• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : تجلّيات العبادة في نطاق السلوك الاجتماعي .
                          • رقم العدد : العدد الثامن والعشرون .

تجلّيات العبادة في نطاق السلوك الاجتماعي

 تجلّيات العبادة في نطاق السلوك الاجتماعي

(الإمام الخميني نموذجا)

الشيخ حسن بدران

العبادة هي الثناء على المعبود تقرّبا منه تعالى، والخضوع والانقياد لأمره، وهذا الثناء أو الانقياد وإن كان يتجلّى صريحا في النشاطات التي يقوم بها الأفراد على مستوى العبادات الشخصية، إلا أنها تنعكس باعتبار آخر على مستوى النشاط الاجتماعي ككل؛ ذلك أن الشريعة الإسلاميّة تحوي الى جانب العبادات معاملات وأحكام، والعمل بهذه الأحكام يتضمن الطاعة والخضوع والانقياد لله تعالى، بحيث يكون الإنسان خاضعا في كل تصرّفاته وسلوكيّاته الصادرة منه للموازين والضوابط الشرعيّة. يذكر الطريحي في كتابه مجمع البحرين، نقلا عن المحقّق الطوسي في الأخلاق الناصريّة، أنّ الحكماء جعلوا عبادة الله على ثلاثة أنواع، وهي: ما يجب على الأبدان، كالصلاة والصيام والسعي في المواقف الشريفة لمناجاته جلّ ذكره. وما يجب على النفوس، كالاعتقادات الصحيحة: من العلم بتوحيد الله، وما يستحقّه من الثناء والتمجيد، والتفكّر في ما أفاضه الله سبحانه على العالم من وجوده، وحكمته، ثمّ الاتّساع في هذه المعارف. وما يجب عند مشاركات الناس في المدن، وهي في المعاملات، والمزارعات، والمناكح، وتأدية الأمانات، ونصح بعض لبعض بضروب المعاونات، وجهاد الأعداء، وحماية الحوزة[1]. ولا يقتصر البعد الاجتماعي على هذا المعنى العام لمفهوم العبادة، بل يمتد للعبادة بمعناها الاصطلاحي البحت؛ ذلك أنّ العبادة الاصطلاحيّة تختزن بعدا اجتماعيّا لا يقل شأنا عن العبادة بالمعنى العام. إن العبادات الفردية وثيقة الصلة بالبعد الاجتماعي بحيث يرتبط تحققها بمدى انتظام الفرد في علاقته مع ربّه ومع مجتمعه: «من أصلح ما بينه وبين الله، أصلح الله ما بينه وبين الناس»[2]. والعبادة الواحدة تتوفّر على مصالح فرديّة واجتماعيّة في آن واحد، وأنّ المشرّع لاحظ هذه الجوانب المتنوّعة معا في عالم التشريع، كما لاحظ دور العبادة على مستوى الإعداد النفسي والروحي، وما يمكن أن يترتّب على ذلك من آثار إيجابيّة وبنّاءة على مستوى الفرد والمجتمع. والملاحظ بحسب النصوص الروائيّة أنّ العبادات التي تُؤدَّى بصورة جماعيّة، ويكون طابعها الاجتماعي أقوى، هي أفضل من غيرها من العبادات. فالصلاة جماعة يترتب عليها من الثواب ما لا يترتب على الصلاة فرادى، والحج لا يقتصر في مناسكه على الجانب التربوي والروحي والبدني، بل يشتمل على أبعاد ماليّة واجتماعيّة وسياسيّة.. والحجاب ليس فقط عبادة فرديّة، بل هو أيضا عبادة اجتماعية، وهكذا الإنفاق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من أهم الواجبات الاجتماعيّة: «من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين، فليس بمسلم»[3]. فقد هدَفَ الإسلام في عباداته وشعائره إلى تعظيم المولى سبحانه وتعالى، ومع ذلك امتدّت هذه العبادات لتشمل قطاعات واسعة من النشاط الإنساني؛ فأسبغ الإسلام بتشريعه للجهاد، والزكاة، والخمس، والصيام، والوضوء، والغسل، طابع العبادة على النشاطات العسكريّة، والماليّة، والصحيّة، والغذائيّة وما إلى ذلك من نشاطات تطال مختلف جوانب الحياة. وميّزة هذا الشمول هو في استقطابه كافّة الأنشطة الاجتماعيّة، والسياسيّة، والفرديّة، وجذبها إلى محور واحد هو الله تعالى، وبذلك يتحوّل كل نشاط بشري إلى جهد عبادي يبذل في سبيله – تعالى. وبهذا تتّسع دائرة العبادة لتطال مختلف جوانب النشاط البشري.

وفي الحديث عن الوجه الاجتماعي للعبادة، لا بد من تأكيد مفهوم شمول العبادة كما جسّده الإمام الخميني(ره) في سيرته العمليّة ونهوضه الإصلاحي؛ حيث يتضح أنّ ممارسة الطقس الديني لا ينبغي أن يحول دون الاهتمامات الاجتماعية، وما يرتبط منها بالشأن العام، وهنا يتمّ التأكيد على ربط الدين بالحياة، ذلك الربط الذي يظهر بوضوح في النماذج والتجلّيات الاجتماعيّة للعبادة.

وتحتكم نظرة الإمام إلى المجتمع الإنساني إلى مفهوم شمول الرحمة الإلهيّة لجميع المخلوقات، ذلك المفهوم الذي لا يفتأ يكرره ويحث عليه في وصاياه سيما لولده السيّد أحمد، إذ يقول: «اجعل نظرتك إلى جميع الموجودات وخصوصا البشر نظرة رحمة ومحبّة. أوَليست الموجودات كافّة والتي لا حصر لها واقعة تحت رحمة ربّ العالمين من جهات عديدة؟ ثمّ أليس وجود حياتها، وجميع بركاتها، وآثارها، من رحمة الله ومواهبه على الموجودات؟ وقد قيل: كل موجود مرحوم، فهل يمكن لموجود ممكن الوجود أن يكون له شيءٌ من نفسه؟ أو أن يستطيع موجود (ممكن الوجود) مثله أن يعطيه شيئا ما؟ وعليه فإنّ الرحمة الرحمانيّة هي الشاملة للعالم بأسره. ثمّ إنّ الله الذي هو ربّ العالمين، وتربيته التي تشمل العالم، أوَليست تربيته مظهرا للرحمة؟ وهل يمكن أن تكون الرحمة والتربية شاملة للعالم دون اقترانها بالعناية والألطاف والمحبّة الإلهيّة؟ إذن، لِمَ لا يكون مَن شملته العنايات والألطاف والمحبّة الآلهيّة موضعا لمحبّتنا؟ وإذا لم يكن هو الأمر منّا، أليس هو نقص فينا؟ أليس هو ضيق أفق وقصر نظر من قِبَلنا؟»[4].

مضافا إلى ذلك، يؤمن الإمام بأنّ خدمة عباد الله هي وسيلة لخدمة الحقّ: «ما دُمنا عاجزين عن شكره وشكر نعمائه التي لا نهاية لها، فما أفضل لنا من أن لا نغفل عن خدمة عباده؟ فخدمتهم خدمة للحقّ – تعالى، فالجميع منه. علينا أن لا نرى أنفسنا أبدا دائنين لخلق الله عندما نَخدِمُهُم، بل هُم الذي يُمنُّون علينا حقّا، لكونهم وسيلة لخدمة الله جلّ وعلا. ولا تسعى لكسب السمعة والمحبوبيّة من خلال هذه الخدمة، فهذه بحدِّ ذاتها من حبائل الشيطان التي يُوقعنا بها. واختر في خدمة عباد الله ما هو الأكثر نفعا لهم وليس ما هو الأنفع لك ولأصدقائك، فمثل هذا الاختبار هو علامةُ الإخلاص لله جلّ وعلا»[5].

لم يكن اهتمام الإمام(ره) وعنايته بالأمور المعنويّة والتربية والأخلاق بالنحو الذي يفرض عليه الانعزال جانبا، أو يدعو إلى «الانعزال في إحدى الزوايا، والانقطاع لتلاوة الذكر والوِرد، ونسيان كل شيء كما يظن بعضهم من أنّ الاتّصال بالله، ودوام ذكره، لا يتمّ إلاّ عن طريق تلاوة الأوراد والأذكار والتسبيحات لذا فقد كان الإمام يتبع نهجا آخر يختصّ به نفسه. والكثير من الذين عايشوا الإمام وكانوا على مقربة منه يقولون: إنّ الإمام دائم الذكر، وإنّ قلبه ينبض بذكر الله دائما، وبغاية الاطمئنان ﴿ ألاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾[6] حتّى ولو كانت يداه خاليتين من المسبحة، أو أنّ شفتيه لا تتحرّكان بالذكر إطلاقا. إنّه كان لا يسهو عن ذكر الله، فهو يلهج بالحمد والثناء والشكر لله الخالق الواحد الأحد، لذا؛ فإنّ ذكر الله سبحانه وتعالى وتمجيده ليس باستعمال المسبحة فقط، وبتحريك الشفاه بزمزمة وانفعال ورياء بمثل ما ابتلي به بعض الناس. بالرغم من انشغال الإمام بذكر الله، فإنّه يكره التظاهر بذلك، وهذه خصوصيّة أخرى امتاز سماحته بها. ومن هذه السيرة نرى أنّه بالرغم من اهتمامه بالزيارة والعبادة والدعاء، فإنّه لم يكن ينسى الكثير من الأشياء الأخرى؛ فلم يتخلّ عن النهوض بمسؤوليّته في معالجة مشاكل الناس، ورفع المظالم عنهم، وتقديم الخدمات لهم. إنّه لم يدر بخلده يوما أنّه لو انشغل بالدعاء والزيارة، ينسى الكثير من الأشياء، ولا يحسّ بأيّة مسؤوليّة، ويحمّل الآخرين إنجاز أعماله الشخصيّة، فيلقي بأمور معيشته عبئا على عاتق الآخرين، يتصوّر نفسه أنّه من أهل الصلاح والتقوى؛ لأنّه يحمل المسبحة بيده، ويألف المشاهد المشرّفة والمساجد، معتكفا لا يهمّه إلاّ الذكر والورد والدعاء!»[7].

يقول الإمام(ره): «إنّ أولئك الذين بلغوا هذا المقام أو ما يماثله، لا يختارون العزلة عن الخلق أو الانزواء، فهم مأمورون بإرشاد وهداية الضالّين إلى هذه التجلّيات، وإن كانوا لم يُوفقوا كثيرا في ذلك.. إنّ خاتم النبيين الرسول الأكرم(ص) أُمِرَ بعد بلوغه القمّة من مرتبة الإنسانيّة بهداية الناس بعد أن خاطبة تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾[8]»[9].

وقد أعلن الإمام الخميني(ره) عن رفضه للاتّجاهات التي تدعو إلى فصل الدين عن الحياة العامّة، أو تدعو للتمييز بين العبادة ومجالات الحياة الأخرى؛ ذلك أنّ حصر العبادة في النطاق الشخصي الضيّق ينمّ عن جهل متفاقم بحقيقة كلّ من الدين والحياة على السواء، لا فرق في ذلك بين مَن يصادر الدين لصالح الحياة أو يصادر الحياة لصالح الدين. وبمقتضى شمول العبادة هذا، فإنّ كل عمل يقوم به الإنسان في سبيل أن يُعبَد الله تعالى على الأرض سوف يصطبغ بالصبغة العباديّة، دون أن يلغي ذلك أولويّة العمل العبادي المرسوم من قبل المولى – سبحانه على سائر الأعمال الأخرى، سيما إذا كانت هذا العمل مثل الصلاة.

وعليه، فمن الخطأ النظر إلى الدين على أنّه مجرّد شعائر وطقوس عباديّة فحسب لا ارتباط لها بالمجتمع، كما أنّه من الخطأ النظر إلى الدين على أنّه مجرّد وسيلة لإصلاح المجتمع، فلا نقيم وزنا للطقوس والشعائر العباديّة في نفسها. وإنّما يجري التأكيد هنا على عينيّة الموقف الذي ينأى عن جانبي الإفراط والتفريط، ذلك أنَّ «المصائب التي أصابت المجتمع الإسلاميَّ كانت من جرّاء الإفراط والتفريط، فبعضهم يعتقد أنّ العبادة لا تتجاوز القيام ببعض الشعائر والأدعية، ولم يدرك من الإسلام غير هذا. يقابل هؤلاء في الجانب الآخر أفراد لا يقيمون وزنا لهذه الأمور. ولا يخفى أنَّ الطرفين المذكورين كانا غير صحيحين، وأنّهما بعيدان عن خطِّ الإسلام والإمام»[10].

ويعتبر سلوك الإمام خير شاهد ودليل على هذه الحقيقة، فإنّ «هذا الرجل التاريخي العجيب والنابغة، كان حين يبحث المسائل العلميّة يحقّق فيها بشكل واسع وكأنّه غارق في العلم ولا علاقة له بشيء غيره، وعندما كان يدور نقاش سياسي كان يبدي وجهة نظره من جميع الأبعاد وكأنّه قضى عمره في الأمور السياسيّة، وكان في عبادته عابدا من الدرجة الأولى، وهو يقف في المحراب ويناجي ربّه وكأنّه ترك الحياة كلّيا وشغل نفسه بالعبادة. والخلاصة، إنّه كان في كل مجال إنسانا كاملا»[11].

«إنّ هذا الشخص الذي يعطي الأهميّة كلها للأمور العباديّة والمعنويّة، يبرز أيضا في المسائل والقضايا السياسيّة، ويكون حاذقا كذلك في الأمور الاجتماعيّة والإداريّة؛ يتعامل معها ويتصرّف بحكمة بالغة وببعد نظر حادّ، ممّا لم نجد له ندّا إلاّ بين القلّة القليلة من أمثاله، لذا فقد كان رجل السياسة الماهر، العابد المتواضع، الذي سلك سبل العرفان، فعزف عن الدنيا ومغرياتها»[12].

كانت رؤية الإمام تقضي أن يتعامل مع الإسلام بجميع أبعاده وجوانبه، ويضع العمل المناسب في مكانه المناسب؛ فالعبادة في محلها، والسياسة في محلها، وجميع المسائل الأخرى الاجتماعيّة والأخلاقيّة والسياسيّة لها مكانها المناسب. فإذا حانت الصلاة نسي كل شيء وتفرّغ للعبادة، بينما تراه سياسيّا بارعا في ميادين السياسة، وهكذا القضايا الاجتماعيّة والاخلاقيّة، فلم يكن عنده جانب يطغى على آخر.

العبادة والتزييف الاجتماعي

يتجاوز الطابع الاجتماعي للعبادة دور البِناء والترشيد إلى دور النقد، وهذا يدخلنا في الجانب المعرفي الذي يعتبر واحدا من أهم إسهامات العبادة، وهو جانب نقدي متعلّق بالسلوك العملي المزيّف والذي يختبئ في لباس الأعراف والعادات؛ ذلك أنّ الأوضاع الاجتماعيّة تحتّم على المرء الانسجام العام الذي ينبغي أن يكون عليه في تصرّفاته مع الآخرين، ونوعيّة هذه السلوكيّات تمليها الاعتبارات والأعراف العامّة التي درج عليها الناس في سلوكهم بصرف النظر عن منشأ هذه الاعتبارات. على أنّ هذا السلوك لا يتّسم بالواقعيّة دائما، فيدخل فيه أنواع المجاملات والتشريفات الخاصّة بالأشخاص بسبب ما لهم من مكانة اجتماعيّة ونحو ذلك من سلوكيات قد لا تحظى بالقبول بحجة أنها من خارج الشرع. وفي المقابل، قد لا تنسجم بعض السلوكيّات الاجتماعيّة مع مزاجنا الشخصي على الرغم من أنّها تحظى بالصفة الشرعيّة، وعلى سبيل المثال نجد أنّ الشرع يراعي في تشريعه موضوع الشأنيّة الشخصيّة بحيث يرجع تشخيص الاستطاعة في الحج مثلا إلى شأنيّة الأشخاص، وكذا في تحديد مهر المثل بالنسبة للزوجة والذي يتفاوت من زوجة إلى أخرى بحسب شأنيّة الزوجة الاجتماعيّة.

إنّ هذا الأمر يضعنا أمام التساؤل المعياري الذي ينبغي اعتماده في تشخيص ما لهذه الاعتبارات من واقعيّة أو زيف، وتحديد الميزان الذي من خلاله يتمّ تشخيص الموارد المشروعة وتمييزها عن الموارد الغير مشروعة، وقد لا نملك أن نحسم النتيجة بشكل جازم في مثل هذه القضايا الاعتباريّة إلاّ بأن نسلك روحيّا – إن كنا أهلا لذلك لنختبر ما يمكن أن نستشفه من وراء التجربة، أو نحاول تعقّب عيّنات من المواقف والسلوك النيّر الذي يتّسم بالمعياريّة إزاء الأوضاع الاجتماعيّة السائدة لتحليل مرجعيّة تلك المواقف وإن بنحو كلي.

وفي هذا المجال نتلمّس من خلال تجربة الإمام الفريدة التي خاضها في سلوكه الاجتماعي ما يذكرنا بسيرة الأئمة والصالحين من الذين شرّعت لهم الدنيا أبوابها، وجادت عليهم بالشهرة والسلطة وإقبال الناس. ومع ذلك لم تستحوذ على قلوبهم أدنى استحواذ، وإنّما سلموا مفاتيح القلوب إلى بارئها، وأودعوا ارواحهم لدى المحبوب الأزلي، ويمّموا شطر المعبود الأوحد ولم يطلبوا وصالا إلاّ به وإليه، ولم يسمحوا للضغوط الخارجيّة الناشئة من اعتبارات المجتمع أن تؤثّر في قرارهم. وإنّنا لا نشكّ في أنّ تلك الروحيّة الصلبة التي تميّز بها الإمام(ره) إنّما هي ثمرة التعبّد في محراب العشق، وأنّ تلك المواقف الاجتماعيّة والعامّة التي اتّخذها في حياته إنّما هي من تجلّيات تلك الروح المؤمنة العابدة المتوكّلة في كل شؤونها على ربّها وخالقها لا غير، فليس للاعتبارات المزيّفة هنا أي أثر يذكر.

 

وفيما يعود الى علاقة الإمام بالناس، نلمس إصرارا منه (ره) وحرصا شديدا على أن يكون قريبا منهم. كيف لا! وهو يرى في الخلق تجلّيات جمال المعشوق الأوحد، ويرى خدمة الحق في ثوب خدمة الخلق، ولهذا كان يبدي الانزعاج الشديد حين يحيط به المحبّون لإبعاد الناس عنه، ويرفض أن يكون له أيّة خصوصيّة تميّزه عن الآخرين رغم موقعه المتقدّم ومكانته السامية، فكان (ره) لا يرضى أن يقوم أحد بدفع الناس عن طريقه، وكان يتواجد في الحرم المطهّر بالنجف الأشرف في غمرة من الازدحام الشديد، وقد بلغ الضغط لدرجة يصعب فيها على أمثاله من الشيوخ أن يشقّوا طريقهم دون أن يصيبهم من جرّاء ذلك أذى ومكروه، خاصّة وأنّ الكثير كانوا لا يبالون بتحرّكهم وسلوكهم، وغالبا ما كانوا يصطدمون به غير مبالين. مع ذلك كان الإمام سعيدا بتحمّل جميع الضغوط والمعاناة التي يلاقيها في المشاهد المشرّفة، ولا يتحمّل تطوّع الآخرين في دفع الناس والزائرين لفتح الطريق أمامه.

ولقد شاهد أحد السّادة الإمام يوما، في غمرة من الازدحام الشديد، في حرم أمير المؤمنين(ع) فتعلّقت عيناه بالإمام وهو بين أمواج من الكتل البشريّة، وخشي عليه من خطر الوقوع تحت أرجل الناس، فجاء إلى الرجلين اللذين كانا يسيران بمعيَّة الإمام، وأنكر عليهما عدم إزاحة الناس عنه، وقال لهما بحدَّة بالغة: أتنتظران من الإمام أن يفتح هو لكما الطريق ليسهّل عبوركما بين هذا الحشد الهائل من الناس؟! فقالا له: لا نجرؤ على مخالفة الإمام؛ لأنّه لا يرتضي لنا أن نكفّ الناس عن طريقه بأيّ حال من الأحوال. وغلب الغضب على هذا السيّد فخلع عباءته وكوّرها بين يديه وتقدّم بهمّة وعزيمة ليفتح الطريق من أمامه بالصلوات على محمّد وآل محمّد فما كان من الإمام إلاّ أن ربّت بيده على كتفه ومنعه من ذلك[13].

ونقل السيّد إملائي أنّه كان في يوم من الأيام في زيارة حرم سيّد الشهداء الحسين(ع) فشاهد الإمام الخميني(ره) في وسط موجة من الازدحام الشديد، وهو لا يستطيع أن يقدّم رجلا إلى الأمام، فما كان منه إلاّ أن أسرع ناحيته ليكفّ الناس عن طريقه، ولكن تغيّر ملامح الإمام دلّه على عدم رضاه عمّا قام به، ومع ذلك فقد واصل كفّ الناس عنه وفتح الطريق أمامه، وبغتة غيّر الإمام خطّ سيره ولم يسلك الطريق الذي هيَّأه له، بل حشر نفسه في غمرة الازدحام كرّة أخرى، ليسلك طريقا آخر يرتضيه هو لنفسه[14].

وكان ينفرد في تجواله وزياراته، بحيث أنّ الإمام أراد ذات يوم زيارة أحد العلماء في مدينة قم، ولكنَّه كان لا يعرف عنوانه، فطلب من الشيخ صانعي أن يزوّده بالعنوان، ولقد أصرّ عليه الشيخ كي يرافقه ويرشده بنفسه إلى العنوان، ولكنّ الإمام رفض ولم يقبل بذلك[15].

وحينما عاد الحجّاج الإيرانيّون في سنة (1969م) من أداء فريضة الحج لزيارة العتبات المقدّسة. شهدت مدرسة البروجردي في النجف الأشرف حضور جمع غفير من أولئك الزوّار في صلاة الجماعة التي كان يقيمها سماحة الإمام، وكانت الغالبيّة منهم ترغب في السير في ركاب الإمام حتّى إيصاله إلى مقرّ سكناه. بَيْدَ أنّ الإمام كان يأمر بتبليغ الحاضرين جميعا بأنّه ليس لأحد الحقُّ في أن يخرج معه من المدرسة مباشرة، فلذلك كان الزوّار يمكثون في أماكنهم حتّى إذا ما ابتعد الإمام عنهم تفرّقوا زرافات ووحدانا. كان الإمام يحذّر الزوّار الإيرانيّين من متابعته في سيره أينما سار، مع صعوبة حياة الوحدة وعدم وجود المساعد في مواجهة النظام العراقي الظالم الذي كان يسعى جاهدا لكي يجعل الإمام قابعا في زاوية ضيّقة من زوايا مدينة النجف منعزلا عن الناس. ولربّما كانت حركة الإيرانيّين في السير خلف الإمام تعدُّ أمرا ضروريّا ولازما له في تلك الظروف، ولكنّ الإمام الذي كان توجّهه واتّصاله بخالقه العظيم لم يكن يرى غيره سندا يتوكّل عليه، ولم يكن يشعر مطلقا بأنّه وحيد وليس له معين لم يكن محتاجا أبدا لتبيان ما لديه من القدرة من خلال تجمّع الزوّار حوله والسير وراءه أينما سار[16].

وقد مضى على فراق الإمام للشعب الإيراني أكثر من خمسة عشر عاما، وكان أبناء الشعب في غاية الشوق والحنين لرؤية إمامهم وقائدهم. وكان من البديهي أنّ خبر وصول الإمام سوف يكون له صدى واسع بين أبناء الشعب الإيراني، وقد نظّمت لجنة الاستقبال استقبالا حافلا للإمام. يقول الشهيد المظلوم آية الله الدكتور البهشتي: «لقد قمنا بتنظيم برنامج لاستقبال الإمام، سنفرش المطار ونزيّنه بالمصابيح، وسنأخذه من المطار إلى روضة الزهراء بالهليكوبتر». وحين بلغ ذلك مسامع الإمام، رفع رأسه قائلا لأحد معاونيه: اذهب وقل لهؤلاء السادة: هل تريدون استقبال كورش في إيران؟! لا حاجة لهذه الأعمال أبدا، فإنّ أحد الطلبة كان قد خرج من إيران، وهو يعود إليها الآن. إنّي أريد أن أكون بين أبناء أمّتي ولو سقطت بين الأقدام[17].



[1] فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، تحقيق أحمد الحسيني، ج3، ط2، 1983، بيروت مؤسسة الوفاء، ص95.

[2] السيّد البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، ج13، 1407هـ، منشورات مدينة العلم آية الله العظمى الخوئي قم إيران، ص269.

[3] جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج16، ص172.

[4] وصايا عرفانية، (تجلّيات رحمانية)، مصدر سابق، ص28 29.

[5] المصدر نفسه، (محضر الحق)، ص88.

[6] سورة الرعد، الآية 28.

[7] الإمام الخميني قدوة، مصدر سابق، ص56.

[8] سورة المدثر، الآية 1 2.

[9] وصايا عرفانية، (تجلّيات رحمانية)، مصدر سابق، ص17.

[10] المصدر نفسه، ص61.

[11] الإمام الخميني قدوة، المصدر نفسه، ص73

[12] المصدر نفسه، ص53.

[13] لمحات من حياة الإمام الخميني(ره)، مصدر سابق، ص115.

[14] المصدر نفسه، ص115.

[15] المصدر نفسه، ص113.

[16] المصدر نفسه، 114.

[17] لمحات من حياة الإمام الخميني(ره)، مصدر سابق، ص295.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=579
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 04 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 19