• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : أسرار الحج .

أسرار الحج

 

 

أسرار الحج

 

 

إن الطاعات و العبادات في الإسلام إنّما هي ألطاف إلهيّة لتكميل النّفوس المستعدّة و الوصول إلى الغاية المتوخاة من خلق الإنسان، فبالعبادة ينال الإنسان مقام العبودية التي هي مجمع الكمالات الإنسانية و بها يصل إلى درجة الخلّة الحقيقية، و بها يتقرب العبد إلى خالقه و يصل إلى ساحة قدسه، و بها تتخلّى النفس من الرّذائل و تتحلّى بالفضائل و تتخلّق بالأخلاق الإلهيّة لتتجلّى أنوار الغيب على القلوب و تفوز بالسعادة التي هي فوق كلّ مطلوب وبها ينال العبد مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به عزّ و جلّ. كلّ ذلك إذا أتى العبد بها على وجهها المطلوب

و من العبادات في الإسلام الحج الذي هو السّفر إلى اللّه تعالى للوقوف بين يدي عظمته و الدخول في ضيافته في بيته و حرمه الذي جعله من أبواب رحمته فمن دخله كان من الآمنين

و هو سفر يتضمّن كثيرا من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلا من خلع عن نفسه الأغيار و دخل في حريم كبرياء الجبار

و هو السّفر الذي تتحقق فيه الأسفار الأربعة التي تكون للسّلّاك من العرفاء و لا ينال العبد ما في هذا السّفر و لا يصل إلى الوجه المطلوب إلا إذا كان ملتفتا إلى سفره: مبدئه و غايته، و متوجها إلى كلّ جليل و دقيق  في الحركات و الأفعال بل حتى الخطرات، فإنّ المقام جليل و المطلب خطير و لا يناله إلا من كان بانيا على التكميل، لأنّ أصل تشريع هذا السّفر إنّما هو لتحريك النفس الإنسانية إلى المشاعر الربوبية و الانتقال منها إلى المنازل المعنوية و التوجه فيها إلى المعارف الإلهية، و تحلّي النفس بأخلاق اللّه تعالى فتصير الدّنيا و الآخرة عنده كمرآتين متقابلتين تحكي إحداهما عن الاخرى على نحو النقص و التمام اللذين هما من خصوصيات الذات و الزمان لا من جهات أخرى

و في هذا السّفر منازل و مقامات لا يمكن الوصول إليها إلا بعد طيّها و الخروج منها على الوجه المطلوب و نبذ ما هو المعتاد و المألوف فإنّ الشيطان حريص على الغواية و التضليل

و أول تلك المنازل حمل الزاد و تهيئة المركب كما في سائر الأسفار الدنيوية فإنّ أول ما يفعله المسافر حمل الزاد و معرفة أمن الطريق و توثيق الصلة مع أرباب النّواحي و تثبيت الارتباط مع مدبّر كلّ بلد و مديره ليأمن كيدهم، و كلّ ما عظم السفر اشتدت الحاجة إلى الزاد

و السّفر إلى الحج سفر إلى اللّه تعالى فلا بد من الاهتمام بما يأخذه من الزّاد و قد أخبرنا اللّه عزّ و جلّ أنّ التقوى هي خير الزاد فإنّها من أعظم السبل في توثيق الصلة و الارتباط مع مالك الملك و مدبّر الأمور و هي مالكية أزمة الآخرة و يتبعها مالكية أزمة الدنيا فإنّها تبع الآخرة فإنّ للدنيا جهتين: الأصالة

لكونها محلّ العمل، فلو لا الدنيا لما كان عمل و لا عامل و لا تكليف و لا جزاء وجهة التبعية لكونها مزرعة الآخرة. فلو لا الآخرة لما خلقت الدّنيا، فبالتقوى ينال محبة اللّه تعالى و بها يمتطي ضهوة النّفس الأمارة و يأخذ لزمامها. و هي مفتاح كلّ خير و صلاح

و من منازل هذا السّفر الخطير الإعراض عما سواه عزّ و جل و الابتعاد عن الأغيار، لأنّه السّفر إلى اللّه و السّير إلى حريم كبريائه عزّ و جل فلا بد أن يكون حجه و عمرته للّه ربّ العالمين.                

و من منازله أيضا البناء و العزم على إتيان العمل جامعا للشرائط و أن لا يقدم عليه إلا و هو مطمئنّ النفس على إتمامها فإنّ قطع العمل و الرجوع عن السّير بعد التلبّس به مما لا يليق بمقام العبودية بل قد يوجب الحرمان كما هو معروف لدى أهل العرفان.

ثم يحرم عند الوصول إلى الميقات و هو أول المقامات فيحرم النفس عن المشتهيات و يوقفها عن كافة الشهوات و يطرح عنها كلّ مشتبه و حرام عند خلعه الثياب عن الأبدان

و يتهيّأ للدخول في الحرم الإلهي و الورود في ضيافة الرّحمن و لا بدّ أن يلاحظ أنّه في المأمن الإلهي، و هو من أهمّ ما يبتغيه أهل السّير و السلوك في اللّه تعالى فيجب أن يكون السّعي و العمل متفقين مع الإرادة القلبية و كلاهما للّه تعالى فترتفع الأغيار و تزول الحجب و الأستار

ثم الطواف بالبيت رمز العشق باللّه عزّ و جل و هو جذب روحي و إظهار للعبودية فلا بد و أن يكثر من ذلك كالمحب الذي تيّمه الحب و ذلله و هو يطوف حول بيت الحبيب و قد علا صوته بالبكاء و النحيب لعلّه يلقاه أو يجيب، و في الطّواف حكم و إشارات منها التردد في محالّ القدس و الإعلام بأنّ الطالب للحبيب لا بد له من الفناء فيه ليفوز بلقياه و نيل إفاضاته

و الصلاة في المقام إشارة إلى التشبّه بخليل الرّحمن في تركه طاعة الشيطان

و في السّعي بين الصّفا و المروة انقطاع إلى ربّ الخلائق و إبراز التحيّر في ذاته المقدّسة و اظهار العشق له و نبذ كلّ صنم و وثن و معبود سواه

و الوقوف بالمشاعر العظام إنّما هو تذكير بالوقوف بين يدي اللّه تعالى في عرصات يوم القيامة و إبراز الخضوع و الخشوع لعظمته تعالى و إظهار التذلّل و العبودية لساحة قدسه فلا بد و أن يكون على سكينة و وقار طالبا مغفرته ورضوانه، فإنّ تلك المشاعر العظام ليست إلا من مظاهر التوحيد و إلقاء الشرك و الكفر. و الوقوف فيها مع ما فيها من الزحام إراءة نموذج ما يكون في طريق                 

 المصير إليه تعالى و ظهور الحق و فناء التكثّرات فيه

والإفاضة منها مع ضجيج الحجيج و النّداء و العجيج، و هم يفيضون من كلّ حدب و صوب قد تخلّوا عن الأهل و الأوطان و هم ضيوف جنابه يريدون ساحة قدسه قد تلقّاهم الرّبّ الرّحيم بكلّ حنان و رأفة و عناية و رحمة و هو الرّبّ الرّحيم قد وعدهم أن يزيل عنهم كلّ أهوال المحشر فكان هو المبدأ و المنتهى و تجلّت الإفاضة منه و إليه

 و في رمي الجمرات استعداد الإنسان للابتعاد عن الشيطان و الإعراض عن الخطيئات و السيئات

و في إفناء حياة الهدي بالذبح إشارة إلى إفناء النّفس الأمّارة بعد الإهلال و إظهار التقصير و العجز، و كناية عن طرح كلّ رذيلة عن النّفس و المجاهدة معها في كلّ حقير و كبير

و الرجوع من الحرم إلى الأهل يعتبر رجوعا لتكميل معارف الدّين و أحكام شريعة سيد المرسلين فيتجلّى في هذا السّفر كلّ ما يبتغيه أهل العرفان

و لا بد أن يكون في جميع الأحوال مولعا بذكر الحبيب طالبا منه مغفرته و رضوانه فإنّ الحبيب لا ينفك عن البكاء و النحيب إذا صد عن حبيبه و طرد عن بابه

         ملأت به سمعي و قلبي و ناظري             و كلّي و أجزائي فأين يغيب‏

 هذه نبذة يسيرة ممّا لا بد أن يعمله السائر في هذا الطريق فإنّ في الحج قد اجتمعت قواعد السّير و السلوك المتبعة في تهذيب النفس

و في الحج تتجلّى المشارقات الربوبية على الرّوح الإنساني، فكم من عناية إلهيّة تفاض على أهل عرفات؟!! و كم من شروق غيبيّ يشرق على النفوس المستعدّة في المشعر الحرام؟

و كم من تجلّيات ربوبية تظهر للذوات القابلة في الرّكن و المقام!!              

و كم من نفس تلوثت بالذنوب و الآثام تطهر عند إراقة الدّماء في منى!! و كم من ذنوب يحطّمها الرّبّ العظيم عند الحطيم

و كم من خطايا يغفرها الرّبّ الغفور الرّحيم عند التعوّذ بالملتزم و المستجار

و كم من نفس تصل إلى مناها عند الوصول إلى منى

وكم من عناية و لطف تظهران لعبده عند استلام الرّكن الذي هو يمين اللّه في الأرض يصافح بها عباده

                         المصدر :  مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج‏3، ص: 209 _ 213ا


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=314
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 11 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29