• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : إسهام الآخر في تشكيل الهوية الثقافية في .
                          • رقم العدد : العدد الواحد والعشرون .

إسهام الآخر في تشكيل الهوية الثقافية في

الشيخ حسن بدران

"فلسفتنا"، مجموعة مفاهيمنا الأساسية عن العالم، وطريقة التفكير فيه. هكذا عرّفه الكاتب. أي فلسفة الفكر الاسلامي في مقابل فلسفة الفكر الماركسي والرأسمالي بوصفهما الفكر الحي الفاعل في التاريخ. والنسبة هنا تشي بحيادية الفلسفة، ولهذا ينبغي أن تُنسب.. الفلسفة هي اشتغال انساني، ولكل صنف من البشر نتاجهم الفكري وخصوصيتهم التي تعبر عن هويتهم الثقافية والحضارية. هكذا يضع الشهيد الصدر الفكر الاسلامي في مواجهة مع فكر الآخر. هادفا من وراء ذلك إحراز أمرين:
- الأول، بيان مكامن الخلل في الفكر الغربي، سيما الماركسي منه. وهو سوف لن يترك الأبواب مشروعة للنيل من الهوية الثقافية الخاصة.
- الثاني، ابراز الهوية الفلسفية بمعنى تشكيل هذه الهوية تشكيلا عصريا. وهو سوف يفتح الابواب على مصراعيها ليس بهدف شحن الحمولة الثقافية الوافدة، وانما تمحيص ما يمكن ان يشكّل مدخلا لفهم الخصوصية في نطاق العصر.
لطالما كان يُنظر إلى كتاب "فلسفتنا" بإعجاب شديد من الجانب الأول، إلا أن الدراسات المتأخرة، سيما المتعلقة بشؤون التجديد والتحديث، ساهمت إلى حد ما في الاضاءة على الجانب الآخر من الكتاب بوصفه الجانب الأكثر ابداعا وتجديدا فيه. فقد انقرضت الخصوصية الماركسية من مسرح التاريخ، وانكمش الفكر الشيوعي في اطارات ثانوية محايدة. ومع ذلك بقي كتاب "فلسفتنا" مفتوحا في جانبه الابداعي الخاص، أعني التعبير عن الهوية الثقافية العصرية.
وتتحدد قيمة الكتاب هنا في المعاودة التأصيلية للتراث، أي الخروج من وحل الهامشيات والتركيز على الاساسيات الفاعلة في حاضر الأمة، وذلك بتفعيل التراث واستخراج النقي النافع منه من خلال وضعه في تحدّ مع الآخر.
إلا أن ما نطمح إليه هنا هو تناول المادة السجالية التي استوعبت الكتاب على مستوى الهوية، فنتناول الدراسة – كدراسة - وبصرف النظر عن القيمة المعنوية والاستثنائية التي يحظى بها الكاتب، وما يمثله الكتاب من نواة أساسية يمكن أن تشكل مرتكزات لمشاريع طويلة الامد، ذلك أن الدراسة الجدية تحثنا دائما على التقدم شوطا إلى الأمام وعدم الاكتفاء بالوقوف على الاطلال، تماما كما فعل كاتب "فلسفتنا" نفسه.
سوف نتابع عرضا خاطفا في الحديث عن الهوية كما تشكلت في الفكر الغربي، مع التنبيه إلى أننا مصابون هنا حتى العظم بداء التعميم في التعبير عن تلك الهوية. ذلك أن أهدافنا المباشرة تتمحور حول مقاربة الهوية الفلسفية كما بدت في فلسفتنا على ضوء العلاقة بالآخر، على الرغم من إدراكنا أن مقولات مثل (الهوية)، و(الأنا والآخر) تنتمي إلى البيئة المفهومية الغربية بامتياز، وهذا يعني أننا بشكل أو بآخر سوف نتحرك من وحي الآخر، وبتأثير من حضوره.
***
يتبع "فلسفتنا" نظام عقلنة المفاهيم منطقيا وفلسفيا. ذلك اننا نباشر الواقع بوصفه محسوسا لنا، ونعمل على تحويله إلى مفاهيم من خلال تجريده عن الخصوصيات الحسية، وهي مفاهيم يمكن تعقلها بوصفها الانعكاس الكلي المباشر للواقع، وتتشكل من هذه المفاهيم مقولاتنا عن العالم والتي يتضمنها الجواب عن: ما هو؟ ولهذا تحظى هذه المفاهيم بصفة "الماهوية".
ونحن لا نكتفي بعكس الواقع كما تفعل المرآة، أو بقلع القشور عن الصور الحسية وتجريدها عن الخصوصيات العارضة في عقولنا. بل ننتزع من مقارنة هذه المفاهيم ببعضها وملاحظة علاقاتها عينات مفهومية نصوغها بصورة أحكام ونطلقها على تلك المفاهيم الأولية، وهي مفاهيم لا تتمتع بأي صفة تمثيليةفي الواقع الخارجي أو النفسي، ولهذا فإن صفة العمومية هنا تتجاوز معنى الكلية، وتكون عابرة حتى للمفاهيم الماهوية. إن مفاهيمنا الماهوية تشكل مواد أولية لاضفاء الطابع المنطقي على تصوراتنا الذهنية، والطابع الفلسفي على تصوراتنا عن الخارج.
إلى هنا، تستنفد الفلسفة الاسلامية جهودها النظرية في الامساك بالواقع. ويبدو الواقع كما لو أنه نظام استاتيكي منجز، وفي نطاق مشبّع بالعمومية.. هو ارتداد عن الواقع الحسي بعد أن خضع لعمليتي تجريد وانتزاع. وواحدة من أهم نتائج هذا المسلك الفلسفي، أن الواقع يظل مرهونا لتصوراتنا التي يترتب عليها الزامات منطقية وفلسفية حاكمة على العلاقات ومآلاتها بنحو حاسم.
هل أن الصفة المشتركة بين الأفراد، والملازمة لهم دائما، تعبّر فعلا عن ماهية هؤلاء الأفراد في ذاتهم، أم تقتصر في تعبيرها على حدود خبرتنا ومعايشتنا لهم فحسب؟. أليس هذا الواقع واقعاً إنسانياً بامتياز؟! نجد هنا بعض التوصيات التي تنبهنا الى أن الصفات التي نسبغ عليها وضعا ماهويا هي خواص أشبه منها بالفصول، وفي هذا ايحاء قوي بالكف عن ادعاء الامساك بالواقع كما لو أننا ندركه كما هو، ومدعاة لمعاودة الفكر في الطبيعة الانسانية، وتشخيص مدى أهليتها للحديث عن الحقيقة المطلقة.
ان هذا الوضع يصيب الهوية الفلسفية في الصميم، من حيث ان الهوية هي حكم فلسفي يقضي بتطابق الماهيات التي ندركها مع الواقع كما يتجلى في احساساتنا، وليس الواقع كما هو في ذاته. وما المفاهيم الفلسفية والمنطقية سوى السلطة التي نمارسها على الواقع بالاستناد الى قانون الهوية.
إلى هنا لا يوجد شيء مقدس في نطاق المعرفة خارج الدائرة الانسانية، إننا عقلانيون حتى العظم، وحتى ديكارت يبدو أكثر "دينيةً" منا حين يجعل من الله تعالى ضمانة للمشاغبات الشيطانية على مستوى الفكر. وسوف لن ينتشلنا من هذا المأزق سوى إيماننا الميتافيزيقي.
يتحتم علينا إزاء هذا الوضع، إقامة نوع من الموازاة بين الانسان والحقيقة الكونية المطلقة.. بين الفكر والوجود. إن الانسان كما تصوره الاديان قد جعل خليفة على الارض، وهو سيد الطبيعة.. وما يستتبع ذلك من دلالة.. إن الانسان يحتوي على عينات مختلفة من كافة اطياف النسيج الكوني، ما يؤهله للحكم على الاشياء حكما مطلقا، أو على الأقل حكما أقرب ما يكون الى الحقيقة المطلقة..
وفق هذا الايمان، وهو بلا شك ايمان ميتافيزيقي، يمكن أن نتجاوز العقبة المعرفية الآنفة، فالفكر يقيم علاقة متكافئة مع الوجود، ويصل هذا التكافؤ الى حد التطابق، وبذلك تتشكل الهوية.
تنطلق فلسفتنا من أم القضايا "استحالة التناقض"، وتعمل على "قانون العلية" ومتفرعاته.. متجاوزة في ذلك "قانون الهوية: الذي يبدو كما لو أنه شيء منجز لا يستحق إطالة الوقوف عنده. ويسود هذا النمط من التفكير الذهنية العامة التي تعوّل على الهوية كصفة موضوعية، منجزة؛ ذلك أن الشيء بهويته النوعية وليس بمادته، والهوية النوعية حقيقة جامعة، يتشارك فيها أفرادٌ من العالم الإمكاني مشاركة ذاتية. وسوف تتسع آلية العمل هذه على الضبط والتحديد وفق أطر عقلية صارمة حاكمة على موضوعات تنتمي بطبيعتها إلى عالم الاعتبار والتنزيل، ولتنطبع الهوية في جميع مجالات البحث العلمي بطابع منطقي صارم. وبالتالي سوف ينصرف تفكيرنا بكليته الى مزاولة الثنائيات في علاقاتها المحايدة، كموضوعات مستقلة عن الذات.
 
يبدو أن مبدأ الهوية أخذ يتلقى الضربة تلو الأخرى، إنه مبدأ التناقضات الداخلية عند هيغل، وقبل ذلك هو مبدأ الحركة الجوهرية، وما يعتري النفس حين تكتسب معلوماتها عند ملا صدرا الشيرازي؛ إنها لا تكتسب معلوماتها، وإنما تكتسب هويتها عبر معلوماتها.
وسوف يعيد هيغل صياغة مبدأ الهوية "انطلاقا من صيغة التناقض أ= لا أ، في علاقة بين طرفين يتحركان نحو التطابق ويسعيان نحو الوحدة والتركيب".
وهو يدعو للاختلاف الكامن في الهوية، فالهوية لا تعبر عن ذاتها في التطابق مع الواقع، وإنما في عدم التناقض معه؛ وفي ذلك اقرار بعدم امساكنا بالواقع كما هو، والأهم: دعوة إلى مواصلة استكمال الهوية بوصفها سيرورة دائمة لا تنتهي.
و"الاختلاف الهيغلي مجرد لحظة من لحظات الهوية"؛ وليس في هذا دعوة إلى نقض مبدأ الهوية، وإنما إلى فهمه بنحو أشمل يقوم على أن الهوية في صميمها ليست شيئا منجزا ونهائيا ومغلقا ومتماسكا، وإنما هي ذات طابع تفاعلي، وفي إطار من النشاط التواصلي الدائم، انها ثبات السيرورة. هكذا أدخِل مبدأ الهوية في التاريخ.
إن تعبير "فلسفتنا" وإن كان قد يوحي بالاعتزاز بالهوية، كونه ينطلق من الذات الى الآخر وليس العكس، ما قد يعني ان الهوية التي تسعى لمنافحة الآخر هي هوية منجزة ونهائية. إلا أن هذا الآخر موجود ضمنا في هذه النسبة. وعلينا أن نعترف أن هويتنا الماهوية وإن كانت قد أنجزت من خلال النص، ولكنها لا تتبلور في التاريخ إلا من خلال مواكبة النص لمتطلبات فلسفة العصر ومنطقه. إن ماهيتنا لم تنضج فلسفيا ومنطقيا، والماهوي لا يجد مفعوله بمنأى عن الفلسفي والمنطقي.
إننا نبحث عن الهوية في نطاق التعبير عن التجربة التاريخية، وليس عن الهوية المستندة إلى القيم المعيارية للنص. ذلك أن الهوية المعيارية تبقى كامنة في النص، وتجد طريقها إلى التحقق عبر التاريخ، وعبره فقط تتحول من ذات قابعة في الماضي إلى ذات متموضعة في الحاضر ومتوثبة للمستقبل.
واذا كانت الماركسية تطبيقا من تطبيقات المادية في بعدها الكوني، وكانت تنتمي إلى جذر مادي يجد امتداده عبر التاريخ في تطور دائم ومستمر، فلا ينبغي استثناء "فلسفتنا" من هذا النظر، كونها تشكل امتدادا لنواة فلسفية تنمو عبر التاريخ وفق مستويات متعددة. وقد يفترض السجال بين الفكرين إيقاف الفكر عند لحظة تاريخية محددة بحيث يتم تحديد القوالب المفهومية المتداولة وفق ذلك المستوى. إلا أن الرهان الفلسفي لا بد أن يتجلى في نطاق التاريخ الحي، وينبغي أن نقر باننا لا نتحدث عن جذور الفكر [في نفسه] بمقدار ما نتحدث عن تمظهراته [في أنفسنا] على الرغم من صعوبة التفكير في الفصل بينهما.
ان صورة الآخر في كتاب "فلسفتنا" تتجلى بوصفه المادي الذي استحوذ على التاريخ من خلال نفي الروحي والغيبي.. فيما تتجلى هوية فلسفتنا في الذات الميتافيزيقية المشحونة بالقيم في السياق الدلالي النظري. والسؤال المهم: إذا كان "فلسفتنا" قد كسب معركة على المستوى النظري مع الآخر المادي، فهل يؤهله ذلك لكسب الحرب نهائيا على مستوى الهوية؟
لقد استهلك "فلسفتنا" في الاشتغال على قضايا فكرية تشكل معطيات ناجزة للفكر المادي الماركسي، وذلك انطلاقا من أسس ميتافيزيقية سائدة لم يعمل على تطويرها بمقدار ما عمل على بلورتها في سياق منظومي شامل. إن طبيعة النقد لن تطال مباشرة جوهر النظام الغربي الذي يعمل على تدجين العقل تقنيا وأنسنة المفاهيم في إطار التاريخ والبنية والمعاينة الشخصية للوجود، ما ينعكس نقدا للطابع التاريخي الذي يسود الهوية الفلسفية المتمثلة في كتاب فلسفتنا.
ان الخصوصية تتحدد في نطاق تمثل الذات مقارنة بالآخر، وتمثل الآخر مقارنة بالذات، وينشأ من كليهما بعد ثالث متعال عن الذات المغرقة في التجريد العقلاني، وعن الآخر المغرق في المادية العلمية. وما ابداع كتاب "فلسفتنا" سوى نتاج هذا التعالي حتى ولو لم يكن ذلك ماثلا في وعي كاتبه، أو في الآليات الفكرية التي استند اليها في منافحة الآخر، ذلك أنه يعمل وفق سنن التاريخ والارادة المنبثقة عنه؛ ذلك أن التواشج بالآخر مقولة حتمية على مستوى الوعي والمعنى، وإن ضمور الهوية هو نتاج التنازع على قاعدة الانطواء على الذات.
***
من جملة الظواهر التي تلازم عملية التفكير الحداثي، ذلك الاصرار على العزوف عن تحديد مدلولات المفاهيم تحديدا باتا، خلافا لما تقوم به المناهج التقليدية في مستهل أبحاثها. ويكفي الباحث أن يعترف بصعوبة تحديد المصطلح في مطلع بحثه.. وقد يسوق تعريفا أو تعريفين أو أكثر.. ولكن ليس بهدف وضع إطار نهائي لمفهومه، بل يظل المفهوم مفتوحا ومشرّعا على إمكانات دلالية قابلة للتطور بحسب نظام العلاقة على امتداد البحث، فالمصطلح يحظى بقابلية النمو والتطور، شأن اللغة التي تعرّف على أنها كائن حي ينمو ويتطور عضويا.
وعلى الرغم من التحفظ حول صوابية هذه المقولة، والايمان السائد بأن وظيفة اللغة هي في الكشف عن الواقع وليس العمل على توليده. إلا أننا نحاول وضع اليد على واحدة من أهم المؤشرات على المزاولة الحداثية في ارهاصاتها الأولى، إذ وفاقا لنزوع بنيوي تمتلك المفاهيم هامشا واسعا يجعلها تتحدد وفق نظام من العلاقات القائمة.وتتشكل الهوية في إطار كلي تتشارك فيه جميع الوحدات، والاسبقية هنا للكل وليس الجزء، والأجزاء تتحدد وفق السياق الكلي والنهائي للأحداث، والعامل الأساس في تشكيل الهوية هو موقعها في نظام العلاقات المتبادلة. ولذلك، ينبغي الكف عن إعطاء الاشياء بعدا جوهريا خارج أطر العلاقات القائمة بينها، وهو ما كان المنطق الارسطي يتقنه انسجاما مع مبدأ الهوية الذاتية.
وفي إطار النظر الفلسفي الوجودي، لا تتحدد أطراف النزاع كموضوعات محايدة، بحيث تغيب العلاقة التفاعلية بينها.. وإنما تطرح من زاوية ارتباط الأنا بالآخر، ويدخل فيها عنصر المحايثة الذاتية للآخر في علاقته بالأنا.
إن نقطة المكمن التي عمل عليها كتاب "فلسفتنا" هي في ضبط المصطلح، والحال أن النشاط المنهجي الغربي قائم على عدم استقلالية المصطلح. وإذا بدا أن المصطلح قد حظي بنوع من التماسك والانضباط، فإن في ذلك مدعاة لتحليله وتفكيكه ودراسته بنيويا، واختزاله إلى واقع نفسي، أو واقع وجودي شخصي، أو حتى إلى واقع مادي تجريبي، فضلا عن الاشاري والرمزي..
من هنا، يؤخذ على الشهيد الصدر – منهجيا - اشتغاله على ضبط المفاهيم بتأثير من المنهجية التقليدية السائدة. والحال أنه يعمل على بيئة سجالية تفترض الإحتفاظ بالحد الأدنى من التواصل المنهجي بين الأطراف، بأن ينظر إلى البيئة المفهومية كـ بنية تستدعي إجراءات منهجية تولي الاهمية للعلاقات القائمة والتي تتشكل على ضوئها موقعية الأطراف في السياق الحضاري. ما يعني ان الدخول في تحديدات مسبقة هو في واقعه نوع من الإقحام الاسقاطي لإلزامات منطقية من شأنها ان تتحكم مسبقا بمجريات الدراسة بحيث تترتب النتائج على نحو حتمي وحاسم. وإذا كان ممكنا أن نتجاوز منطق الآخر من خلال منطق الذات، فإن العكس صحيح أيضا وبنفس المقدار من الكفاءة والقدرة.
إن الحيادية التي أسبغها الشهيد الصدر على الآخر في علاقته بالذات تجعله أقرب إلى الفيلسوف الديني (بالمعنى الكلامي) منه إلى الفيلسوف الناقد، كونه يفترض العمل في نطاق الاحتكاك والتصادم بين أطراف تتحدد هويتهم في اشكال ميتافيزيقية، ويتمثلهم واقع مثالي، يتجاوز النظر إليهم كجماعات حية، يمكن أن تتكشف وفق احتمالات متعددة، بحيث تتحدد عملية تحققها في مجال التواصلبالآخر. هكذا بدا "فلسفتنا" مهجوسا ايديولوجيا بغايات صارمة، تنجز هوية الذات والآخر نهائيا كأطراف متنابذة في سياق المنافحة الحضارية.
***
يشير الباحثون الى الدراسات والندوات التي تعقد في الغرب بين الحين والآخر تحت عنوان (الاسلام والغرب). اذ يتم وضع بلاد الاسلام وفكرهم وحضارتهم في هذا العنوان مقابل جهة الغرب، وهو وإن كان يشير إلى جهة جغرافية إلا أنه أريد به بلاد الغرب وفكرهم وحضارتهم.. فتشمل الرأسمالي والماركسي وحتى الياباني.. وفي كل هذا دلالة على الخوف والهاجس الذي يعتري الغرب تجاه الاسلام.
والأنا ميزة الغرب منذ ديكارت فكريا، وإلى سارتر وجوديا.. والهوية تتشكل وفق سارترعبر الآخر: "أنا في حاجة إلى توسط الآخر لأكون ما أنا عليه".. إن الصدام الحضاري مع الآخر بوصفه "موضوعا للسيطرة أو مصدرا للخوف" هو شكل من أشكال التعبير عن الهوية وفقا للحداثة الحالية، وهذا النمط من الغيرية والاختلاف يعتري مبدأ الهوية كما تبلور مع هيغل وهيدغر واللاحقين. وعلينا أن نعي جيدا "أن هذا النوع من الرؤية للآخر هو من صميم الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر" .
تمتد ارهاصات مصطلح (الأنا والآخر) الى عصر الأنوار.. ولا نقع قبل ذلك على تصريح عنه ذي دلالة معتدة في الحقل الفلسفي. وقد تعاصر ظهوره مع إنكار الحقيقة النوعية التي يتشارك فيها البشر، وتصاحب مع اختزال الانسان الى مادة بلا صورة، ولاحقا إلى انسان بيولوجي محكوم بفردانيته.. مما يغلب على الظن أن سؤال الأنا والآخر طرح كنتيجة لفقدان الهوية الانسانية في سلسلة تواصلها، وروحها الجامعة.
الأنا الغربية يتملكها نزوع نحو الاسمية والفردانية، ويمكن لنا أن نتعامل مع أفراد البشر كـ(آخر)ين، كأعداد وأرقام.. أن نختزلهم احصائيا ونستثمرهم في صناديق الاقتراع.. في هذا الاطار تحديدا تزول معالم العلاقات غير المبررة: "يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزنا". هناك فقط الآخر، الذي نفكر في العلاقة الاستثمارية معه.
والأنا الاسلامية يتملكها نزوع نحو الجوهر الجامع، ولا بد أن تكون النظرة الى الاشكالية محكومة ببعدها الانساني؛ وفقا لمنطق: "اما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق". وفي هذا السياق تزول الفاصلة الماهوية بين الأنا والآخر.
ويبدو أن المسلمين لم يتنبهوا إلى أناهم في علاقتها التفاعلية مع الآخر إلا على وقع مدافع نابليون، الذي أحضر معه إلى جانب قوته العسكرية أدوات الطباعة. إن استيراد التكنولوجيا هو استيراد لروحها، وروحها هو المكون الثقافي الذي انتجها.. فقد انبهر المسلمون بالآخر المتحضّر مقارنة بما لديهم، بقدر ما ازعجهم أن يتحولوا إلى موضوع يمارس الآخر عليهم سيطرته وعدوانه.
إن التماهي مع الفكر الانساني في ايجابيته يرتد وعيا للخصوصية المنفتحة والفاعلة في العصر.. ولا ينبغي التوقف عند مبرراته المسوغة له طالما انه يشكل ضرورة قائمة، هذا ما يؤكده النسق الفكري العام، من أن الانتاج هو حصيلة الاستيراد والتصدير معا.
إن الحراك الحيوي التاريخي الذي يتيح للمادية أن تتجلى في اشكال متعددة عبر التاريخ، بحيث تتمظهر اليوم في مفاهيم الحداثة والعولمة والعلمانية والديموقراطية.. يكمن في وعي الغرب لذاته وتحديدا في اعتبار أن هويته غير منجزة بشكل نهائي، بل هي متجددة الولادة والحضور، إنه يحضر في القوة وليس في المنطق، في الاقناع النفسي وليس في الالزام العقلي، في القبول بالقضية وليس في صدقها، في اسلوب العمل وليس في اسلوب الحياة..
وهو إذ يحيل الهوية من معيارية التطابق مع (الواقع) إلى معيارية التطابق مع (ما يراه الناس).. فإنه يفعل ذلك بوحي من تفريغ الاشياء من محتوياتها النوعية. إن ميزة الهوية قائمة في الكيفية النوعية الماثلة في الواقع. وإن العقل وحده يملك سلطة كشف النقاب عن هذه الهوية النوعية. وإذا فعل ذلك، فليس أمام النفس سوى أن تذعن له. فالنفس تصدق العقل وتخضع لشروطه. ولا يمكن العمل على تحرير النفس من سلطة العقل، إلا متى اقتنعت النفس بأن دورها يتجاوز البعد الانفعالي، وأن عليها أن تكف عن الاستجابة التلقائية لآلية التحكم التي تنبع من فوق..
لهذا لا بد من محاصرة العقل، وعدم الاعتراف بأي سلطة له خارج نطاق التقنية، ذلك أن العقل التقني لا يتكيّف مع الواقع النوعي، هو يعمل فقط في نطاق العلاقات القائمة بين الأطراف بمعزل عن الطبيعة النوعية للأفراد. وبواسطة هذا التدجين العقلي سوف تتحرر النفس من سطوته، وسوف تنتقل من مرحلة الانفعال إلى مرحلة الفعل، إنها لن تتحرر من سطوة التصديق المنطقي الجازم فحسب، بل سوف تمارس دوره كمعيار للحقيقة؛ والحقيقة هنا هي (ما يراه الناس ويؤمنون به)، فما يراه الناس هو ما يحظى بالقبول والرضا النفسي.
إن مشكلة العقل هي في أنه يمتلك سلطة الزامية، من شأنها أن تُخضِع، دون أن تَخضَع بنفسها للسيطرة الخارجية. أما الرضا النفسي فهو قابل للسيطرة بفعل آليات خارجية تعمل على صياغته وبلورته وفق أهداف محددة. وحين تكون الفاعلية للافراد وللكم العددي، سوف تتحدد آليات الضبط في صيغ احصائية وانتخابية ودعائية، ويتعزز الرأي العام المنبثق عن الوضع الفردي تماشيا مع النزوع الاسمي. وهذا السياق يستدعي تعزيز الجهد في نطاق العلوم الانسانية من النفسي والاجتماعي، واستبعاد المنطقي والفلسفي.
إن اختزال الانسان إلى بعد فسيولوجي – اقتصادي بحيث يمكن تعريفه وفق وظائفه البيولوجية ودوافعه المادية، واختزال قيمة ما ينتجه العقل في البعد التقني حصرا، كل هذا سوف يمهد لعملية اخضاع الأبعاد الانسانية وفق برمجة تقنية، تعمل على تدجين الهوية الانسانية، بغية استيلادها من رحم الايهام الاعلامي وتشكيلها من خلال أدوات قابلة للسيطرة والتحكم بقراره ومصيره.
إن محاصرة المنطق تتم هنا من خلال العبث بالعقل، وليس من خلال معاودة المنطق. من خلال السعي إلى افراغ المضمون الذاتي من عالم التصورات، والنزوع الكلي نحو الاسمية، وبالتالي تعزيز مبدأ الفردانية.. إننا نتحرك اليوم تحت سقف الفوضى البناءة بفعل هذا الحضور المتجدد للفردانية؛ وبفعل المردود السلبي للنظريات النفسية والاجتماعية والتي تنتج حالة ارتداد على مستوى الفلسفة والمنطق، وبالتالي سوف تنكفئ الماهيات الكلية التي تتشكّل منها الهوية إلى أطر أكثر محدودية، بحيث تتمثل في قوميات ضيقة تحيل إلى الفينيقية والفرعونية والامازيغية.. أو في انكفاءات قطرية تحيل الى (مصر أولا) و(العراق اولا) و(لبنان اولا)..
إلى هنا يمكن أن نفهم رسالة "فلسفتنا" وصرخته المدوية بوجه العالم الآخر: إن الصراع الحضاري الذي ينبغي أن يتمثل في المنطق بوصفه آلية التواصل المفترضة بين الحضارات، يبدو مأزوما في واقعه بسؤال الأخلاقية؛ إذ يتحول المنطق – الذي ينبغي النظر اليه على أنه وسيلة للخير – إلى وسيلة مخادعة، تقوم بدور حصان طروادة في العمل على استنساخ المغالطات من جديد وبطرق ملتبسة.
***
ما زال سؤال الهوية في اطار الفلسفة الاسلامية مهجوسا بقلق المغامرة وتحسس الذات:
-       هل تزداد الهوية الثقافية نضجا وثراء من جراء الانفتاح على الآخر، أم أن ذلك يضر بخصائصها، ويضعفها؟ وفي المقابل ألا يسبب الانكفاء داخل الذات والانغلاق عليها، باضعاف هويتنا الثقافية؟.
-       هل يدخلنا الانفتاح على الأمم والثقافات الأخرى في دائرة الغزو والتبعية الثقافية،أم أن ذلك يسهم في تحصين الهوية الثقافية وتقوية مناعتها؟
-       هل أن مسألة التفاعل اختيارية وقابلة للتقنين، أم أنها قانون عام يستوجب دوام التواصل والتلاقح مع الآخر شئنا ذلك أم أبينا؟ وما هي درجة الاندماج ومستوى التواصل المطلوب مع الثقافات الأخرى؟
لربما كانت الاجابة الأولية تقضي بأن الاحتكاك والتفاعل مع الآخر القوي، ذلك الفاعل في التاريخ الحي، سوف ينعكس فينا ضعفا، إلا أن تجارب التاريخ لا تتكشف لنا على هذا النحو دائما، ذلك أن الانفتاح والمحاكاة مع القوي غالبا ما اعتبرت من عوامل القوة للضعيف إن لم يرقَ هذا النظر إلى مستوى القانون التاريخي وفاقا لمقولة ابن خلدون. إن تفعيل الهوية الثقافية في إطار العصر يستتبع المحاكاة للفاعل في التاريخ الحي، ولكن المحاكاة لا تعني أن نتمثل نفس آليات العمل التي يتبعها بالضرورة، فضلا عن أن تكون المحاكاة في نطاق المنجز والمعطى النهائي، وإنما تعني ضرورة المجاراة في عناصر الابداع لا غير.
بل إن التفاعل مع الآخر من شأنه أن يعكس ضعفنا أو قوتنا، لا أنه ينعكس فينا ضعفا. ما يعني أن مجال التفاعل هو مجال الكشف عن الهوية واختبار الذات ظرفيا وليس توليدها أو إستبدالها أو التعويض عنها.
وإذا كان ادراك النفس لذاتها يقع في رتبة متقدمة على ادراكها للغير، كما تخبرنا بذلك الفلسفة الاسلامية، فإن مساهمة الآخر في الكشف عن الذات، في سياق المقارنة به، لا ينبغي أن يفهم كما لو أنه فقدان للثقة بالهوية، بل إن الكشف عن قوة الآخر أو ضعفه من خلال مقارنته بالذات، هو مقدمة للحكم عليه، تماما كما فعل صاحب كتاب فلسفتنا.  
إن قضية العلاقة بين الذات والآخر هي في واقعها أعمق بكثير مما تبدو عليه، بحيث يمكن القول أن تدخلات الآخر هي جزء من سيرورة تعتمل في نفوسنا مهما بدت لنا تلك المنافحة معه على انها شكلية أو هامشية. إن وعينا بالآخر يسهم بدرجة مهمة في تشكيل هويتنا بمقدار ما تكف الفلسفة عن الفصل بين العلم والوجود.
لقد نوقشت الشيوعية الماركسية كنظرية غير قابلة للتطبيق، واختفت الاشتراكية الشيوعية من خارطة العالم بفعل التحدي الواقعي - الاقتصادي، وانكمش الرأسمالي إلى أطر ضيقة تختزل البشرية وفق آليات العقل التقني. وسواء أكان البديل الاسلامي قد تميز بدقة عن الماركسي أم لا، فلا شك أنه ترتب على هذا النشاط مكون ثقافي جديد ورؤية متقدمة بفعل المنافحة مع محكات ثقافية جديدة.
ونستطيع أن نعثر على مكونات ثقافية ولاول مرة في كتاب "فلسفتنا"، وذلك في كيفية فهمنا للآخر (الماركسي) من جهة، وفي نقده وبيان مكامن الخلل فيه من جهة ثانية، وتشخيص المائز على مستوى الخصوصية الاسلامية من جهة ثالثة، وتبقى لطريقة التفكير في القضايا السجالية قيمتها المعرفية والمنهجية كما تجلت في الكتاب من جهة رابعة.
وكما كان المكون الثقافي لدى الطوسي في شرحه على التجريد متأثرا بجرعة قوية من الفكر اليوناني المشائي. وكان ذلك المكون متأثرا لدى ملا صدرا في اسفاره بمزيج من الفكر الاشراقي المشائي الناتج عن مكونات سابقة في التراث العالمي. كذلك فإن المكون الثقافي لدى الشهيد الصدر في "فلسفتنا" متأثر بالطابع الشمولي لفلسفات اوروبية تدعو إلى اعادة بناء شاملة للمعرفة وفق قراءات جديدة. وكذلك لدى الشهيد مطهري في رؤيته التوحيدية للعالم، التي قدمها كبرنامج عصري متماسك للدين. هذه المكونات الثقافية لا تتعارض مع ثوابت الدين بل من شأنها أن تعمل على تعزيز الهوية في أذهان المعاصرين ولغتهم.
ونحن لم نسقط في بؤرة التاريخ السحيقة إلا عندما نظرنا إلى أنفسنا على أنها شيء منجز ونهائي على مستوى الفهم. والواقع أننا ما كنا لننظر إلى كتاب "فلسفتنا" نظرة ابداع إلا لأننا لم نكن نمتلك قبل الشهيد الصدر كتاب "فلسفتنا". ولن نتجاوز هذا الابداع الى ابداع آخر طالما أن نظرتنا إلى "فلسفتنا" ستظل محكومة بتلك الهيبة والقدسية.

  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=392
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 01 / 11
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29