• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : أهل البيت عليهم السلام... مَحَالُ معرفة الله .
                          • رقم العدد : العدد الثلاثون .

أهل البيت عليهم السلام... مَحَالُ معرفة الله

  

أهل البيت عليهم السلام... مَحَالُ معرفة الله

 

آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي

 

معرفة أهل البيت عليهم السلام من خلال الزيارة الجامعة  

كلمة "محالّ" جمع "محل" مشتقة من المادة "حلّ" والأصل في معناه فتح الشيء، ويقال: حلّ المسافر بمكان كذا، لأن المسافر يشد متاعه ويعقد، فإذا نزل حل ما عقده، فصارت كلمة "حلّ" بمعنى "نزل"، وسميت "المحلة" كذلك لنزول القوم بها، فالمحل هو ما يستقر فيه الشيء.

وكلمة "المعرفة" مستلّة من "عرف" بمعنى حصول العلم بأمر ما والاطلاع على خصائصه وآثاره.

والفرق بين "العلم" و "المعرفة" أن الشيء المجهول إن كان يُدرك بإحدى الحواس الخمس فيستعمل لفظ العلم فيه، ولذا لا يقال: علمتُ الله، لأنّ ذاته الأقدس لا يمكن تصورها في الذهن، فلا تكون معلومة لأحد. أما "المعرفة" فهي إبانة الشيء وتمييزه عن غيره، ويصح قول: "عرفتُ الله" لأنّ إدراك الذات الربوبية بصفاتها ـ لا وحدها ـ بحيث تبين وتتميز عن غيرها أمرٌ ممكن ومقدور.

معرفة الذات الإلهية

من المهم في بداية البحث التنبيه على أمر، وهو أنّ معرفة كنه الذات الأقدس للباري تعالى كما هي في واقعها ليس بمقدور أحد سوى ذاته المقدسة، فليس ذلك بمقدور لا للملائكة المقربين ولا للأنبياء المرسلين: "إنّ الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم".

وبعبارة أخرى: إنّ الإحاطة العلمية شرط اكتناه كل مجهول ومعرفة جوانبه كلها، والله تعالى هو المحيط بكل شيء، وليس واقعاً تحت إحاطة شيء، لذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما عرفناك حق معرفتك".

وقال إمام العارفين أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن"

فإن كان مثل هؤلاء لا سبيل لهم إلى ذات الله تعالى، وليست لهم إحاطة ومعرفة بحقيقتها، فما بالك بغيرهم من مفكرين!

إنّ ما هو مقدور للموجود الممكن والمكلف به هو معرفة الأسماء والصفات الحُسنى له تعالى.

مناط التكليف في باب المعرفة

المقدار غير المقدور عليه من معرفة الله تعالى خارج عن دائرة التكليف، وما من أحد مأمور به، ومن هنا، قال الحكيم المتألّه الشيخ علي مدّرس زنوزي في تفسير حديث "ما عرفناك حق معرفتك": إنّ حقّ معرفتك هو الاعتراف بالعجز عن معرفتك([1]), فما قدرنا عليه من معرفتك هو حق معرفتك بالنسبة لنا، لأن ما زاد عليها ليس بمستطاع لنا ولسنا بمأمورين به.

وهذا المعنى جارٍ أيضاً في مسألة الشكر، فإنّ القيام بشكره تعالى حق الشكر ليس بمقدور أحد، وليس بواجب، ولذا قال الإمام السجاد عليه السلام: "فكيف لي بتحصيل الشكر، وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت: لك الحمد، وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد"([2]). وقال: "اللهم إنّ أحداً لا يبلغ من شكرك غاية إلا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكراً.. فأشكر عبادك عاجز عن شكرك"([3])

وعليه فإنّ أعلى مراحل المعرفة والثناء ـ وهو حاصل المعرفة ومتوقف عليها ـ الاعتراف بالعجز، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الثناء عليه سبحانه: "لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثبتّ على نفسك"([4])

والاعتراف بالعجز عن حق الشكر هو أرفع درجاته، وحينما يكون البحث عن المعرفة والثناء والشكر لله تعالى فإنّ المراد المقدار المقدور، لا أكثر. وملخص القول:

1-  إنّ ذات الله، وهي الهوية المطلقة، خارجة عن مجال عقل الحكماء وعن دائرة قلب العارفين.

2-  إنّ الصفات الذاتية بحكم الذات، لأنها عينها، فتمتنع على البرهان والعرفان.

3-  إنّ الصفات الفعلية، كالخالقية والرازقية و.. وإن هي ظهور للذات، ومتحدة معها اتحاد الظهور مع الظاهر، لكنها لا تأبى عن الإدراك بالبرهان العقلي أو الشهود العرفاني، لأنها خارجة عن مقام الذات.

4-  إن العلم الحصولي العقلي لا يضارع أبداً العلم الحضوري القلبي، لأن المفهوم الذهني لا يعادل المصداق العيني.

 

الأئمة قمة في الكفالات

إن للمعرفة الميسورة للممكنات مراتب كثيرة، فهي كالجبل الأشم الشامخ، ومرتبة الأئمة عليهم السلام في القمة منه، وفي مرتفعاته الدنيا مراتب المتعلمين على أيديهم، وكل واحد يطوي المسافة نحو القمة بقدر طاقته على التعلم والاستفادة من مدرستهم، ولكن تبقى دوماً مسافة بينه وبين رأس القمة، ضرورة وجود فرق بين المعصوم وغيره، ولأنه "لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين وعماد اليقين"([5])

 

سرّ أفضلية الأئمة

إنّ الفارق الأساس بين مقام الأئمة عليهم السلام وسائر الناس هو إدراك هذه المعارف العالية، إذ إنّ أجنحة عقول غيرهم لا تصل إلى سمائهم، لكن خواصهم والمتعلمين على أيديهم ربما استطاعوا في مجال الكمالات العملية الائتمام والاقتداء بهم وبلوغ مراتب عالية، وأن تمس أيديهم شيئاً من قبس النار ولو من بعيد، مع بقاء المسافة بينهم وبين أهل البيت عليهم السلام شاسعة. أما في مجال السير العلمي وفي طي مراحل الكمال المعنوي، فإن الأئمة عليهم السلام في مرتبة لا يقاس بهم أحد، ولم يخلق إلى الآن من استطاع أن يقول كقول عليّ عليه السلام: "أفأعبد ما لا أرى".

وهو وحده القائل في معرفته بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أرى نور الوحي والرسالة، وأشمُّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله! ما هذه الرنَّة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما اسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنَّك لوزير، وإنّك لعلى خير"([6])

وهو القائل في الدلالة على المعاد: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً".

أما غيره فهم يزدادون يقيناً حينما يبصرون بعيونهم البرزخية ويرون علامات الموت وطلائعه، فيقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَأرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ}([7]) وهذا نهاية مراتب معرفة التوحيد والنبوة والمعاد التي بمقدور المخلوق بلوغها، وقد بلغها عليّ عليه السلام.

الآثار العلمية والعملية للمعارف

لهذه المعرفة آثار في البعد العلمي والعملي، تتجلى آثارها العلمية حينما تتحدث تلكم الذوات القدسية عن الله تعالى، ويفيضون بمثل نهج البلاغة، الذي يحلل أدق مسائل التوحيد الخالص، بنحو لا يوجد له مثيل إلا في القرآن.

أما الآثار العملية للمعرفة فتتلخص في سلب الأصالة عما سوى الله تبارك وتعالى، بل عد ما عداه عدماً، قال علي عليه السلام في هذه الدنيا الكبيرة العظيمة في عيون أهلها: "دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز"([8])، "والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عِراق خنزير في يد مجذوم"([9])، "عظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم"([10])

فعلي عليه السلام لا يبالي بغير الله، لأنه يرى عظمة الله تعالى بقدر سعته الوجودية.

إن هذه الكلام الرفيع في العلم والعمل هو كلام الإمامة، وليس خاصاً بشخص أمير المؤمنين عليه السلام ، والأئمة المعصومون كلهم في مرتبة مماثلة من المعرفة العلمية والسير العملي، ومن أمثلة ذلك دعاء الإمام الحسين عليه السلام.

"إلهي! ترددي في الآثار يوجب بُعد المزار... كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بَعُدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟.. عميت عين لا تراك عليها رقيباً".

والفقرة الأخيرة إخبار وبيان لحقيقة، لا إنشاء ودعاء بالعمى، ومعناها: إن من لا يراك رقيباً عليه هو فعلاً وحقيقة أعمى، لا أنه سيعمى!

إن هذا الكلام يدل على أن قائله رأى ويرى الله تعالى بعين القلب، كما أنه ينظر أيضاً إلى ضمائر الآخرين ودواخلهم.

معنى حلول معرفة الله

معنى كون الأئمة عليهم السلام محال معرفة الله يُتصوّر بعدّة وجوه:

أ‌-    ما سبق قوله، من أنهم يعرفون الله تعالى معرفة تفوق معرفة غيرهم بمراتب كثيرة، فهم عرفوه بأعلى مستوى ميسور للممكنات.

ب‌-                     إن أفضل وأنجع وسيلة لطالبي المعرفة بالله التلقي من مدرسة الأئمة الأطهار، "فكانوا هم السبيل إليك"([11])، ويشهد لهذا الزعم الخطب التوحيدية لذواتهم المقدسة، لا سيما خطب نهج البلاغة.

ت‌-                     إنّ كل موجود هو مظهر لله تعالى، لكن الأئمة عليهم السلام مظاهر أتم وأكمل لأسمائه وصفاته، قال علي عليه السلام: "ما لله نبأ أعظم مني، وما لله آية أكبر مني"([12])

كما أن آثار كل إنسان دليل ملكاته وقدراته، والأئمة عليهم السلام هم أصفى المرايا المتجلية فيها صفات الكمال الإلهي والقدرة الربانية، لأنهم أعظم آيات الله ومظاهره، فمن عرفهم فقد عرف الله.

وهذه المظهرية لله وإن تحققت وصدقت في غيرهم من الأفراد أيضاً، كما جاء في الحديث: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"([13])، لكن مرتبة المعرفة بتوحيد الله الحاصلة من معرفة غيرهم لا تصل إلى مستوى وعمق المرتبة الحاصلة من معرفتهم، فلا مقايسة بين المرتبتين.

ث‌-                     فسرت روايات أهل بيت العصمة عليهم السلام معرفة الله بمعرفة الإمام الواجب الطاعة، والدليل عليه ما قاله المحقق الكراجكي: "اعلم أنه لما كانت معرفة الله وطاعته لا ينفعان من لم يعرف الإمام، ومعرفة الإمام وطاعته لا تقعان إلا بعد معرفة الله، صح أن يقال: "إن معرفة الله هي معرفة الإمام وطاعته"([14])

فعلى هذا تتحقق معرفة الله في معرفة الإمام المفروضة على الخلق طاعته، وعلى هذا الأساس ورد في الحديث النبوي: "..أنا وعلي أبوا هذه الأمة، من عرفنا فقد عرف الله، ومن أنكرنا فقد أنكر الله عزّ وجلّ", وقال الإمام الصادق عليه السلام: "الإمام علمٌ بين الله عزّ وجلّ وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً"([15])، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "معرفتي بالنورانية معرفة الله عزّ وجلّ، ومعرفة الله عزّ وجلّ معرفتي بالنورانية"([16]).

فتبين أن ّ لمعرفة الله ظهوراً تاماً في معرفة الإمام، وأنّ معرفة الإمام آية معرفة الله سبحانه، ولا تغاير بين هاتين المعرفتين، بل بينهما وثيق الصلة والترابط، والعنصر الأساس في هذا الترابط أنّ معرفة ذي الآية تكون بطريق معرفة آيته، ولكن يبقى التفاوت الجوهري قائماً بين الواجب والممكن، ويبقى الفرق الكبير محفوظاً بين معرفة الله تعالى ومعرفة الإمام.

وهناك وجوه أخرى مذكورة، نعرض عنها بغية الاختصار.

ملاحظة

معنى "محل المعرفة" هو تجلّي وظهور المعرفة في الحالّ فيه، لا بمعنى الحلول المادي وعروضه على المحّل، لأنّ معرفة الله مجرد عقلي صرف، والمجّردات العقلية الصرفة منزهة عن الحلول المادي وما شابه.

إشارات

1- نور واحد يشع من أربعة عشر رواقاً

وردت في بعض النسخ كلمة "محل" بدل "محالّ"

فتلك الذوات المقدسة نور واحد وحقيقة واحدة في عالم النور والملكوت، وهو نشأة الوحدة، وحينما حلّوا في هذه الدار، وهي نشأة الكثرة، ظهروا في أربعة عشر إنساناً، فعبّر بكلمة "محل" باعتبار نشأة الوحدة، وعبّر بكلمة "محال" بلحاظ هذه النشأة.

 

ملاحظة

بما ذُكر من كونهم عليهم السلام حقيقة واحدة في عالم الوحدة، ينكشف سرّ اختلاف التعبير عنهم عليهم السلام بالجمع تارة وبالمفرد أخرى في فقرات هذه الزيارة، كما في "موضع الرسالة"، و"مختلف الملائكة"، "مهبط الوحي"، "معدن الرحمة"، "خزّان العلم"، "أصول الكرم"، "قادة الأمم"، "أولياء النعم".

2-هدف الخلقة

إن قيمة كل إناء بما فيه، وشأن كل محل بالحال فيه، وما من عاقل يجعل من آنية البِلّور أو الذهب ظرفاً للتراب والحقير من الأشياء، كما أنه لا يضع الدرّ في الجراب، وما شابه من الأوعية.

وقد حصر القرآن الكريم غاية الخلقة في العبادة، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}([17])، والعبودية تبعية العبد لمولاه بلا شرط، بل تبعية غاية في التسليم والطاعة في شؤونه كلها، بحيث لا يرى لنفسه شيئاً، فلا ينساق وراء ميوله القلبية ولا يستقل بعلمه عن معبوده؛ قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله عزّ وجلّ خلق الجنّ والإنس ليعبدوه، ولم يخلقهم ليعصوه، وذلك قوله عزّ وجلّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}([18]).

والتبعية المطلقة غير ممكنة بغير معرفة الله، ولذا ورد في الرواية: "إنّ الله عزّ وجلّ ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه..."([19])، وقال الإمام الباقر عليه السلام لأبي حمزة الثمالي: "إنما يعبد الله من عرف الله"([20]).

وقد صرَّح الحديث القدسي بهذه الحقيقة: "كنت كنزاً مخفياً، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ الخلق لكي أعرف"([21])

وهذه المعرفة هي الأعلى شأناً، ولا يوجد عَدل لها في المعارف، فالقلب العارف بالله هو أعلى وأفضل القلوب، وعليه فإنه لا قلب يضارع قلب الأئمة الأطهار عليهم السلام ويعدله، لأنه ما من قلب يعرف الله كمعرفة قلب الإمام.

3-الثقلان ومعرفة الله

إنّ القرآن الكريم هو أمثل مصدر لمعرفة الله سبحانه، وذلك لأمرين:

أولاً: إنّ اكتناه الذات الإلهية المقدسة ليس بمقدور لأحدٍ سواه تعالى، وقد بيّن سبحانه في هذا الكتاب معاني وحدود أسمائه وصفاته، فبيان القرآن في مسألة معرفة الله فوق كل بيان.

ثانياً: إنّ الكلام يبيّن قدر المتكلم وحقيقته وخصائصه، وبما أنّ هذا الكتاب الفريد في نظام التدوين هو كلام الله، فهو بالتالي أحسن مبيّن لقدر الله: "فتجلّى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته"([22]). فالقرآن إذن هو الأحسن محلاً لمعرفة الله، وفي هذه الفقرة من الزيارة وُصف الأئمة عليهم السلام بأنهم "محال معرفة الله".

وحاصل هذين الأمرين هو تأكيد على ما ورد في حديث الثقلين، فقد جعل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذين الجوهرين عِدلين متكافئين.

4-القوى الظاهرية والباطنية

إنّ للإنسان بُعدين: جسم وروح، ولكل منهما قلب وسمع وبصر وذوق وشمّ و..، وهذه الحواس الظاهرية والباطنية لها حالاتها الخاصة من السلامة والمرض، إنّ القلب الظاهري ذي الصورة الصنوبرية تعرضه أمراض خاصة به، وعلم الطب هو المسؤول عن تسمية تلك الأمراض ومعالجتها، وللقلب المعنوي أيضاً أمراضه، سمّاها القرآن بـ "الريّن" و "القُفل" و "الأكنّة" و "الصرف" و "الطبع" و "الختم" و "القساوة"، وما شابه ذلك، وقد تكفّل بمعالجتها، والنسبة بين مرض وسلامة القلب الجسماني والروحاني هي العموم والخصوص من وجه، فقد ينعم القلب الجسماني لامرئ بالسلامة، ولكن قلبه الروحاني مبتلى بمرض الكفر أو النفاق أو الفسق، وقد يكون قلبه الجسماني سقيماً ولكن القلب الروحاني سليم، وربما يمرض القلبان معاً، كالكافر حينما يُبتلى قلبه الظاهري بالمرض، وربما حظي القلبان بالسلام، كالمؤمن حينما ينعم قلبه الظاهري بالسلامة.

وهذا الكلام بعينه جارٍ أيضاً في حواس الإنسان: السمع والبصر والشمّ والذوق، ظاهرها وباطنها.

وكما أنّ قوى الإنسان الظاهرية تكون قادرة على رؤية الأشياء وسماع الأصوات وشمّ الروائح إذا ما كانت في عافية، فكذلك تكون قواه الباطنية قادرة على سماع الأصوات المعنوية ورؤية المشاهد المعنوية الخلاّبة وشمّ الروائح الطيبة إذا ما حظيت بالسلامة.

إنّ شمّ النبي يعقوب رائحة يوسف النبي من بعيد وقوله: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ}([23])، إنما كان بفضل وجود الشامّة الباطنية، وهي ثمرة طهارة الضمير وصفاء القلب، والمرء بحاجة إلى سنوات من الصبر لفتح كوّة هذه الشامّة الملكوتية، وعلى العبد أن يبدأ الخطى نحو الله تعالى ليأتيه المدد الإلهي ويمسك الله سبحانه بيده.

فالمدد الربّاني لا يحصل جزافاً وبدون مقدّمة وسير، كما أنّ السير وحده بدون عون إلهي لا يوصل السالك إلى مبتغاه ومقصده.

إن معرفة الله ومن ثم الحديث عنها للآخرين من هذا القبيل، فيجب أولاً أن تكون العين والأذن الباطنيتان للإنسان سالمتين ومفتحتين، ويجب ثانياً البدء في السير نحو الله تعالى.

إنّ أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام حينما يقولون: "نحن نرى الله.."، ومن ثم يتحدثون لنا عن معرفته تعالى، فلأنّ عيونهم وآذانهم الباطنية مفتوحة، ولأنّهم خطوا خطوات باتجاه الله سبحانه، فأتاهم المدد الإلهي، وإن كان مقتضى التوحيد الأفعالي أنّ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}([24])، فالأمور النافعة كلها من عند الله تعالى([25]).



[1] كتاب بدائع الحكمة ص 37

[2] كتاب مفاتيح الجنان، مناجاة الشاكرين.

[3] كتاب الصحيفة السجادية، الدعاء 37

[4] كتاب بحار الأنوار ج 68 ص 23

[5] كتاب نهج البلاغة، الخطبة 2

[6] كتاب نهج البلاغة، الخطبة: 192

[7] سورة السجدة/12

[8][8] كتاب نهج البلاغة، الخطبة: 3، وهي المعروفة بالشقشقية

[9] نفس المصدر، الحكمة: 236

[10] نفس المصدر، الخطبة: 193

[11] كتاب مفاتيح الجنان، دعاء الندبة.

[12] كتاب بحار الأنوار، ج36 ص 1 و 2

[13] المصدر نفسه، ج 2 ص 32

[14] كتاب بحار الأنوار ج 23 ص 93

[15] المصدر نفسه، ج 26 ص 88

[16] المصدر نفسه، ج 26 ص 1

[17] سورة الذاريات/56

[18] كتاب تفسير نور الثقلين ج 5 ص 132

[19] نفس المصدر، ص 132

[20] كتاب بحار الأنوار ج 27 ص 57

[21] المصدر نفسه، ج 84 ص 199 و 344

[22] كتاب نهج البلاغة، الخطبة 147

[23] سورة يوسف/94

[24] سورة النحل/53

[25] تم النقل بتصرف من كتاب ادب فناء المقربين


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=703
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2017 / 01 / 07
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28