• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : في بيان معنى الولاية بحسب الحقيقة (1) .
                          • رقم العدد : العدد الرابع والعشرون .

في بيان معنى الولاية بحسب الحقيقة (1)

 في بيان معنى الولاية بحسب الحقيقة (1)

الشيخ حسن بدران

الولاية هي القرب، وهي هنا قرب العبد من الله تعالى، وهذا القرب ثابت لكل من تحقّق بالايمان والطاعة. وحيث إن قرب الحق من العبد هو قرب تكويني عام يستوي فيه البشر على اختلاف مواقفهم من الايمان والكفر، كان المناط في صحة اطلاق الولاية هو الإيمان بالله تعالى المقرون بالاعمال الصالحة. ويستدعي البحث في الولاية معرفة الايمان ومراتبه، وما به يتحقق، ومدخلية العمل فيه. وإمكان الولاية، ووقوعها، بعد التعريف بمفهومها.

عرّف الايمان بأنه سكون النفس واطمئنانها؛ واذعان القلب وتصديقه.

وقد أفاد الشهيد الثاني في رسالته عن الايمان أن التصديق قد يحصل بغير اختيار وكسب، بأن يتفق حصوله بكشف، والهام، وتصفية نفس، أو بمشاهدة المعجزة مع سبق دعوى النبوة، فإنه إذا شاهد المعجزة حصل له في الحال العلم الضروري بصدق المدعي في كل ما ادعاه، ولا ريب في تحقق الإيمان بذلك مع أنه لم يكتسبه باختياره. والايمان يثاب عليه سواء أكان عن اختيار أو بغيره؛ ذلك أنه فعل العبد؛ أعم من كونه مباشرة وتوليدا. والأصول التي ينبغي ان يتعلق بها الايمان وفق المبنى الامامي ثلاثة: التصديق بوحدانية اللّه في ذاته تعالى والعدل في أفعاله. والتصديق بنبوة الأنبياء (عليهم السلام). والتصديق بامامة الائمة المعصومين من بعد الأنبياء (عليهم السلام) [1].

ولا شك أن الايمان بالنبوة يستدعي الايمان بكل ما علم بالضرورة مجيء النبي (صلى اللّه عليه وآله) به مع الاقرار بذلك.

والايمان هو التصديق اليقيني، ولليقين معنيان:

 أحدهما اليقين بالمعنى الأعم، وهو مطلق الاعتقاد الجازم ولو حصل من طريق التقليد.

 والآخر اليقين بالمعنى الأخص، وهو الاعتقاد المطابق للواقع، الذي لا يحتمل النقيض فيه، لا عن تقليد. وهذا اليقين لا يشمل الجهل المركب، كما لا يشمل الظن، ولا التقليد؛ إذ يتطلب الايمان بالمعارف الدينية الأصلية مستوى من التصديق لا يقل عن اليقين الجازم الثابت؛ ذلك أن معرفة أصول الايمان واجبة بالدليل، ولا يمكن الركون فيها إلى التقليد الظني. من هنا أطبق العلماء على وجوب معرفة اللّه تعالى بالنظر. وإنما أوجبوا المعرفة لحكم العقل بوجوب شكر المنعم، وعدم جواز تقليد غير المحق؛ ويعلم المحق من غيره بالنظر. وذهب الشهيد الثاني إلى أن حقيقة الإيمان ومقداره هو من الامور الاعتبارية التي يرجع في العلم بها الى جعل الشارع وتقريره، فلا يعلم حينئذ مقدار الايمان وحقيقته إلا منه تعالى. وما وصل إلينا من خطاباته تعالى لا يدل دلالة قطعية على تعيين قدر مخصوص من أنواع الاعتقادات، لذلك يمكن أن يكون مراده من الايمان مطلق الاعتقاد العلمي، سواء كان علم الطمأنينة [وهو الايمان الارتكازي اليقيني]، أو علم اليقين، أو حق اليقين، أو عين اليقين [وهو الايمان التفصيلي اليقيني بمراتبه]، فيكون حقيقة واحدة، وهو الاذعان القلبي والاعتقاد العلمي، والتفاوت بالزيادة والنقصان إنما هو في أفراد تلك الحقيقة ومشخصاتها، فلا يكون داخلا في حقيقة الايمان.

 وما ورد مما ظاهره الاختلاف في الدلالة على مراد الشارع منه، يمكن تنزيله على تفاوت الأفراد المذكورة، كعلم الطمأنينة وعلم اليقين وغيرها، فيكون كل واحد منهما مرادا وكافيا في امتثال أمر الشارع، وهذا هو المناسب لسهولة التكليف واختلاف طبقات المكلفين في الادراك. وبذلك يسهل الخطب في الحكم بإيمان أكثر العوام الذين لا يتيسر لهم الاتصاف بالعلم الذي لا يقبل تشكيك المشكك، فإن علم الطمأنينة متيسر لكل واحد. وعلى هذا فيكون ما تشعر النفس به من الازدياد في التصديق والاطمئنان الحاصل بسبب برهان أو عيان إنما هو انتقال وتبدل بين أفراد تلك الحقيقة الواحدة [2].

 وعليه، فإن حقيقة الايمان لا تقبل الزيادة؛ لأن الايمان هو التصديق القلبي الذي بلغ الجزم والثبات، فلا تتصور فيه الزيادة عن ذلك، سواء أتى بالطاعات وترك المعاصي أم لا، كما لا يعرض له النقص والا لما كان ثابتا. وما ورد في الكتاب العزيز والسنة، مما يشعر بقبول الايمان الزيادة والنقصان، فمحمول على زيادة الكمال، وهو أمر خارج عن أصل الحقيقة. فالزيادة تعرض من جهة كمال الايمان، وليس من جهة أصل الإيمان.

وأقل مرتبة من مراتب الولاية هي مرتبة حقيقة الايمان، ولا بد من حصول اليقين فيها. وأما المراتب التي يشتد فيها الايمان فهي راجعة إلى كمال الايمان، وحيث إن حقيقة الايمان محفوظة في جميع المراتب، فتشملها الولاية التي تعم جميع المؤمنين بأصنافهم، والتي تشمل كل من آمن بالله تعالى وعمل صالحا بمراتبهم. وبهذا الاعتبار، يطلق اليقين على مرتبة الايمان الارتكازي والتي تسمى بعلم الطمأنينة، وهو اعتقاد جازم ثابت مطابق للواقع، ولكن من دون برهان. كاعتقاد المقلد المصيب، فإنه ليس مستندا ومأخوذا من البرهان، إنما استناده إلى مخبر صادق وقد حصل له القطع بصدقه. كما يطلق على مرتبة الايمان التفصيلي، وهذه المرتبة تشمل علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين؛ وعلم اليقين هو القرب العلمي النظري والذي يحصل نتيجة للإحاطة بالأدلة والبراهين الدالة على وجود الله تعالى، ووحدانيته، وما يرتبط بذلك مما يرجع إلى إثبات ذلة العبودية وعزة الربوبية بالبرهان العلمي والفلسفي. فهو ما أعطاه الدليل الذي لا يحتمل الشبه. وعين اليقين هو قرب المعاينة والشهود، ومرتبة الايمان الشهودي هي ما أعطته المشاهدة والكشف ابتداء، بعد علم اليقين [3]. فهي إيمان القلب بعد إيمان العقل. قيل: مقام عين اليقين هو مقام الايمان القلبي، والطمأنينة تمامه، والمشاهدة أثره.

واليقين سواء كان ارتكازيا أم تفصيليا؛ عقليا أم قلبيا، هو قرب عام باعتبار أنه خروج عن الشرك الجلي، وحصول القرب المعنوي إليه تعالى، إلا أنه لا يصل إلى درجة الخلوص عن الشرك الخفي إلا بالتخلص من الانية والأنانية بعد ارتقاء السالك من مقام المشاهدة الى مرحلة غياب الشاهد في المشهود وفنائه فيه، والمعبر عنه بحق اليقين، وهو الولاية الخاصة. فتكون مراتب القرب بحسب مباني أهل الحقيقة ثلاثة، وهي العلم، والشهود، والحال.

 والعلم اشارة الى القرب البرهاني النظري المسمى بعلم اليقين. والشهود اشارة الى القرب الايماني الشهودي المسمى بعين اليقين. والحال اشارة الى فناء الشاهد في المشهود المسمى بحق اليقين. فالأول والثاني من مراتب الولاية العامة، والثالث يختص بأهل الولاية الخاصة. ويكون مقصودهم من اليقين هو الاعتقاد اليقيني الجازم المطابق للواقع، ولكن مع توسعة بحيث يشمل التقليد الذي معه جزم. على أن هذه التوسعة هي بلحاظ عموم المكلفين مما يتناوله الفقيه والمتكلم، أما بالنسبة للعرفاء فكان نظرهم في الغالب جانب الحقيقة وباطن الأشياء، وإبراز هذا الجانب لا يكون إلا لمن حاز على أعلى المراتب في الإيمان. من هنا كان نظرهم منصبا على المراتب العليا في درجات اليقين دون إهمال المراتب الدنيا منها. وللعمل مدخلية ما في الايمان، هي أن العمل شرط في تأثير الإيمان إلا أنه ليس هو نفس الإيمان، بل هو مغاير له. ولذلك عطف عليه في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) [2: 277] وكذلك قوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [20: 112].

أما الولي فقد عرّف بأنه هو اسم لمن فني عن صفاته وأخلاقه وتخلق بأخلاق الله [4].

فهو الفاني في الله سبحانه وتعالى، والباقي به، والظاهر بأسمائه وصفاته [5].

وهو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن [6]. وليس المراد بالفناء انعدام عين العبد بحيث إن العبد يصير معدوما بتمامه بعد أن كان موجودا، بل هو فناء عرفان لا فناء اعيان، وهو الفناء عن جهة عدمية لا عن جهة وجودية؛ وهو اجتياز الحدود العدمية وليس أصل الوجود. فالفناء بمعنى أن جهة في العبد تنعدم وتبقى فيه جهة أخرى. وقد أشاروا إلى هذه الجهة بعبارات شتى:

من قبيل تفسير الفناء بفناء المخالفات؛ بأن يكون العبد فانيا عن المخالفات باقيا في الموافقات، وتصير الأشياء كلها له شيئا واحدا [7]. وعنوا بها أن لا يجري عليه إلا ما أمر الله تعالى به، وما يرضاه له، دون ما يكرهه.

 ومن قبيل تفسيره بالفناء عما له، والبقاء بما لله، وليس هو فناء قالب البشرية؛ فإن البشرية لا تزول عن البشر، وإنما يقع التغير والتبدل في أخلاق البشرية، وصفات البشرية ليست هي عين البشرية [8].

ومن قبيل تفسيره بفناء الحظوظ؛ فهو يفعل ما يفعل لله، لا لحظ نفسه؛ كما أن الله تعالى يفعل الأشياء لغيره، لا لنفع نفسه، وبذلك تكون قد سقطت عنه حظوظ نفسه.

 ومن قبيل تفسيره بفناء الاحساس وزوال الشعور من الإنسان بسبب حال اعتراه. كصويحبات يوسف (عليه السلام): (قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) [12: 50]؛ لفناء أوصافهن، ولما ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى يوسف مما غيبهم عن ألم ما دخل عليهن من قطع أيديهن " [9].

 وعليه، ليس المراد بالفناء هو فناء المخالفات وبقاء الموافقات، مما تقتضيه التوبة النصوح، ولا زوال الرغبة والحرص والامل، مما يقتضيه الزهد. ولا فناء الاوصاف المذمومة وبقاء الاوصاف المحمودة، مما يقتضيه تزكية النفس. ولا فناء الاحساس ونحوه مما يتضمن معنى الفناء من بعض الوجوه. وانما المراد به حقيقة ما، أشاروا إليها بآثارها من الفناء المطلق، وما يستولي من أمر الحق سبحانه وتعالى على العبد، فيغلب كون الحق سبحانه وتعالى على كون العبد. وهو فناء الجهة البشرية في الجهة الربانية. بحيث يكون العبد مبدأ لأفعاله وصفاته ولكن من حيث الجهة الربانية لا البشرية. وهذا هو أعلى درجات الفناء، أي فناء العارف في المعروف، أو الشاهد في المشهود، كفناء نور الكوكب والقمر في نور الشمس. وبالفناء عن الجهة البشرية، والبقاء بالجهة الربانية، يصدر عن الفاني من الأفعال والصفات ما يصدر عن الله تعالى، كما ورد في الحديث المشهور: " فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي يبصر به " [10]. فالعبد مبدأ لأفعاله وصفاته من حيث الجهة البشرية، فما يفعله يسنده إلى نفسه قبل اتصافه بالولاية الخاصة. وبعد اتصافه بمقام الولاية الخاصة يكون هو مبدأ أفعاله وصفاته ولكن من حيث الجهة الربانية. فهذه الولاية تصحح النسبة، فقبل الولاية كان العبد يسند الفعل إلى نفسه، ويرى نفسه مبدئا له، وبعدها يسنده إلى الجهة الربوبية، ويكون الفاعل هو الله تعالى، ويرى العبد حينئذ هذا التوحيد الأفعالي، ويرى نفسه مبدئا للفعل أي مظهرا له، فالفاعل هو الله تعالى، إلا أنه يظهر فعله في عبده بلحاظ الجهة الربانية، نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " قلعت باب خيبر بقوة ربانية " [11]، أي بالجهة الربانية [12].

وتبلغ الولاية أقصى مدى لها في مرتبة حق اليقين التي هي الولاية على الحقيقة، وهي التي يعبر عنها بالتخلق بأخلاق الله، والتحقق بأوصافه تعالى، وقيام العبد بالله تعالى، والفناء في الله والبقاء به. فالولاية مرتبة من مراتب القرب الالهي، هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه، وتبديل أخلاقه بأخلاقه، وتحقيق أوصافه بأوصافه [13]. والمقصود من الجميع هو الاشارة الى أن الولاية الخاصة تختص بالسالك الذي أحرز كافة مراتب القرب الالهي. ولها مراتب هي عبارة عن فناء العبد في الحق ذاتا، وصفة، وفعلا؛ " فأول منزل من منازل أودية الفناء محو الأفعال في فعل الحق، ثم منزل محو الصفات، ثم منزل محو الذات " [14]. ذلك ان الذات محجوبة بالصفات، والصفات محجوبة بالأفعال، والأفعال محجوبة بالأكوان. والعارف، من خلال سلوكه المعنوي، يسعى إلى خرق تلك الحجب، فيبدأ بتحقيق مقام وحدة الأفعال، ويفنى فيها، بأن لا يشهد فاعلا إلا الله؛ ثم يرتقي إلى تحقيق مقام وحدة الصفات، ويفنى فيها، فلا يشاهد سميعا ولا بصيرا ولا مريدا ولا متكلما ولا حيا ولا عليما ولا قادرا إلا الله؛ ليصل بعد ذلك إلى مقام وحدة الذات، ويفنى فيها، بحيث لا يشاهد موجودا على الحق إلا الله تعالى. ويعبرون عن مراتب الفناء الثلاث بالمحو والطمس والمحق على الترتيب: فالمحو أن يرى كل فعل مستهلكا في فعله تعالى الواحد، والطمس أن يرى كل صفة كمالية مقهورة في صفته تعالى، والمحق أن يشاهد كل وجود منطويا في وجوده تعالى.

ويتوقف اثبات إمكان الولاية الخاصة على فهم طبيعة الانسان وقابليته للتحقق والتسوية والتصفية من حيث الصفات والأفعال؛ ويؤكد العرفاء على أن لكل انسان جهة إلى الخلق، وجهة إلى الحضرة الالهية: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) [2: 148]. فالاعمال الصادرة عن الانسان تارة تصدر عنه من الجهة الخلقية، وأخرى من الجهة الحقية. ويرون أن صورة العمل الظاهرية لا قيمة لها، وإنما قيمة العمل بالجهة الباطنية التي يكون فيها للحق تعالى. ولهذا فإن الولاية تصحح النسبة، بأن تجعل العمل صادرا عن الانسان من الجهة الربانية. ولتحقيق هذا المقام ينبغي ان يندرج الانسان في سلك الولاية؛ فيسعى لإيقاظ الجهة الالهية الكامنة فيه من خلال التوجه التام والعشق والمحبة، إلى أن يتحقق بصفات الله تعالى ويتخلق بأخلاقه ويزول اسمه وينمحي رسمه، فيحصل منه حينئذ ما يحصل من الله تعالى بحكم المظهرية. فالولاية الخاصة إنما تحصل بالتوجه التام إلى حضرة الحق المطلق سبحانه، بحيث تقوى الجهة الإلهية في العبد، والتي تلي الحق تعالى، وتشتد بهذا التوجه إلى أن تقهر الجهة الخلقية وتفنيها من أصلها، ويحصل عند ذلك الفناء التام. من هنا، مثّلوا لكون التوجه إليه موجبا للفناء عن الجهة النفسية، والبقاء بجهة الالهية، بالقطعة من الحديد المجاورة للنار؛ فإنها بسبب المجاورة والاستعداد لقبول الصفات النارية، والقابلية المختفية فيها، تتسخن قليلا قليلا، إلى أن يحصل منها ما يحصل من النار من الإحراق والإضاءة وغيرها، وقبل ذلك كانت مظلمة كدرة. وإذا كان هذا هو الحال في قطعة الحديد، فكيف بالروح الإنسانية والنفس الناطقة القدسية، القابلة للخلافة الإلهية والوجود الحقاني بالتصفية والتسوية، كما أشير إلى هذه الروح بقوله تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [15: 29]. ويترتب على ما تقدم أمران:

 الاول، أن الفناء هو فناء الجهة والأثر البشري، وليس انقلابا في الذات الذي هو محال. ذلك أن المحو هو ذهاب الكل، ونفي الكل لا يقع إلا على الصفات.

 والثاني، أن فناء الجهة يحصل تدريجيا بفعل القابلية والاستعداد الكامن في الانسان، باعتبار أن كيفية الاتصاف بمقام الولاية الخاصة واثباتها ينبع من الطبيعة الانسانية التي خلقها الله تعالى والتي تتبع مبدأ التدرج بحسب القابليات.

ويتضح بما تقدم عدم المانع من وجود العلاقة الولائية الخاصة بين الله تعالى والانسان، فإذا ثبت إمكانها فيقع البحث حينئذ في وقوعها، وهذا الأمر تكفلت به النصوص القرآنية والروائية والتي تفوق حد الحصر. وقد صرح القرآن الكريم بوجود هذا الاستعداد الخاص الذي يحمله الانسان من بين المخلوقات في العلاقة مع الله تعالى، قال تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) [15: 29]. كما صرح بوجود هذه العلاقة الولائية بين الله تعالى وبعض عباده، فهم أولياء لله تعالى وهو وليهم. قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) [10: 62] وعندما يصير الانسان قريبا من الله يدخل في حصن التوحيد " لا اله الا الله حصني " [15]. وعندما يدخل في حصن التوحيد فلا خوف عنده ولا حزن، لأنه لم يفقد شيئا لكي يغتم ولا يفقد شيئا لكي يخاف. فما هو محبوب المؤمن غير قابل لأن يفقد وما هو زائل ليس بمحبوبه. فهم أولياء الله كما أن الله سبحانه ايضا ولي المؤمن: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ) [2: 257]. ولا شك في أن دلالة الدليل القرآني على وقوع العلاقة الولائية الخاصة بين الانسان وربه، تغنينا من البحث عن امكانها؛ إذ الوقوع أدل دليل على الامكان.

وتدل الولاية على معنى حقيقي يشير إلى مرتبة من الكمال الوجودي الثابت لأولياء الله. وإن كانت تستعمل أيضا بمعنى اعتباري يشير الى الإمارة والتولية والسلطان مما يكون لولاة الأمر. والفرق بينهما واضح؛ إذ الولاية بالمعنى الاول تنشأ من أسباب واقعية خاصة؛ توجد بوجودها وترتفع بعدمها. أما ولاية ولاة الأمر فهي ناشئة من أسباب اعتبارية جعلية؛ والاعتبار سهل المؤونة؛ يوجد بمجرد اعتبار المعتبرين، ويرتفع بعدمه، كما في العقود والمعاملات. ويتوقف تحقق الولاية الواقعية بمعنى الكمال الوجودي على العلم والعمل؛ فالعلم مقرون الى العمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه [16]. فلا بد في تحصيل الولاية من اقتفاء أثر الأنبياء والأولياء في السلوك، وذلك بإزالة العوائق الذهنية والشبهات النظرية عن الذهن توصلا إلى علم اليقين، والتطهر من الموانع الخلقية والشهوات العملية في النفس وحرث بذور الشوق والمحبة توصلا إلى عين اليقين؛ فإن التنزه عن الشك والشبهة نظريا، والتحكم بالشهوات عمليا؛ هما من محققات الولاية ومقدمات شهود توحيد الذات والصفات والافعال. ومعرفة الله تعالى ليست مطلبا نظريا فحسب، بل هو بالدرجة الأولى معرفة خاصية الحقائق في ذاتها، بمعنى مشاهدتها حضوريا في صقع الذات والظهور بها. وتتوقف الولاية الخاصة على كمال الانقطاع والتوجه التام؛ وذلك بحصول المحبة لله تعالى، والمحبة إنما تنشأ من توفر المحبوب على كمال ما، ولا شك أن كل كمال وجمال فهو محبوب بحكم فطرة الانسان. فقد فطر الله تعالى النفس على محبة الجمال وطلب الكمال، وحيث إن ذاته المقدسة أجمل من كل جميل، بل جمال كل جميل رشحة من بحر جماله وكماله، فتكون المحبة كامنة في الإنسان بالنسبة إليه تعالى. غاية الأمر، أن تحقق المحبة يتوقف على الالتفات الى جمال المحبوب، فإذا انكشف حجاب الغفلة بقوة الايمان، ورأى الانسان جمال ربه الجميل؛ أحبه: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) [2: 165]. وإلا ما لم ترتفع الحجب الحائلة دون مشاهدة جمال الله تعالى، لا تصير محبة الجميل الكامنة في فطرة الانسان فعلية. فالمعرفة والالتفات شرط تحقق المحبة. ولا بد لمن أراد الوصول إلى الفناء عن النفس من تحصيل المحبّة به تعالى. كما أن محبة الله تعالى موجبة للعزوف والتقوى عما عداه، والتقوى هنا في ترك الحلال، لا في ترك الحرام. ومن مراتب التقوى الاجتناب عن رؤية النفس. وأعلى مراتبها هو الاتقاء عن مشاهدة السوى؛ فالتقوى بحقيقتها هي اتقاء مشاهدة وجود الخلق مع وجود الحق. فلا تظهر محبة الله تعالى للإنسان، وترتفع الحجب، إلا باجتنابه المحارم، بل كل ما يضاد المحبة ويناقضها؛ ذلك أن تمامية التوجه الى الله تعالى وكمال الانقطاع اليه يستوجب ترك التوجه الى ما عداه، فالتقوى هي العزوف عن الكثرة والسوى، وهي سبب لحبّ اللَّه تعالى لعبده، ومحبته تعالى له تقتضي كشف الحجب، فإذا انكشفت الحجب وشاهد الانسان جمال الجميل أحبه، وإذا اشتد الحب إلى النهاية - ولا نهاية لظهور جماله - فقد تحقق الوصل والفناء.

 



[1] انظر: حقائق الايمان، الشهيد الثاني، الطبعة الأولى، 1409، مكتبة آية الله المرعشي، قم، الصفحة 115. (بتصرف).

[2] حقائق الايمان، الشهيد الثاني، الطبعة الأولى، 1409، مكتبة آية الله المرعشي، قم، الصفحة 104.

[3] انظر: الفتوحات المكية، ابن عربي، الجزء الثاني، دار صادر، بيروت، الصفحة 132.

[4] مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم، القيصري، الصفحة 140.

[5] نقد النصوص في شرح نقش الفصوص، عبدالرحمن الجامي، تحقيق عاصم ابراهيم الكيالي، دار الكتب العلمية، بيروت، الصفحة 213 - 214.

[6] التعريفات، الجرجاني، طبعة جديدة 1985، مكتبة لبنان، بيروت، الصفحة 275.

[7] التعرف، الكلاباذي، تحقيق أحمد شمس الدين، الطبعة الأولى، 1993 م، دار الكتب العلمية، بيروت، الصفحة 142 - 143.

[8] اللمع، الطوسي، تحقيق عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، 1960 م، دار الكتب الحديثة بمصر، الصفحة 543. قال: والذي اشار الى الفناء أراد به فناء رؤية الاعمال والطاعات ببقاء رؤية العبد لقيام الحق للعبد بذلك. وكذلك فناء الجهل بالعلم، وفناء الغفلة بالذكر.

[9] التعرف، الكلاباذي، تحقيق أحمد شمس الدين، الطبعة الأولى، 1993 م، دار الكتب العلمية، بيروت، الصفحة 145.

[10] أصول الكافي، الشيخ الكليني، الطبعة الرابعة، 1365 هـ، تحقيق علي أكبر غفاري، دار الكتب الإسلامية، الصفحة 352.

[11] الأمالي، الشيخ الصدوق، الطبعة الاولى، 1417 هـ، تحقيق ونشر مؤسسة البعثة، قم، الصفحة 604. قال: " روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في رسالته إلى سهل بن حنيف (رحمه الله): والله ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعا بقوة جسدية، ولا حركة غذائية، لكني أيدت بقوة ملكوتية، ونفس بنور ربها مضية... " الخبر.

[12] الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة، جواد عباس كربلائي، تحقيق محسن أسدي، الجزء الأول، دار الحديث، الصفحة 23.

[13] نص النصوص في شرح فصوص الحكم، حيدر الآملي، الصفحة 269 - 270. و 167 - 168.

[14] شرح منازل السائرين، عبد الرزاق الكاشاني، الصفحة 169.

[15] التوحيد، الشيخ الصدوق، تصحيح السيد هاشم الطهراني، منشورات جماعة المدرسين، قم، الصفحة 25.

[16] نهج البلاغة، الامام علي (عليه السلام)، الجزء الرابع، الطبعة الاولى، 1412، دار الذخائر، قم، باب الحكم، الصفحة 85. الحكمة رقم 366. قال (عليه السلام): " العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل. والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل عنه ". 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=493
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2013 / 07 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 19