّك وأنت تعلم أنّها لؤلؤة.
الروح العلمية:
أقول شيئاً عن العلم أيضاً لأختم به البحث، وهو مستند إلى الآيات والأحاديث، وحاصله أنّ هناك فرقاً بين كون الشخص عالماً وبين امتلاكه الروح العلمية إنّ العالم الحقيقي هو من كانت روحه العلمية مقترنة بعمله.
ما هو المقصود من الروح العلمية؟ المراد هو: أنّ العلم أساساً ينبثق من غريزة حب الاستطلاع، فقد خلق الله الإنسان باحثاً عن الحقيقة، أي أنّ الإنسان يريد أن يفهم الحقائق كما هي، وأن يعرف الأشياء  على ما هي عليه ويدركها، ويتطلب هذا أن يكون الإنسان حيادياً تجاه الحقائق، يريد أن يكشف الحقيقة كما هي، لا أن تأتي الحقيقة بالنحو الذي يريده هو، فهو في هذه الحال يمتلك روحاً علمية.
أحياناً يؤمن الإنسان بقضية، ويريد أن تكون نتيجة بحثه مؤيدة لها، وهذا بحد ذاته منشأ للضلالة، ففي آيات من سورة إشارة إلى أنّ أحد مناشئ الضلالة هو اتباع الناس أهواءهم في تشخيصهم للأشياء، وفي النتيجة يدخلون مجال البحث بذهنية منحازة وقد قيل: (الأغراض تجعل الرجل أحول).
إن احتفظ الإنسان بحياده تجاه الحقائق ـ وهو أمر عسير جدّاً ـ فسيهديه الله، فقد ضمن الله تعالى أن يهدي الأشخاص الذين يبحثون عن الحقيقة بلا غرض في القلب: }والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين{ ، الروح العلمية هي روح طلب الحقيقة، إنّها الروح غير المتعصبة الخالية من الجمود والغرور، عندما يطالع الإنسان الأحاديث الكثيرة الواردة في موضوع العلم، يرى مدى تأكيدها أنّ العالم ينبغي أن لا يكون متعصباً ولا جامداً، وأن لا يجزم بصحة كلّ ما يراه ويشخّصه، وبطلان ما عداه، العالم ينبغي أن لا يكون مغروراً ويتصور أنّ ما لديه هو العلم بأجمعه، بل عليه أن يلتفت دائماً إلى قاعدة }وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً{ ، وأن يلتفت إلى أن ما يدركه من الحقائق قليل جدّاً، يقول الطلبة: (نحن أبناء الدليل، حيثما مال نميل) ـ طبعاً هذا ادعاء، فما أكثر الذين هم ليسوا كذلك والدليل هو الذي يثبت المدعى، وفي مقابل ذلك قد يذهب الإنسان من المدعى إلى الدليل، أي أنّه يتخذ موقفاً منذ البدء ثم يبحث له عن دليل، وستكون أدلته طبعاً مجانبة للواقع ومنشأ للضلالة.
إنّ العلماء الذين يمتلكون الروح العلمية يكون غرورهم قليلاً جداً ـ أو لا غرور لديهم أصلاً ـ نسبة إلى الذين لا حظّ لهم من الروح العلمية، وقد حفظوا بضع كلمات يتصورون أنّها جميع العلم، ففي الحديث: (العلم على ثلاثة أشبار، إذا وصل إلى الشبر الأول تكبّر وإذا وصل الشبر الثاني تواضع، وإذا وصل إلى الشبر الثالث علم أنّه لا يعلم شيئاً.
فإذن في التعليم والتربية ينبغي أن يزود المتعلّم بالروح العلمية، أي لا ينبغي الاهتمام فقط بأن يكون عالماً، بل لا بدّ أن يوجّه ليكون باحثاً عن الحق، عارياً من الأمراض التي تحرف الإنسان عن الحقيقة كالتعصب والجمود والغرور والتكبر، فجميع هذه يجب تجنبها لينشأ المتعلم على الروح العلمية.

 

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=252
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 08 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28