• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : سيرة .
                    • الموضوع : الامــام الصـــادق ( عليه السلام ) ودوره العلمي .

الامــام الصـــادق ( عليه السلام ) ودوره العلمي

   كانت الأمة الإسلامية تحتفل بالذكرى الثمانين من مولد الرسول الأعظم (ص) ، في السابع عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت تسير في بيت الرسالة موجة كريمة من السرور والإبتهاج ، ترتقب مجدا يهبط عليها فيزيدها رفعة وشموخاً .

  في تلك الليلة ، وفي ذلك الجو الميمون ولد الإمام الصادق (ع) شعلة نور بازغة سخت بها إرادة السماء لتضيء لأهل الأرض ، وتنير سبلها إلى الخير والسلام .

 

   أبــواه :

  ولد من أبوين كريمين عظيمين مباركين هما :

  1 - الإمام محمد بن علي بن الحسين بن علي ؛ الباقر (ع) ، الذي انحدر من سلالة علي أباً وأماً ، حيث كان حفيد الحسين بن علي ، وكانت أمه حفيدة الحسن (ع) . وهكذا بُني أول بيت فاطمي أصيل ، فكان أشم وأروع قمة إنسانية ارتفعت على بيت الرسالة .

  2 - فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، التي كانت هي الأخرى أول نقيبة من سلالة أبي بكر أماَ وأباَ . وجدها محمد بن أبي بكر كان له سابقة الجهاد بين يدي الإمام أمير المؤمنين (ع) ، وكان ربيباَ له حيث تزوج الإمام بعد موت أبي بكر زوجته أسماء بنت عميس ، فربى ولدها محمد في حجره ، وغذاه من علومه ، حتى أصبح فدائياَ مخلصاً للإسلام ، وولاه مصراً فقتل فيها بأمر من معاوية .

 

 

   نشأتــه :

  لقد كانت ولادته في عصر جده الإمام زين العابدين حيث رأى من جده العبادة والزهادة والرفادة والإجتهاد في طاعة اللـه فتنطبع في نفسه آثارها ، حتى بلغ سن الثانية عشرة .

  وعندما انتقلت إلى أبيه مقاليد الإمامة العامة ، وقام (ع) بأداء واجباتها ومسؤولياتها خير قيام ، كان الإمام الصادق (ع) يترعرع ليصبح فتاً نموذجيا يرمق إليه الشيعة بأبصارهم ويرون فيه القدوة السادسة لهم .

 

قاسى الإمام الباقر (ع) من ظلم الأمويين الشيء الكثير ، لأنه كان مأوى الحق وأهله ومركز المضطهدين ، الذين عارضوا سياسة الأمويين كما يتبين ذلك من سيرته المقدسة .

  أما الشيعة فقد إبتلوا بلاءً عظيماً من جراء الظلم الأموي ، كما بين الإمام الباقر (ع) حين قال : “ ثم جاء الحجاج فقتلهم - يعني الشيعة - شر قتله وأخذهم بكل ظنة وتهمة “ .

  حتى أن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعي ينتمي لعلي (ع) .

  ولأن الخليفة الأموي أراد إثبات سلطته على الإمام الباقر (ع) واستعراض قوته أمامه - مثلما يصنعه الحاكم السياسي الظالم اليوم بمن يعارضه في الأمر - قام باستدعائه إلى الشام ، فسافر الإمام (ع) إليها مصطحباً ولده العزيز .

 

عهــد امامتــه

 

    في سنة (117 هـ ) - حيث انتقل الإمام الباقر (ع) إلى جوار ربه شهيدا - أوصى إلى ولده الصادق (ع) وهو في سن الرابعة والثلاثين بالإمامة . وبهذا انتقلت إلى الإمام الصادق (ع) قيادة الأمة الدينية ومسؤولياتها السياسية الكبيرة .

 

  لعلنا لن نجد في التاريخ الإنساني مدرسة فكرية استطاعت أن توجه الأجيال المتطاولة ، وتفرض عليها مبادئها وأفكارها ، ثم تبني أمة حضارية متوحدة لها كيانها وذاتيتها ، مثلما صنعته مدرسة الإمام الصادق (ع).

 

 ولقد أثبت التاريخ أن الذين استقوا من أفكار هذه المدرسة مباشرة كانوا أربعة آلاف طالب  .  و كان لهذه المدرسة تأثير في تثقيف الأمة الإسلامية التي عاصرتها والتي تلتها إلى اليوم ، وإن الثقافة الإسلامية الأصيلة كانت جارية عنها فقط

 

حتى أن ابن أبي الحديد أثبت أن علم المذاهب الأربعة راجع إلى الإمام الصادق في الفقه . وقد قال المؤرخ الشهير أبو نعيم الأصفهاني : ( روى عن جعفر عدة من التابعين منهم : يحيى بن سعيد الأنصاري ، وأيوب السختياني ، وأبان بن تغلب ، وأبو عمـرو بن العلاء ، ويزيد بن عبد اللـه بن هاد ، وحدث عنه الأئمة الأعلام : مالك بن أنس ، وشعبة الحجـــــاج ، وسفيان الثوري ، وابن جريح ، وعبد اللـه بن عمر ، وروح بن القاسم ، وسفيان بن عيينه ، ... وأخرج عنه مسلم بن الحجاج في صحيحه محتجاً بحديثه [1] .

  ومن جانب آخر نرى بأن تلميذاً واحداً من الملتحقين بهذه المدرسة ألّف زهاء خمسمائة رسالة في الرياضيات كلها من إملاء الإمام الصادق (ع) ، وهو جابر بن حيان المعلم الرياضي الشهير الذي لا يزال العالم يعرف له فضلاً كبيراً على هذه العلوم وأيادي طويلة على أهلها .

  وروى عنه محمد بن مسلم ستة عشر ألف حديث في مختلف العلوم ، وآخرون من هؤلاء الأفذاذ ، حتى قال قائلهم رأيت في هذا المسجد - أي مسجد الكوفة - تسعمائة شيخ كل يقول : ( قال : جعفر بن محمد ) . حتى أن أبا حنيفة كان يقول :

  ( لولا السَّنتان لهلك النُّعمان ) .

  وأخيراً عرفنا بانه لم يرو عن أحد من الأئمة الإثني عشر - بل عن المعصومين الأربعة عشر وفيهم رسول اللـه (ص) - بقدر ما روي عن الإمام الصادق (ع) .  ولقد جمع المتأخرون من الشيعة ما روي عنهم في مجلدات ضخمة : فكان البحار للمجلسي يحوي مائة وعشرة مجلدات ، وكان جامع الأخبار للنراقي مثيلاً له ، وكان مستدرك البحار نظيراً له ، وقد احتوت غالبية هذه الكتب ونظائرها على أحاديث الإمام الصادق (ع) وأكثرها في الفقه والحكمة والتفسير وما إلى ذلك .

  أما في سائر العلوم فلم يصل إلى أيدينا إلاّ الشيء القليل ، حيث ذهب معظمها ضحية الخلاف السياسي الذي أعقب عصر الإمام ، فكم من كتب مخطوطة للشيعة أحرقتها نيران المنحرفين ، وكان نصيب مكاتب الفاطميين بمصر أكثر من ثلاثة ملايين كتاباً مخطوطا ، وكم من كتب لفتها أمواج دجلة والفرات وأحرقتها مطامع العباسيين ببغداد والكوفة ، وكم من محدّث واسع المعرفة جمّ الثقافة ظلت العلوم هائجة في فؤاده لا يستطيع لها نشراً خوفاً من إرهاب العباسيين وإجرامهم ، فهذا ابن أبي عمير ظلَّ في سجون بني العباس مدة طويلة - ومن المؤسف - أن ما كتبها هجرت في هذه المدة حتى عفنت واكلها التراب ، وراحت أحاديث كثيرة منها صحيحة الأعمال . وهذا محمد بن مسلم حفظ ثلاثين ألف حديثاً عن الإمام الصادق ولم يرو منها شيئاً .

  إذا عرفنا كل ذلك أمكننا معرفة مدى شمول ثقافة هذه المدرسة العالم الإسلامي ومدى سعة أفقها الرحيب .

  والمشهور أن منهاج الإمام الصادق كان يوافق أحدث مناهج التربية والتعليم في العالم ، حيث ضمت حوزته اختصاصيين كهشام بن الحكم الذي تخصص في المباحث النظرية ، وتخصص زرارة ومحمد بن مسلم وأشباههم في المسائل الدينية ، كما تخصص جابر بن حيان في الرياضيات ، وعلى هذا الترتيب .

  حتى أنه كان يأتيه الرجل فيسأله عما يريد من نوع الثقافة ، فيقول الفقه فيدله على إخصائيه ، أو التفسير فيومىء إلى صاحبه ، أو الحديث والسيرة ، أو الرياضيات ، أو الطب ، أو الكيمياء ، فيشير إلى تلامذته الاخصائيين ، فيذهب الرجل بملازمة من أراد حتى يخرج رجلاً قديراً بارعاً في ذلك الفن .

  وفي كل سنة كانت وفود المسلمين تتقاطر على الحرمين لتأدية مناسك الحج المفــروضـــة ولحـــل مسائلهم الفقهية والفكريـــة . فيلتقون بصادق أهـــل البيت (ع) وبمدرستـــه الكبــــــرى حيث  يجدون عنده كل ما يريدون .

كما أن الفتوحات الإسلامية سببت احتكاكاً عنيفاً بين المسلمين وبين الداخلين ، ولأن أغلب المسلمين لم يكونوا قد تفهموا الإسلام تفهماً قويماً ، ولا وعوه وعياً مستوعباً ، فإن نتيجة هذا الاصطدام كانت سيئة ، إذ أدّى إلى تشعب المسلمين إلى فرقتين :

  الأولى : المحافظون المتزمتون الذين اتخذوا ظاهر الديـن ولم يتفهموا جوهره وحقيقته ، وكانت الخوارج من فرسان هذا الإتجاه ، كما كانت الأشاعرة مع ملاحظة ما بين طوائفهم من اختلاف في الكمية والكيفية .

  والثانية : المتطورون المفرّطون الذين بالغوا في التأثر بالوضع وألغوا المقاييس ، واكتفوا بما أوحت إليهم عقولهم الناقصة ، و كانت المعتزلة ومن إليهم من الفرق الأخرى .

  وكان الملحدون الذين كانوا يستقون أفكارهم من فلسفة اليونان التي كان العرب لا يعرفها حتى ذلك اليوم ، وحيث تمت صلتهم بها عن طريق حركة الترجمة المنتشرة من عهد الإمام فصاعداً .

  ولذلك كان القليل من المسلمين الذين تفهموا فلسفة الإسلام النظرية من جميع أبعادها ، وعرفوا الاختلاف بينها وبين سائر النظريات ، واستطاعوا أن يقيموا الحجة البالغة على صحة مبادئ الإسلام الفكرية ودحض ما سواها .

  وقد اصطدم هؤلاء بمن اقتصرت معلوماتهم على مجموعة من الأحاديث التي يروونها عن أبي هريـرة أو غيره ، غير مبالين بما فيها من تناقضات جمة ، وكانوا يحسبون أنهم على حق ، وأن لهم مقدرة كافية لإثبات مزاعمهم الباطلة ، فترى أحدهم يشكل حزباً ويدعو إليه الناس سراً .

  لذلك تحتم على الإمام الوقوف في وجههم وتبديد مزاعمهم . فرسم ثلاثة خطط حكيمة لذلك :

  الأولى : لقد خصّ فرعاً من مدرسته بالذين يعرفون فلسفة اليونان بصورة خاصة وغيرها بصورة عامة ، ويعرفون وجهة نظر الإسلام إليها والحجج التي تنقضها ، وكان من هؤلاء هشـام بن الحكـم المفّوه الشهـير ، وعمران بن أعين ، ومحمد بن النعمان الأحول ، وهشام بن سالم ، وغيرهم من مشاهير علم الحكمة والكلام ، العارفين بمقاييس الإسلام النظرية أيضا .

  الثانية : وكتب رسائل في ذلك ، مثل رسالته المدعاة بـ ( توحيد المفضل ) ، ورسالته المسمـــاة  بـ (الإهليلجة) وما إليها .

  الثالثة : المواجهة الشخصية لزعماء فكرة الإلحاد . وباعتبار أن هذه العملية الأخيرة كانت أبلغ في مقابلة الموجة من اللتين سبقتا ، لذلك يجدر بنا الوقوف عندها قليلاً لقراءة بعض القصص والأحداث المهمة :

 

  1 - كان ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى وابن المقفع مجتمعين بنفر من الزنادقة في الموسم بالمسجد الحرام ، وكان الإمام الصادق (ع) متواجداً آنذاك يفتي الناس ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل بالحجج والبينات . فطلب القوم من ابن أبي العوجاء تغليظ الإمام وسؤاله عما يفضحه بين المحيطين به .

  فأجابهم بالإيجاب واتجه - بعد ان فرَّق الناس - صوب الإمام ، وقال : يا أبا عبد اللـه إن المجالس أمانــــات [2] ولا بدّ لكل من به سؤال أن يسأل ، أفتأذن لي في السؤال ؟ فقال له أبو عبد اللـه : سل إن شئت .

  فقال ابن أبي العوجاء : إلى كم تدوسون هذا البيدر ، وتلوذون بهذا الحجر ، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطوب والمدر ، وتهرولون حوله هرولة البعير ، فهناك من فكّر في هذا وقدّر بأنه فعل غير حكيم ولا ذي نظر . فقل فإنك رأس هذا الأمر وسنامه ؟

  فقال الصادق (ع) :

  “ إن من أضله اللـه وأعمى قلبه استوهم الحق فلم يستحث به ، وصار الشيطان وليّه وربّه يورده مناهل الهلكة ولا يصدره ، وهذا بيت استعبــــد اللـه به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه ، فحثهم على تعظيمه وزيارته ، وجعله قبلة للمصلين له ، فهو شعبة لرضوانه ، وطريق يؤدي إلى غفرانه ، منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال ، خلقه اللـه قبل دحو الأرض بألفي عام ، فأحق من أطيع فيما أمر وانتهى عما زجر ، هو اللـه المنشئ للأرواح والصور “ .

  فقال له ابن أبي العوجاء : فأحلت على غائب .

  فقال الصادق (ع) : “ كيف يكون يا ويلك غائباً من هو مع خلقه شاهد ، وإليهم أقرب من حبل الوريد ، يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم ، لا يخلو منه مكان ، ولا يشغل به مكان ، ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان ، تشهد له بذلك آثاره ، وتدل عليه أفعاله ، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة محمد رسول اللـه (ص) الذي جاءنا بهذه العبادة ، فإن شككت في شيء في أمره فاسأل عنه “ .

  فأبلس ابن أبي العوجاء ولم يدر ما يقول ثم انصرف من بين يديه ، وقال لأصحابه : سألتكم أن تلتمسوا لي خمرة [3] فألقيتموني على جمرة .

  فقالوا له : أسكت فو اللـه لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك وما رأينا أحقر منك اليوم في مجلسه . فقال : إليّ تقولون هذا ، إنه ابن من حلق رؤوس من ترون - وأومأ بيده إلى أهل الموسم - .

 

  ومرة أخرى جاء إليه يسأله عن حدوث العالم ؟

  فقال (ع) : “ ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلاّ  إذا ضم إليه صار أكبر ، وفي ذلك انتقال عن الحالة الأولـــى ، ولو كان قديماً ما زال ولا حال ، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل ، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونــه في الأزل دخول في القدم ، ولن يجتمع صفة الحدوث والقدم في شيء واحد “ .

  فقال ابن أبي العوجاء : هب علمك في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت استدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثها ؟

  فقال (ع) : “ إنا نتكلم عن هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه ووضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ، ولكن أجيبك من حيث قدرت أن تلزمنا فتقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضم شيء منه شيء إلى منه كان أكبر ، وفي جواز التغّير عليه خروجه من القدم ، إن في تغّيره دخوله في الحدث ، وليس لك وراءه بشيء يا عبد الكريم “ [4] .

 

  ومرة جاء وقد جمع كيده وحشد أدلته وحدّ اظفاره ، فما أن تباحث مع الإمام حتى أفحم إفحاما ، فقام ولم يرجع حتى هلك [5] ، وطوي بموته على هذه الشاكلة صفحة إلحاد كان لها أنصار وأعوان ، ومضى زعيم إلحاد كان له صولة وجولة وحزب كبير .

 

  2 - يروى عن هشام بن الحكم أنه قال : كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللـه علم ، فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها ، وقيل هو بمكة فخرج إلى مكة - ونحن مع أبي عبد اللـه (ع) آنذاك - فانتهى إليه وهو في الطواف ، فدنا منه وسلم .

  فقال له أبو عبد اللـه (ع) : ما اسمك ؟

  قال : عبد الملك .

 قال : فما كنيتك ؟

  قال : أبو عبد اللـه .

 قال : فمن ذا الملك الذي أنت عبده ، أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء . وأخبرني عن ابنك أعبد إله السماء أم عبد إله الأرض ؟ فسكت . فقال : ابو عبد اللـه قل . فسكت .

  فقال له (ع) : إذا فرغت من الطواف فأتنا . فلما فرغ ابو عبد اللـه ( عليه السلا) من الطواف أتاه الزنديق ، فقعد بين يديــــه - ونحن مجتمعون عنده - فقال أبو عبد اللـه (ع) : أتعلم أن للأرض تحتاً وفوقــــاً ؟

  فقال : نعم .

  قال : دخلت تحتها ؟

  فقال : لا .

  قال : فهل تدري ما تحتها ؟

  قال : لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء .

  فقال : فالظن عجز ما لم تستيقن .

  ثم قال له : صعدت إلى السماء ؟

  قال : لا .

  قال : أفتدري ما فيها ؟

  قال : لا .

 قال : فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما ؟

  قال : لا .

  قال : فالعجب لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل تحت الأرض ولم تصعد إلى السماء ولم تجد ما هناك فتعرف ما خلفن وأنت جاحد ما فيهن ، وهل يجحد العاقل مالا يعرف .

  فقال الزنديق : ما كلمني بهذا غيرك .

  فقال أبو عبد اللـه (ع) : فأنت من ذلك في شك ، فلعل هو ولعل ليس هو .

  قال : ولعل ذلك .

  فقال ابو عبد اللـه (ع) : “ أيها الرجل ليس لمن لا يعلم حجة على من يعلم ، ولا حجة للجاهل على العالم ، يا أخا أهل مصر تفهم عني ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يستبقان يذهبان ويرجعان ، - قد اضطرّا ، ليس لهما مكان إلاّ مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان ، وإن كانا غير مضطرين فلم لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً . واللـه يا أخا أهل مصر ان الذي تذهبون إليه وتظنون من الدهر ، فإن كان هو يذهبهم فلم يردهم ، وإن كان يردهم فلم يذهب بهم ، أما ترى السماء مرفوعة والأرض موضوعة لا تسقطهـا على الأرض ولا تنحـدر الأرض فـوق ما تحتـها ، أمسكها واللـه خالقها ومديرها “ .

  قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللـه (ع) ، فقال لهشام : خذه الليلة وعلمه .

 

  3 - وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أمور نظرية ، فكان بينهما الحوار التالي :

  قال كيف يعبد اللـه الخلق ولم يروه ؟

  قال ابو عبد اللـه (ع) : “ رأته القلوب بنور الإيمان ، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان ، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على اماراته من عظمته دون رؤيته “ .

  قال : أليس هو قادر على أن يظهر لهم حتى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين ؟

  قال (ع) : “ ليس لمحال جواب “ [6] .

  قال : فمن أين أثبت أنبياءً ورسلاً ؟

  قال (ع) : “ إنما لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ، ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحتاجهم ويحتاجوه ، ثبت أن له سفراء عباداً يدلونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فنائهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين - هم الأنبياء وصفوته من خلقه - حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم له في الخلق والتدبير ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص “ .

  قال : من أي شيء خلق الأشياء ؟

  قال (ع) : من لا شيء !

  فقال : كيف يجيء بشيء من لا شيء ؟

  قال (ع) : “ إن الأشياء لا تخلو ، إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء ، فإن كانت خلقت من شيء فإنَّ ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ولا يتغير ، ولا يخلو ذلك الشيء جوهراً واحداً ولوناً واحداً ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ، ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حيّاً ، أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتاً ، ولا يجوز أن يكون من حي وميت ، لأن الحي لا يجيء منه ميت وهو لم يزل حيّاً ، ولا يجوز أيضاً ان يكون الميت قديماً ، لم يزل لما هو به من الموت لأن الميت لا قدرة به ولا بقاء “ .

  ثم قال : من أين قالوا أن الأشياء أزلية ؟

  قال (ع) : “ هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء ، فكذبوا الرسل ومقالتهم والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسموا كتبهم أساطير ووضعوا لأنفسهم ديناً بآرائهم ، وإن الأشياء تدل على حدوثها من دوران الفلك بما فيه .. إلى آخر حديثه الطويل “ .

  وعندما ننهي الحديث عن هذه المحادثات الغزيرة بالنظريات الفلسفية من جانب ، والنظريات الدينية من جانب آخر ، ثم بالتوفيق بينهما ورد الأفكار الباطلة - عند ذلك - يجب أن نعرف أن الفلسفة الإسلامية لم تستطع أن تقوم لها قائمة إلاّ بعد قرن كامل من انقضاء مدرسة الإمام الصادق (ع) ، فهناك استطاع المسلمون أن ينشئوا مدرسة ذات أصالة وملامح خاصة من بين مدارس العالم الفلسفية ، ومع ذلك فإنا نرى أن هذه النظريات التي استفاضت بها أحاديث الإمام الصادق تتمتع بأصالة وذاتية كاملة ، في حين أن غيرها بدى مثل غثاء البحر الذي يجتمع إليه من كل جانب شيء دون أن يكون فيها أي تجاوب أو تناسب - هذا في صورتها - أما في واقعها فإنها فشلت في التوفيق بين المبادئ الدينية والدراسات الفلسفية فشلاً ذريعاً ، حتى التجأت إلى التأويل في النصـوص الإسلاميـة الصريحة ، أو الطرح لها رأساً ، لدرجة لم تعد هي فلسفة الإسلام أبداً .

  بينما نرى نظريات الإمام الصادق (ع) في دراساته لا زالت من صميم الفكرة الإسلامية وآيات الذكر وآثار النبي ، ومن قوانين الإسلام ونظمه حتى لكأنه جزء لا يتجزأ من كيان موحد أصيل ، في نفس الوقت الذي نرى توفيقه الشامل لفطرة الإنسان ووحي ضميره سواء في المعنى أو في الدليل .

 

 

   عـرض موجـز للأحــداث :

  

سعة آفاق الإمام العلمية

ننقل اعترافات بعض الزعماء والمفكرين بمدى سعة آفاق الإمام العلمية ، ومدى رحابة مكانته الثقافية ، التي جعلت من أعدائه منابر المدح ومنصات الثناء .

 قال فيه أبو حنيفة : “ ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد “ و “ جعفر بن محمد أفقه من رأيت “ .

  وقال فيه الشهرستاني : “ وهو ذو علم غزير في الدين وأدب كامل في الحكمة “ .

  وقــــال فيه ابن حجر الهيثمي : “ جعفر بن محمد الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الأئمة الكبار “ .

  وقال فيه السيد أمير علي صاحب كتاب مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي :

  “ لا يفوتنا أن نشير إلى ان الذي تزّعم تلك الحركة هو حفيد علي بن أبي طالب المسمى بالإمام جعفر والملقب بـ ( الصادق ) ، وهو رجل رحب أفق التفكير ، بعيد أغوار العقل ، ملم كل الإلمام بعلوم عصره ، ويعتبر في الواقع أنه أول من أسس المدارس الفلسفية في الإسلام . ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب الفقهية فحسب ، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة المتفلسفون من الأنحاء القاصية .

  وقال العلاّمة هولميادر الكاتب الإنكليزي :

  “ إن جابر هو تلميذ جعفر الصادق وصديقه ، وقد وجد في إمامه الفذ سنداً ومعيناً وراشداً أميناً وموجهاً لا يستغني عنه ، وقد سعى جابر إلى أن يحرر الكيمياء بإرشاد أستاذه من أساطير الأولين التي علقت بها من الإسكندرية ، فنجح في هذا السبيل إلى حد بعيـد ، مـن أجل ذلك يجـب أن يقـرن اسم جابـر مع أساطيـن هذا الفن في العالـم أمثال ( بويله) و ( فوازيه ) وغيرهما من الأعلام “ [7] .

  وهناك مئات بل ألوف من الإعترافات التي أبداها كل من الكتَّاب المسلمين وغيرهم من المحدثين والقدماء ، وبصورة خاصة من معاصري الإمام (ع) حتى ملأ العالم فضله وعلمه الغزير وثقافته الوسيعة البالغة .



([1]) حلية الأولياء : ( 3 / 199) .

([2]) إن هذه الكلمة اعتادت العرب استعمالها عندما يريدون أن يقولوا شيئا مكتوباً يسترونه عن الناس .

([3]) أي فراش يستريح عليه .

([4]) الاحتجاج : ( ص 76) .

([5]) ذكر العلامة المظفر في كتابه ( الإمام الصادق ) أن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور قتل ابن أبي العوجاء لالحاده وزندقته .

([6]) إشارة إلى أن رؤية اللـه محالة ، حيث ان اللـه ليس بحجم حتى يدركه البصر ، ولا بمحاط حتى يحيط به الفكر ، ولا بحدود حتى يحدده الوصف ، وإنما هو فوق ذلك كله ، وقدرة اللـه وإن كانت شاملة إلاّ أن الشيء حيث لا يقبل إلاّ مكان فكيف يوجد .

([7]) نجد هذه الإعترافات وعشرات أمثالها في كتاب الإمام الصادق للأستاذ الدخيل فصل ( الإمام في نظر العظماء والعلماء ) : ( ص 86 - 111) 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=396
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2012 / 02 / 10
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16