• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : الدولة مدنية لا دينية .
                          • رقم العدد : العدد التاسع عشر .

الدولة مدنية لا دينية


الدولة مدنية لا دينية

الشيخ يوسف علي سبيتي

 هل يصح إطلاق وصف " الدينية " على الدولة؟ وهل هناك فرق بين كون الدولة دينية أو مدنية؟ بمعنى متى أطلقنا وصف "الدينية" على الدولة، لا يصح إطلاق المدنية عليها، والعكس صحيح، فالدولة إما دينية وإما مدنية، ولا ثالث لهما.
 وهل إذا أرادت الدولة أن تطبّق شريعة الله تعالى، تكون دولة دينية ولا يصح إطلاق وصف "المدنية" عليها؟ وإذا لم ترد أن تطبّق أحكام الله تعالى فهي دولة مدنية، ولا يصح إطلاق وصف "الدينية" عليها.
 إذا كان الثاني صحيحاً، فهل الأول صحيح؟ حيث لا قاسم مشتركاً بينهما، ولا شيء يجمع بينهما.
 قد يُظن للوهلة الأولى كذلك، فالدولة إما دينية وإما مدنية، فلا يصح أن تكون دينية مدنية، لكن الواقع ليس كذلك.
 لا يصح وصف الدولة بأنها دولة دينية، فهي لا تحمل إلا وصفاً واحداً، وهو وصف الدولة المدنية، فالدولة فعل إنساني بامتياز، ولأن الإنسان مدني اجتماعي بطبعه، فهذه المدنية والإجتماعية هي الدافع الأول والأساس لقيام الدولة، إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش حياته المدنية الطبيعية، إلا من خلال دولة تنظّم شوؤنه وتحقق مصالحه، وتحقق العدالة الإجتماعية والأمن الإجتماعي، وإذا أراد الإنسان أن يطبق شريعة الله، فهذا من حقه الطبيعي، فهو إنسان تدفعه إنسانيته لإنشاء دولة، ويريد الضمانة لتحقيق العدالة والأمن الإجتماعيين، وتنظيم شؤونه، وهناك المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، ويريد التوفيق بينهما وإيجاد التوازن بينهما، فلا تترجح إحداهما على الأخرى، فمن حق الإنسان أن يختار القانون الذي يراه مناسباً لتطبيقه في حياته الفردية وحياته العامة، ومن حقه أن يختار القانون الذي يراه الضمانة له لتحقيق العدالة والأمن الإجتماعيين.
حاكمية الشعب:
 وإذا كانت الدولة المدنية في العصر الحاضر تعني أن الحاكمية للشعب، وأن الشعب هو سيد نفسه، وأن للشعب حرية اختياره لحكامه عن طريق الإنتخاب، وأن السلطة الحقيقية هي للشعب، وأن أركان الدولة المنتخبون هم في حقيقة أمرهم ممثلون للشعب في سلطته.
 وإذا كانت الدولة التي يختار فيها الإنسان تطبيق شريعة الله، تعني أن الحاكمية لله تعالى، وأن السلطة الحقيقية هي لله تعالى، فهل يعني أنه يلغي نفسه؟ وأنه لا دور للشعب في هذه الدولة، وأنه ليس حراً في اختيار حكامه، وأن الشعب ليس له ولاية على نفسه، وأن حكامه يعينون من خارج.
هذا الكلام غير صحيح، لأن الدولة التي تختار تطبيق شريعة الله، لا تلغي ولا يمكنها أن تلغي دور الشعب، لأن الدولة عبارة عن سلطة وشعب وأرض، فلا الدولة تكون قائمة مع عدم وجود الشعب، والأرض والشعب لا قيمة لهما من دون دولة.
 والخلط القائم أن الدين لا يرضى بغير حاكمية الله تعالى، بحيث يفهم البعض أن الشعب ليس له أي دور، وأن الحكم القائم على أساس حاكمية الله وتطبيق شريعته هو حكم ثيوقراطي، دكتاتوري، غير ديمقراطي، فالدين لا يرضى بنظام قائم على الانتخابات وحرية الرأي والتعبير، مع أن تجربة الدين تبين عكس ذلك، أو على الأقل النصوص التي تتحدث عن تجربة الدين وإن كانت قليلة، تتحدث عن أمر آخر لا علاقة له بالدكتاتورية والثيوقراطية، بل كانت تجربة غنية بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وحرية المعتقد، وأعني بشكل خاص تجربة الخلفاء الأربعة، وبشكل أخص تجربة الخليفة الرابع، أمير المؤمنين علي "ع".
والخلط أيضاً يحصل عندما يتبنى المذهب الشيعي نظرية الامامة، حيث يفهمها البعض أنها نظرية في الحكم والدولة فقط، فتكون عنده حكم الفرد الواحد وحكماً دكتاتورياً بنظرهم، وهي خلاف الحكم الديمقراطي، مع أن نظرية الامامة ليست نظرية في الحكم فقط، بل هي أشمل وأوسع.
وعندما تحصل المقايسة بين هذه النظرية ونظرية الشورى، حيث تعتبر الثانية أفضل من الأولى، لأنها تعتبر أن الشورى هي إنتخاب الحاكم من قبل الشعب أو ما يعبر عنه بأهل الحل والعقد، بينما الأولى تعتبر أن الحاكم يتم تعيينه من خارج دائرة الشعب، ولا علاقة للشعب باختيار الحاكم، وهذا خلط آخر فإن مفهوم الشورى في الإسلام أوسع دائرة من مجرد تعيين واختيار الحاكم، بل له وظيفة أخرى، حتى لو أخذنا بنظرية الامامة، فإنها لا تلغي نظرية الشورى أو مفهوم الشورى، فإن الإمام المعيَّن، لا يعني أنه لا يعمل بالشورى، وهذا ما نلاحظه في سيرة رسول الله، فقد خاطبه الله تعالى بقوله "وشاورهم في الأمر" أو في خطابه تعالى للمؤمنين بقوله "وأمرهم شورى بينهم" فإن هذين النصين واضحان في بيان طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون قائمة بين رسول الله من جهة وبين المؤمنين من جهة أخرى، التي يجب أن تكون قائمة على أساس الشورى والأمر عام يشمل نظام الحكم والإدارة، وهذا يعني عدم مشروعية نظام الفرد الواحد الذي يسمى الآن نظاماً دكتاتورياً واستبدادياً، وسيرته "ص" كانت قائمة على أساس من الشورى، فقد كان يشاور أصحابه في قضايا السلم والحرب، وكان في بعض الأحيان ينزل عند رغبتهم، ولم تكن سيرته تلك إلا تطبيقا للمبدأ القرآني الذي مرت الإشارة إلى آياته الكريمة، والنصوص المروية عن أمير المؤمنين علي "ع" من خلال ما وصلنا من خطبه "ع" لهذا الخصوص في نهج البلاغة، أيضاً تؤكد عمله بمبدأ الشورى، أو تأسيسه بهذا المبدأ في نظام الحكم.
وإذا كان المذهب الشيعي يرفض نظرية الشورى في تعيين خليفة رسول الله "ص" فهو لا يرفضها كوظيفة للحاكم، بل يفرضها عليه مهما كانت صفة هذا الحاكم، انطلاقا مما تقدم من النص القرآني، وسيرة رسول الله "ص"، ومن نصوص نهج البلاغة أيضاً.
وفي العصر الحاضر لا يمكن إلا تطبيق نظرية الشورى في الحكم والدولة، من خلال إعطاء دور للشعب في اختيار حكامه وممثليه في المؤسسات ذات الصلة، مجلس النواب مثلاً، أو رئيس الجمهورية، والطريق الآخر هو الدكتاتورية، وهذا أمر يرفضه الاسلام بكل قوة، فإن الدكتاتورية تعني الاستبداد وخنق الحريات.
الدولة ورجال الدين:
الإشكالية الأخرى في قضية الدولة الدينية أنها قد تكون بيد علماء الدين، وهذا ما يرفضه العلمانيون والليبراليون، حيث باعتقادهم أن علماء الدين لا علاقة لهم ولا شغل بالسياسة، وهذا موقف غير واضح، مادام أن رجال الدين مواطنون لهم حقوقهم المدنية، فهل أن مجرد كونهم علماء دين يسلبهم حقوقهم المدنية؟! لا أريد القول أن كل رجل دين له الحق في العمل السياسي، فهذا أمر غير سليم، لكن من حق رجال الدين العمل السياسي، إذا كانوا يملكون الخبرة والكفاءة والمقدرة، مادام أن الهدف من العمل السياسي هو تطبيق قوانين العدالة والمساواة والأمن الإجتماعي، وعلماء الدين يملكون الأ سس لهذه القوانين، إنما مشكلتهم انهم يستمدون هذه الأسس من تشريعات إلهية يؤمنون انها الوحيدة الكفيلة لتامين العدالة والمساواة، ولا يعني هذا إلغاء بقية القوانين العرفية  والإجتماعية التي تساعد على تأمين العدالة والمساواة، فإن هناك قوانين تستطيع الدولة أن تطبقها إذا كانت تحقق العدالة والمساواة وإن كانت مأخوذة من قوانين إجتماعية وعرفية، والتشريعات الإلهية وضعت الأسس والقواعد العامة لتطبيق العدالة والمساواة، ولم تدخل في تفاصيل الموضوعات الخارجية لهذين الأمرين، بل تركت أمور هذه التفاصيل للفرد ذي الخبرة لتطبيقها.
ولا يعني هذا أن يكون علماء الدين هم الدولة، بل هم جزء من الدولة كونهم مواطنين في هذه الدولة لهم حقوقهم المدنية التي تتيح لهم المشاركة في العمل السياسي، شأنهم شأن أي مواطن يملك العلم والخبرة والكفاءة.
ولا يعني هذا أن وجودهم يعطي شرعية للدولة، وأن عدم وجودهم يسلب هذه الشرعية، لا، ليس الأمر على هذا النحو فإن شرعية الدولة مستمدة في العصر الحاضر من الشعب من العملية الدمقراطية القائمة على أساس الإنتخابات، ولا طريق آخر لأخذ هذه الشرعية، فإن أي طريق آخر خارج دائرة الديمقراطية والإنتخابات يعني الدكتاتورية والإستبداد، وما الجمهورية الإسلامية إلا مثال واضح على هذا، فإن العملية الإنتخابية جزء أساسي من العملية السياسية، بل إن حرية الرأي معمول بها أفضل من كثير من الدول الديمقراطية، ويكفي مثالاً على ذلك وجود المعارضة التي تكونت من رجالات الثورة الذين كان لهم الدور الأساسي في انتصارها ووجودها.
ووجود علماء الدين في الدولة لا يجعلها دولة دينية، وينزع عنها صفة المدنية، كما أشرنا سابقاً أن وصف الدولة بالدينية وصفٌ غير صحيح مادامت الدولة عملاً إنسانياً محضاً وليست عملاً دينياً، بمعنى أن الدولة لا تحتاج في أصل وجودها إلى تشريع ديني، بل إن الدين لا يتدخل في هذا الوجود للدولة، مادام أن المجتمع الإنساني يعتبر الدولة جزءاً أساسياً من مكوناته الإجتماعية، ولا يمكن لأي مجتمع إنساني أن يبقى ويستمر من دون وجود الدولة، فليست هي حكراً على المجتمعات غير الدينية، بل إن المجتمعات الدينية مثلها مثل أي مجتمع إنساني آخر تنظر إلى وجود الدولة كجزء أساسي في مكوناتها الإجتماعية، هذا مع التسليم بوجود مجتمعات غير دينية؟!
 
     


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=326
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2011 / 01 / 14
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19