• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : العقيدة ودورها في السلوك البشري. .
                          • رقم العدد : العدد الثامن عشر .

العقيدة ودورها في السلوك البشري.

 

 


العقيدة ودورها في السلوك البشري.

الشيخ إسماعيل إبراهيم حريري

تمهيد: لا يخفى على ذي بصيرة أنّ العقيدة التي يلتزم بها الإنسان على مستوى الفكر لها دورٌ في سلوكه. فالأسس الفكرية هي التي تؤثّر سلباً أو ايجاباً في سلوكه العملي، وخطواته وتحركاته في كافّة مجالات العمل في الحياة، فهناك المجال الاجتماعي، والسياسي والاقتصادي، وهي مجالات لها مسيس ارتباط بحياة الإنسان ـ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ـ وهذه تتأثّر بشكل واضح بالأسس والمباني الفكريّة والعقدية التي يعتنقها ويلتزم بها.
وهذا لا يختصّ بالعقائد الدينية بل يشمل كلّ عقيدة بما في ذلك المادية الوضعية. فشخصية الإنسان تتكون من خلال ما يعتقده ويؤمن به، إذ لا بدّ لهذه الشخصية أن تستند في تبلورها وتشكلها بشكل ما والتزامها بسلوك ما، لا بد أن تستند إلى أسس وإلاّ كانت شخصية مضطربة، حائرة، تتخبّط هنا وهناك.
طبعاً قد تكون بعض العقائد ذات أسس مضطربة أصلاً مما يؤثر اضطراباً على حركة الفرد وسلوكه.
أما ما كان من العقائد ذا أسس سليمة وسوية ومبانٍ مستقيمة متوازنة فلا بد أن تخرج منها شخصية سليمة سوية، مستقيمة ومتوازنة.

إذا توضح ذلك نقول: لا بد من التعرض لجملة من الأمور ليتضح ما نحن بصدد بيانه إن شاء الله تعالى:
الأول: لا يراد من العقيدة هنا خصوص الأصول الاعتقادية أو خصوص ما يدخل في الاعتقادات ولو لم يكن أصلاً، بل يراد مجمل العقيدة التي يلتزم بها، أي الدين الذي يدين به ويلتزم به عقيدة وأحكاماً ومفاهيم وأخلاقاً.
لأن الأصول الاعتقادية تفتح الطريق أمام اعتماد الإنسان على أسس وأعمدة إلا أنه يبقى في سلوكه العملي محتاجاً إلى ارشاد وتوجيه، ووضع الحدود والضوابط (فيما يجوز وفيما لا يجوز) لعدم قدرة الإنسان على وضع ذلك لنفسه فضلاً عن غيره بعد كونه مخلوقاً ناقصاً خصوصاً لجهة إدراك واقع ما يصلحه وما يفسده في هذه الحياة الدنيا.
قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14).
الثاني: عندما نطرح فكرة تأثير العقيدة أو دورها في سلوك الإنسان، لا نريد التأثير الايجابي فقط، إذ إن نوعية التأثير تتحدد من خلال طبيعية العقيدة فرب عقيدة تؤثر سلباً في سلوك معتنقيها ذلك أن العقائد كما يمكن أن تكون إلهية ربانية أنزلها الله تعالى لعباده عن طريق أنبيائه وكتبه، كذلك يمكن أن تكون وليدة أفكار البشر الذين يرون أنفسهم ـ جهلاً ـ قادرين على صياغة عقيدة لهم ولغيرهم كما فيما يعتقده الماديون، وسابقاً كان هناك الدهريون والزنادقة والملاحدة.
كما أن هناك عقائد أساسها إلهي رباني، تلاعبت بها أهواء المنحرفين، ومطامع المغرضين فخرجت عن ثوب الحقّ وألبست ثوب الباطل بدعوى أنّه حق كعقائد اليهود والنصارى.
ـ بعض ما عند اليهود:
ومن الواضح أنّ من يلتزم عقيدة اليهود التي ورد فيها قتل النساء والأطفال وتدمير وسحق كل من ليس يهودياً، سيكون سلوكه سلبياً طبقاً لهذه العقيدة، وهذه بعض عبارات التلمود اليهودي:
«بما أن اليهود يساوون أنفسهم مع العزّة الإلهية فالدنيا وما فيها ملك لهم، ويحق لهم التسلّط على كلّ شيء» .
«الفرق بين الإنسان والحيوان كالفرق بين اليهودي وباقي الشعوب».
«قتل غير اليهودي من الأفعال التي يكافئ عليها الله، وإذا لم يتمكن اليهودي من قتلهم فواجب عليه أن يتسبب في هلاكهم في أي وقت وبأي طريقة ممكنة» «إن عملية السرقة غير محرّمة من الأجانب».
«إن قسم اليمين أمام الأجانب غير محرّم لأنّ اليهودي يقسم أمام بهائم» وجاء في البروتوكول الثالث لمؤتمر بال: «إنّ قوتنا تكمن في أن يبقى العامل في فقرٍ ومرض دائمين لأننا بذلك نستبقيه عبداً لإرادتنا» .
وعندما نرى هذه التوصيات أو فقل هذه الأحكام، وننظر إلى واقع ما عليه اليهود سابقاً في زمن النبي الأكرم P مما نقله إلينا التاريخ من تآمرهم وتواطئهم على المسلمين وخداعهم لهم، وحاضراً فيما نراه من تعامل الصهاينة بل اليهود عموماً حتى من كان منهم خارج الكيان الغاصب المسمّى بـ»إسرائيل» إلاّ من شذّ من قتل وغصب وتدمير وحروب وكذب وخداع وسرقة ونحو ذلك من مساوئ الأفعال ورذائل الأعمال والأقوال خير دليل على موافقة ذلك لما اعتقدوه في تلمودهم وتوصيات وأحكام كتبهم وزعمائهم بدعوى أنّها أحكام دينيّة وتوصيات صادرة عن الوحي الإلهي تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
وانظر إلى ما يدّعون أنّه من كتابهم المقدّس في قتل نساء وأطفال العدو:
«هذا ما يقول الربّ القدير: تذكرت ما فعل بنو عماليق يا بني إسرائيل حين خرجوا من مصر وكيف هاجموهم في الطريق، فاذهب الآن واضرب بني عماليق، وأهلك جميع ما لهم ولا تعفُ عنهم، بل اقتل الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والجمال والحمير»  و»فالآن اقتلوا كلّ ذكر من الأطفال وكلّ امرأة ضاجعت رجلاً...»  و»أما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها لكم الربّ إلهكم ملكاً فلا تبقوا أحداً منها حيّاً»  وقد أثير مؤخراً انتشار كتاب في أوساط اليمين الإسرائيلي يتناول «متى يسمح لليهودي بقتل الأغيار وقتل أبنائهم»؟
ومؤلف الكتاب يدعى الراف يتسحاك شابيرا رئيس مدرسة (عود يوسيف حاي) ذكر فيه أنه يُسمح بقتل «كل من يشكل خطراً على شعب إسرائيل، سواء كان ولداً أم طفلاً». وهذا ما نراه يحصل فعلاً في فلسطين ولبنان قديماً وحديثاً منذ قيام دولة إسرائيل الغاصبة.
بعض ما عند النصارى:
ولو نظرنا باتجاه بعض عقائد النصارى نرى جوّاً آخر من الاعتقادات والأحكام سادت في كتبهم، فقد ورد في إنجيل متى قول عيسى Q لتلاميذه: «(38) سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، (39) وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّ. بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً (40) ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً. (41) ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين» .
فمن يلتزم بهذه الوصية يرى الجلوس عن مقاومة الشرّ والتصدي له أمراً حسناً وعملاً شرعياً، مع ما يترتب على الركون للشر من تبعات سيّئة على حياة الأمّة، ومن يفهم من لطمة الخدّ أن المطلوب أن لا تقاوم ولا تمانع أمام من يسيء إليك بل عليك أن تكون ليناً طرياً كأسلوب في مواجهة الشرير والظالم والمعتدي سوف لن يكون في حياته إلا الاستكانة والاستسلام بل يجلس ليتلقى الضربات بقلب فرح مسرور لأن من «لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر» لتتلقى لطمة أخرى وأخرى وهكذا.
وهذا لا يمكن أن يكون عقيدة لنبي من الأنبياء فكيف بعيسى Q وهو من أولي العزم، وشريعته التي جاء بها من عند الله تعالى هي الشريعة التي نسخت شريعة من كان قبله من الأنبياء جميعاً واستمرّت إلى زمان مجيء شريعة الإسلام على يد سيّد المرسلين وخاتم النبيين على الاطلاق النبي الأكرم محمد P فنسخت شريعته كل شريعة كانت قبلها إلى يوم القيامة.
نعم لو صحّ هذا القول عن نبيّ الله عيسى Q لوجب حمله على غير ظاهره كأن يقيّد أنّ هذه المعاملة إنما يريدها بين المؤمنين لأنهم إخوة، ولأنّهم رحماء فيما بينهم، فيتسامحون ويتواصون.
ـ بعض ما عند الوضعيين: ولو نظرنا بنظرة ثالثة إلى ما يعتقده جمهور كبير من الناس ممّن لا يدين بدين سماوي، بل يعتقد أن الإنسان بعقله وفكره قادر على أن يضع المبادئ والأسس والأحكام التي تحكم حياته وتسيرها بالنحو الصحيح حسب اعتقادهم، فيذهبون باتجاه الاعتقاد أن من حق الإنسان أن يختار ما يشاء من عقيدة وأحكام دون أي تبعة عليه في ذلك.
وأن للإنسان تمام حرية التصرف والتكلم بما يشاء انطلاقاً من مبدأ شرعوه وأصل سنّوه وهو «حرية التعبير والرأي والفعل» ولو كان في ذلك تحديّاً أو إساءة لعقائد الآخرين وكيانهم، ويصل بهم الأمر إلى اعتقاد أنّ الحرية تبيح لهم انتقاد حتى الخالق وأنبيائه والعياذ  بالله، وتبيح لهم كل محرّم بل ليس في قاموسهم محرّمات فترتكب الفواحش والقبائح والرذائل باسم هذه الحرية التي تحرّرهم من كل قيد بما في ذلك القيود الإنسانية. ولا نتفاجأ عندما نرى هؤلاء ـ لا سيما في الغرب ـ يرتكبون الجرائم، ويتاجرون بالأرواح والأعراض علناً وجهاراً دون نكير من عاقل أو نهي من عالم عندهم.
وبحسب ما نراه فيما ينقل إلينا إن عبر الصور والتقارير أو عبر الكتب والأبحاث فضلاً عن الوسائل المرئية فقد تفشت في تلك المجتمعات كل القبائح والفواحش: الخمر، الزنا، اللواط، القتل، هتك الأعراض، بيع الإنسان والمتاجرة بأعضائه رغماً عنه، الخداع، الاحتيال، الاختلاس، السرقة، الكذب، عقوق الوالدين بأبشع صوره، وغيرها الكثير مما فاحت رائحته عندهم.
فهؤلاء في الحقيقة وإن كانوا بالاسم على عقيدة المسيحية أو الإسلام مثلاً إلاّ أنهم استبدلوها بعقيدة أخرى تسمّى العلمانية أو الماركسية، أو المادية أو اللاشيء وإنما هي عقيدة قد التزموا بها من أنفسهم أو تأثروا بها من بعض الأشخاص حتى صار هناك ما يعرف بعبدة الشيطان، وعبدة الفرج، وعبدة كذا وكذا مما عدا الله عزّ وجلّ.
ومن الواضح مدى تأثير هذه الأفكار والاعتقادات على السلوك العملي لهؤلاء الناس، والواقع المنقول إلينا ـ كما تقدّم ـ كفيلٌ ببيان ذلك.
الثالث: دور العقيدة الإسلامية في سلوك المؤمن:
إن للشريعة الإسلامية عموماً من عقيدة وأحكام الدور المؤثر في معتنقيها وأتباعها العاملين بأحكامها وتشريعاتها، وعندما نطلع على تفاصيل الاعتقادات والتشريعات الإسلاميّة ندرك تماماً أنها تهدف إلى بناء الإنسان الكامل (بالكمال الامكاني) القادر على إدارة هذه الأرض التي جعله خالقه تعالى خليفة له عليها ليحكم بما أنزل عليه من كتاب وأحكام بالحق، وذلك عندما قال للملائكة }إني جاعل في الأرض خليفة{ (البقرة: 30) وعندما قال لنبيّه داود Q }يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله...{ (ص: 26) وغيرهما من آيات الكتاب العزيز.
ولذلك عندما يعتقد الإنسان بهذه الاعتقادات الحقّة لا بد أن تؤثر ايجاباً في سلوكه بما لا يتنافى مع اختياره وإرادته وقدرته على التزام التكاليف الإلهية حيث روعي فيها مصلحة التسهيل لكن بما ثبت بالدليل الشرعي المعتبر، وليس بالاستحسانات الفعلية والأقيسة الظنية التي ليس لها أيّ اعتبار شرعي.
ولكي تكون الصورة واضحة ولا يكون الكلام مجرّد نظرية نقف عندها لا بدّ من الدخول في بعض التفاصيل، وذلك بذكر بعض الاعتقادات التي تلعب دوراً فاعلاً في تحسين سلوك الفرد، وهي اعتقادات ثابتة في مذهب أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:
1 ـ الإيمان بالله تعالى ونبيّه المصطفى P وإمامة الأئمة من أهل بيتهR.
فإنّ من يؤمن بذلك يلتزم قولاً وعملاً بما يُؤمر به من الله تعالى ونبيّه وأهل بيتهR، بل يقدم على الاقتداء بهم في أفعالهم وأقوالهم وأخلاقهم وآدابهم، وقد ورد الحث على ذلك وتوجهت الخطابات للمؤمنين منها في الكتاب:
1 }يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين{ (البقرة: 153).
2 }يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه باحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم{ (البقرة: 178).
3 }يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيعٌ فيه ولا خلّة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون{ (البقرة: 254).
4 }يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون{ (آل عمران: 100).
5 }يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب... يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه...{ (الحجرات: 11 ـ 12) ومنها في السنة الشريفة كثيرٌ جداً:
1 ـ ما رواه الشيخ الصدوق{ في عيون أخبار الرضا Q باسناده عنه Q بعد أن ذكر الخمر وتحريم الله تعالى لها وعظيم مفسدتها قال: «فليجتنب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتولانا وينتحل مودتنا كل شراب مسكر، فإنه لا عصمة بيننا وبين شاربيها» .
2 ـ الإمام الصادق Q عن النبي P: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسب فيه إمام، أو يغتاب فيه مسلم...» .
3 ـ في الصحيح عن الإمام الصادق Q عن رسول الله P: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفِ إذا وعد» .
4 ـ الإمام الصادق Q: جاءت فاطمة O تشكو إلى رسول الله P بعض أمرها فأعطاها رسول الله P كُريسة  وقال: تعلمي ما فيها، فإذا فيها: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت» .
5 ـ الإمام الصادق Q: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملنّ أجيراً حتى يعلمه ما أجره» .
فالإنسان المؤمن بالله ورسوله والأئمة واليوم الآخر عندما يقرأ أو يسمع هذه الخطابات التي توجّه إليه لتأمره أو تنهاه أو ترشده إلى فعلٍ أو ترك لا محالة يتأثر بها ويتمثلها لأنّ في الامتثال حقيقة الإيمان، وفي العمل يظهر الإنسان صدق اعتقاده وخلوص نيته.
وبعبارة أخرى ترجمة الإيمان والاعتقاد الحق يكون بالعمل بما يمليه عليه إيمانه وذلك بامتثال أوامر المولى ونواهيه.
والشخص الذي يبادر إلى ذلك سيكون ذا شخصية متزنة مستوية، يعرف ماذا يريد من هذه الدنيا، ويعرف ما هو سبب وجوده، وماذا يراد به في مستقبل الحياة. هكذا شخص سيكون إيمانه دافعاً له ليكون الشخص الذي يستحق خلافة الله تعالى، ويستحق أن يمتدح في آيات نزلت من عند الله وفي كلمات صدرت من فم سيّد الأنبياء وأوصيائه الطاهرينR.
ومن الواضح أن هذه الشخصية المتأثرة بإيمانها الحق سنرى فيها صفات المؤمنين من التسامح والغفران والإيثار والشكر والصبر، والبشاشة، وحسن الجوار، واكرام الضيف وإغاثة الملهوف، ورحمة الضعفاء والأيتام والمساكين.
وسنرى فيها المؤمن القوي الذي لا يخاف في الله لومة لائم بعد أن عقد العزم على الالتزام بما يريده الله تعالى منه فيواجه المنكر بالنهي عنه بكل وسيلة ممكنة، ويواجه الشر والظلم بالمقاومة بأشكالها كافّة، ولا يسكت على ظالم ولا يستسلم لطاغٍ ولا يهاب الصعاب.
وهذا ليس شخصاً خيالياً نصوره في أذهاننا ونراه في أحلامنا ونتمنّاه فقط في واقعنا، بل هو حقيقة وواقع وقد تمثّل بأشخاص كثيرين منذ زمن آدم Q وإلى أيامنا وسيبقى له مصاديق وأفراد إلى يوم القيامة.
فإننا إن عدونا الأنبياء والأوصياء فأين نحن من الأتباع الذين ما طرفت لهم عينٌ إلاّ في طاعة الله تعالى فمن هؤلاء:
1 ـ المؤمنون القلّة مع نبي الله نوح Q الذين وفّوا معه وكانوا في سفينته.
2 ـ أصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه الكريم الذين فضلوا نار الدنيا مع الإيمان على نار الآخرة مع الكفر.
3 ـ المؤمنون القلّة الذين ثبتوا مع أنبياء زمانهم: هود وصالح وشعيب ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام أجمعين.
4 ـ أين نحن من صحابة رسول الله P الأوفياء الصادقين المخلصين أمثال: عمار بن ياسر، والمقداد الكندي، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة وعبد الله بن عباس، وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وغيرهم وغيرهم؟!
أين نحن من مالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر، وقيس بن سعد بن معاذ.
واللائحة تطول، فإنّ في كل عصر وزمان نرى أفراداً تمثلت فيهم شخصية الإنسان المؤمن الملتزم بعقيدته، المتأثر بإرشادات دينه وتوجيهات نبيّه وإمامه، والتاريخ والأحاديث تذكر لنا نماذج كثيرة ممن عاصر الأئمة الأطهارR.
5 ـ العلماء والفقهاء الذائدون عن حياض الدين، والمتمترسون في قبال أهل البدع والأهواء والضلالات من أهم هذه النماذج، وكم من عالم فقيه سقط شهيداً في هذه الدرب.
6 ـ المجاهدون بأنفسهم وهم كثر. ألم تكن العقيدة والإيمان هو ما صاغ شخصيتهم وألبسها قالب الجهاد حتى الشهادة؟
هل يمكن لكلّ هؤلاء أن يكونوا على ما كانوا عليه لولا العقيدة ولولا التزامهم قلباً وقولاً وعملاً بما تقتضيه هذه العقيدة؟
هل يمكن لإنسان أن يقدّم نفسه ومن معه من أهل بيته وأصحابه وكلّ ما يملك في سبيل الدين لولا العقيدة التي آمن بها وانغرست مفاهيمها في عقله وقلبه حتى صار لا يجد له حياة بدونها، ولا قيمة لحياة لا تتمثل فيها تلك العقيدة الحقة في الواقع؟
7 ـ في واقعنا الحالي نلمس بشكل واضح وجلي تأثير العقيدة الإسلامية والإيمان الحق بالله تعالى في سلوك أتباع هذا الدين الحق لا سيما في التزام الجهاد في سبيل الله وتقديم النفس فداءً على مذبح الإيمان والدين الحق.
نعم يتفاوت التأثّر بين فردٍ وآخر وهذا مرجعه إلى ما سيأتي ذكره لاحقاً.
2 ـ الإيمان بعدل الله تعالى واليوم الآخر
فإنّ من يؤمن بالله عزّ وجلّ لا يمكن إلاّ أن يؤمن بعدله وحكمته وأنه تعالى لا يضيع أجر المحسنين كما أنّه توعّد المسيئين بالعقاب.
فهذا الإنسان يدرك أنّ كل عمل يقوم به أو قول يتلفظ به مكتوب محسوب عليه مدّخر له إلى يومٍ ما، هو اليوم الذي تشخص فيه الأبصار لربّ العالمين الحاكم العادل الذي لا ظلم عنده قال تعالى: }كل نفس بما كسبت رهينة{ (المدثر: 38).
وقال: }ليجزي الله كل نفس ما كسبت{ (إبراهيم: 51).
وقال: }ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون{ (يونس: 52).
وقال: }فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون{ (فصلت: 17).
وقال عزّ وجلّ: }ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد{ (ق: 18).
وفي الروايات عن أئمة الهدىR أنّ هناك ملائكة يكتبون الحسنات وملائكة يكتبون السيئات. وكلّ إنسان له كتاب الأعمال تكتب فيه أعماله وأقواله الحسنة والسيّئة ويعطى له يوم القيامة حتى لا يستطيع أن ينكر هذا أو يهرب من ذاك، ويكون حجّة عليه بين يدي الملك الجبار.
فإذا آمن الإنسان بعدل الله واليوم الآخر، وجعل ذلك نصب عينيه سوف لن يقع في مخالفة أبداً ما دام متذكراً ومستشعراً ذلك.
فلا يأكل حقوق الآخرين، ولا يعتدي عليهم، ولا يؤذيهم ولو بكلمة من غيبة أو بهتان أو نميمة أو سباب أو شتيمة لأنّ ذلك كلّه مسجّل عند من لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السماوات والأرض، قال عزّ وجلّ: }وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء{ (يونس: 61).
وقد بيَّن الله تعالى أن للمحسنين كتاباً سمّاه بكتاب الأبرار موضعه «في عليّين»، وللمسيئين كتاباً سمّاه بكتاب الفجّار موضعه «في سجّين. قال عزّ وجلّ في ذلك }كلا إن كتاب الفجار لفي سجين * وما أدراك ما سجين * كتاب مرقوم * ويلٌ يومئذ للمكذبين... كلا إن كتاب الأبرار لفي علييّن * وما أدراك ما عليّون * كتاب مرقوم * يشهده المقرّبون...{ (المطففين: 7 ـ 21).
فإذا أدرك الإنسان ذلك وآمن به وجعله نصب عينيه كان له التأثير الكبير في سلوكياته الحياتية كافة، والأمثلة والنماذج التي ذكرناها خير دليل على ما نقول.
ـ الفات وتنبيه: نرى كثيراً من الأفراد الذين يجاهرون ويعلنون إيمانهم بالله تعالى وأنبيائه وكتبه وباليوم الآخر، وبكل ما يرتبط  بعالم الآخرة وبالحساب والجنة والنار إلا أننا لا نرى أثراً لهذا الإيمان وهذه العقيدة في سلوكهم العملي، فأين هو دور هذه العقيدة في حياة هؤلاء؟! بل نستطيع أن نقول أن لا دور لها أبداً في حياتهم.
والجواب على ذلك: إن الشريعة الإسلامية بعقيدتها وأحكامها تقدم للإنسان المبادئ والأسس والتشريعات بشكل كامل متكامل وتقول له: إذا اعتقدت بها وعملت بها وامتثلت أحكامها فإن النتيجة ستكون: إنسانٌ ذو شخصية مميزة في علاقتها مع خالقها وبالتالي في علاقتها مع أفراد المجتمع كافّة.
والإنسان الذي يسلك هذا الطريق يشعر بالنتيجة والآثار الكبرى التي تترتب على ذلك.
ولكن من يكتفي بالاعتقاد بعيداً عن العمل وبذل الجهد، ولا يتطلّع إلى بناء الشخصية الإيمانية الراقية سوف لن يرى تلك النتيجة أبداً.
كما أن انغماس الإنسان بملذات الدنيا وشهواتها بعيداً عن القيود الشرعية والحدود الإلهية ولا يكون عمله موافقاً لاعتقاده وإيمانه يكون هذا الإيمان بالقول مجرّداً عن العمل بل هو مجرّد لقلقة لسان تكون حجّة عليه ووبالاً في الدنيا والآخرة.
نعم لو ثبت الإنسان على عقيدته الحقّة، وسلك طريق العمل الدؤوب التزاماً بأحكام الشريعة فالله تعالى سيكون معينه وناصره ودافعاً له قال تعالى في كتابه العزيز: }والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين{ (الأنعام: 69).
وقد وصف النبي الأكرم P هذا الجهاد بالجهاد الأكبر وهو جهاد النفس، والإنسان في هذا الجهاد قادر بالاعتماد على ربه أن ينتصر ويفوز ويقضي على الشهوات في غير حِلٍّ، وعلى النفس الأمارة بالسوء، وعلى وساوس الشيطان الرجيم.

 

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=274
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 04 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28