• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : أسرة .
                    • الموضوع : الشباب بين ظلمة الإنحراف .
                          • رقم العدد : الثالث عشر / الرابع عشر .

الشباب بين ظلمة الإنحراف

 

 

 

 

 

الشباب بين ظلمة الإنحراف

وضياء الإستقامة

 

 

الشيخ توفيق حسن علوية

 

الشباب مرحلة عمرية موفورة الطاقة، كاملة الحيوية، تامة النشاط، تضج بالحياة، وتبحر في بحر مستقبلها سفن الآمال والأحلام والأمنيات.

والشباب مرحلة تتوسط مرحلة ما بعد الطفولة والصبا ومرحلة ما قبل الكهولة.

وهذه المرحلة الشبابية الواسعة أخيلة أصحابها هي مرحلة مبهمة ومشوشة من حيث التحديد الاصطلاحي ولكنها واضحة تمام الوضوح من حيث الاحساس والوجدان والانطباق العملي. والقدر المتيقن في قضية تحديد مرحلة الشباب هي المرحلة العمرية التي تتراوح ما بين (51 و03) سنة على الصعيد الإسلامي[1]، وإنما قلنا القدر المتيقن لأن هذه المرحلة العمرية المحددة أعلاه مما لا يختلف أحد في صدق انطباقه مصطلح الشباب عليها؛ وإنما يكمن الخلاف في صدق مرحلة الشباب على ما قبل الـ51 سنة وما بعد الـ03 سنة[2] وعلى أي حال، فالشباب هو الشباب، وخطابنا هنا موجه إلى كل من يرى نفسه شاباً ويشعر بذلك وجداناً، فرب شابٍ يحمل روحاً تسكنها الشيخوخة، ورب هرم يحمل روحاً يسكنها الشباب.

تأثير مرحلة الطفولة والصبا

وكما لا يخفى فإن مرحلة الشباب تارة تكون متأثرة وأخرى تكون مؤثرة، فهي تتأثر بمرحلتي الطفولة والصبا من جهة، وتؤثر بمرحلة الكهولة وما بعدها من جهة أخرى. فمرحلة الطفولة ومعها مرحلة الصبا تؤثران في تكوين الشخصية الشبابية وربما تحسم هويتها بمعزلٍ عن الذكورة والأنوثة. ذلك أن مرحلة ما قبل الشباب تؤثر فيها تأثيراً بالغاً وعلى جميع الصعد عاطفياً وفكرياً ودينياً وحركياً وما شاكل، ومن نماذج هذا التأثير مسألة «التحرر»، فالطفل المتحرر لا يعيش في شبابه عقدة الدأب للانعتاق من العبودية أو التقييد؛ بخلاف الطفل الذي لا تكون طفولته وفترة صباه متحررة فإنه سوف يعيش مرحلة تحيّن الفرص للتحرر من الآسار والقيود لا سيما التفلّت من قيود الظواهر الاجتماعية والتقاليد والعادات.

ومن هنا فإنه يلزم تحرر الطفل من كل القيود المادية والمعنوية، الحسية والفكرية، فيترك ليلمس الأشياء ويتفحصها ويجرب منفعتها ومضارها، ويترك ليلعب ويلهو كيفما يشاء؛ وهكذا في قضية التعبير عن الإنفعالات التي يريد اخراجها وابرازها على صورة بكاء أو فرح، أو تعجب أو امتعاض وغير ذلك؛ كما ينبغي تحريره من مصطلح العيب أما ردعه عن سلبيات ما يمكن أن يؤدي إلى ذلك فينبغي أن يكون بأسلوب آخر تحدده الأطر والآليات المتبعة في حقل التربية والتعليم.

نعم على ذوي الطفل أن يلعبوا دور المراقب بطريقة لا توحي للطفل أنه غير متحرر؛ وتكون هذه المراقبة الايجابية ومن بعيد على طريقة ما فعلته أخت موسى Q حيث يقول تعالى حكاية عنها: «فبصرت به عن جُنُب وهم لا يشعرون»[3]، نعم تكون هذه المراقبة بحدود عدم خروج الطفل عن الشعور بالاستقلالية والتحرر وإنما التدخل المباشر يكون في القضايا الاضطرارية والتي يشعر من خلالها الأهل أن الأطفال في خطر مادي ومعنوي.

ومن هنا فنحن نوافق روسو (الفيلسوف الفرنسي) على ما يقوله بصدد التربية حيث قال: «إن الإنسان يولد ويحيا ويموت وهو في العبودية، فعند ولادته نحيطه في قماط، وعند موته نرزه في نعش، وما دام محتفظاً بهيئة الإنسان نكبله بظواهرنا الاجتماعية»[4]، وهذا موافق تمام الوفاق مع الآية التي تتحدث عن أن الرسول P بعث ليحرر الناس من الظواهر والعادات التي تضيّق على الناس حياتهم الحرة الواسعة[5].

وكلام روسو منطقي ويصيب الواقع فيما لو كان الإنسان مكبلاً مادياً ومعنوياً بقيود مجحفة، وفيما لو كانت هذه الظواهر الاجتماعية ليست لصالح الإنسان حقيقة وواقعاً.

والمنهج الصحيح هو ببقاء الإنسان الطفل وحتى يصير كهلاً أو شيخاً على فطرته الطبيعية التي لم تُجبل إلا على الخير ولم تعكر صفاءها أي ظاهرة تحرفها عن مسارها الأصلي الطبيعي.

وهذا موافق لقول روسو حيث يقول: «كل شيءٍ يصنعه خالق البرايا حسن، وكل شيءٍ يفسد بين يدي الإنسان»[6]، وهذا الكلام مؤيد لقوله P: «كل مولود يولد على الفطرة...».

وهذا المبدأ أعني مبدأ عدم تكبيل الإنسان بالقيود المخالفة لطبيعته التي خلقه الله عليها لا سيما الطفل، وتركه وشأنه يتربى في الطبيعة بناءً على تجاربه واحتكاكه بالأشياء المحيطة به كما نادى روسو؛ هو موافق تمام الوفاق مع الحديث الذي ينصح بترك الولد إلى سبع.

ولكن اعتراضنا على روسو فيما لو كان مراده بترك الطفل دون أي رقابة تخرجه عن طور سيره الطبيعي القائم على أن الطبيعة هي مدرسته؛ هو تركه ضمن طبيعة غير تلك الطبيعة الحقة والهادية التي ولد عليها، وبتعبير آخر إن هناك طبيعة أخرى غير الطبيعة المادية والمحسوسة وهي الطبيعة الفطرية التي تدل الطفل بطريقة بديهية على الحقائق الوجودية فيلزم ها هنا أن تكون هذه الطبيعة صحيحة وغير سقيمة أي لم تعمل على تغييرها العقول البشرية وقدمتها للطفل على أساس أنها هي الطبيعة الفطرية الأصلية التي خلقها الله تعالى في حين أنها ليست كذلك.

والحق، فإن الطفل الذي تكون مدرسته الحياة والطبيعة الفطرية التي خلقها الله تعالى فإنه يستخرج منها بوصفه إنساناً ناجحاً ومتحرراً وعلى جميع الصعد؛ أما إذا كان التدخل في حركة الطفل من قبل الأهل أو الأديان الصحيحة من أجل ايقاف تعلم الطفل وتدرجه على يد مدرسة الطبيعة المصطنعة والزائفة والتي لم يخلقها الله تعالى بل صاغتها مجموعة عوامل بيئية وبشرية وما شاكل؛ فيكون هذا التدخل صحيحاً لماذا؟ بكل بساطة لإرجاع دفة التعليم إلى مدرسة الحياة الطبيعية الصحيحة وغير المصطنعة.

وفي الحقيقة فإن أخذ دور الرقابة هنا يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى المريض، ولكن على الأساليب المتبعة والمؤدية إلى العلاج أن تكون رقيقة وجذابة، وبمثابة التعليم والتأديب بالحلوى كما روي ذلك عن جماعة حيث إنهم كانوا يعلمون الأطفال تهجية الحروف وكتابتها من خلال صنعها بالحلوى، فكان الطفل يأكل الحلوى ويتعلم الحرف بكل سرور.

على أن روسو محق في استنكاره لتقييد الإنسان منذ ولادته وحتى موته بقيود وهمية، وخرافية وغير ذلك؛ أما الرقابة والتدخل لأجل التربية والتعليم فهذا ليس قيداً بل تحريراً، وإنما يكون تحريراً لأنه يحرر الفرد من قيود الطبيعة المصطنعة والزائفة حتى يعود إلى طبيعته الأصلية.

وعلى أي حال فإن تحرر الطفل وتركه على طبيعته وسجيته يترك في نفسه شعوراً بعدم الحاجة إلى الثورة على واقعه الحالي حينما يصبح شاباً طالما أنه ليس أسيراً لعقدة التقييد والعبودية من قبل، وهذا بخلاف ما لو كان مقيداً فإنه سوف يعيش في وليجته عقدة الإنعتاق وسوف ينتظر لحظة الانعتاق لتفجير قلقه واضطرابه الداخلي وربما يشظي من حوله فيضر بنفسه وبمجتمعه، وبعض الشباب إذا كانوا يعيشون عقدة طلب الحرية فإنهم يتمردون حتى على الظواهر الصحيحة وغايتهم فقط هي الانتقام على واقعهم السابق المليء بالقيود؛ وهذا ما نلاحظه حينما تكثر المحظورات على الطفل من قبيل «هذا عيب»، وسوف تعاقب، «ولا تمد يدك إلى هنا وإلا تنكسر»، «وإن الله سيخنقك» وغير ذلك، وهذه المحظورات المقولبة بقالب التهديد والوعيد سوف تنتج إنفجاراً في مرحلة الشباب.

وبناءً على ما تقدم، فإن التحرر الطفولي نموذج من نماذج تأثير مرحلة الطفولة والصبا على مرحلة الشباب، وهناك مؤثرات أخرى، ومن هنا يلزم الاهتمام بمرحلة الطفولة والصبا اهتماماً شديداً من خلال عناوين عديدة كالرضاع، البيئة النظيفة، تربية الحواس، الاهتمام بالجسد، التربية الخلقية، التربية الدينية السليمة، المؤثرات العاطفية وعوامل الجذب، والروادع وغير ذلك.

وأهم اهتمام بالطفل يكمن في عامل التلقين الصحيح والسليم شريطة أن يكون الملقن أميناً، فيعلم الطفل الصلاة، وارتياد المساجد والحسينيات، ومجالس اللعب الهادف، والتسلية النافعة مثلاً تشجع الطفلة على الحجاب والاحتشام مثلاً. قد يقال: لماذا لا يترك هؤلاء الأطفال والصبية حتى يشبوا ومن ثمّ يختارون؟ والجواب: إن التلقين الصحيح إذا لم يلقن به هؤلاء فسوف يلقنون حكماً وبداهة تلقيناً آخر؛ وإذا ما شبّ هؤلاء على هذا التلقين ـ الصحيح أو غيره ـ، فعندها وفي حال أرادوا التخلص منه أو البقاء عليه يصح القول بأنهم بإختيارهم فعلوا ذلك.

فهم وحينما شبوا يستطيعون ترك ما لقنوه سابقاً باختيارهم، أما قبل ذلك فهم لا اختيار لديهم، إذ أن من العبث القول بأن الطفل أو عندما يكبر يختار لماذا؟ لأنه سوف يتلقى التلقين شاء أم أبى، وأن يتلقى التلقين الصحيح خير من الفاسد.

إن التجربة والمشاهدة أثبتتا بأن الطفل المتعود على الصلاة، مثلاً، أو على عدم الكذب مثلاً فمن غير السهل عليه ترك ذلك حين الشباب، والفتاة التي ترتدي الحجاب في سن هو قبل سن التكليف فإنها ليس من السهل عليها خلعه حينما تصبح شابة، أما إذا عكسنا الصورة بأن قلنا بأن الطفل لم يكن متعوداً على الصلاة أو على الصدق فإنه من الصعب عليه ممارستها حينما يصبح شاباً لعدم التعود؛ وهكذا بالنسبة إلى الفتاة الشابة التي لم تكن محجبة حال طفولتها وصباها فإن اقتناعها بالحجاب بعد أن لم تتعود عليه لا يكون سهلاً البتة. وليعلم أن ما نقوله موافق لدرس أعطاه الإمام علي Q لأحد أولاده حيث عبر بتعبير أنه Q عاجله بالأدب قبل أن يقسو على شيء آخر.

وبناءً على ما تقدم فإن التلقين أمر مهم شريطة كونه صحيحاً وكون الملقن أميناً.

وما نريد إثباته هاهنا هو مدى تأثير الطفولة والصبا على الشباب. وأن الشباب وبمعزلٍ عن تأثير الطفولة والصبا عليه هل هو صفحة خالية كما يقال أم لا؟

 

الشباب صفحة مليئة قابلة للتغيير

والجواب: ليس الشباب صفحة خالية كما يقال بل هو صفحة مليئة بما حملته المراحل العمرية القبلية؛ ولكنها صفحة غير مغلقة أو مختومة حيث إنها قابلة للتبدل والتغيير وربما التبدل والتغير السريع؛ وهذا ما نفهمه من قول الرسول P حيث قال: «أوصيكم بالشباب خيراً فإنهم أرق أفئدة...»، حيث إن تفاعل الشباب مع أي قضية يتبنونها هو تفاعل مغالاتي إذا صح التعبير؛ اللهم إلا ما ندر.

ومن هنا نرى أن أغلب الحركات والجمعيات والأحزاب والتيارات الثقافية والسياسية والبيئية والعسكرية وغيرها؛ لا تستطيع الحراك والبقاء والاستمرار إلا بواسطة الشباب والشابات؛ فالشبان والشابات هم إما روادها وإما أدواتها.

ذلك بأن الشباب وحينما يتبنى قضية ما ـ صادقة أو كاذبة ـ فإنه يصدق معها حتى نهاية الطريق وبكل ما أوتي من قوة، ويضحي من أجلها بأغلى الأثمان حتى لو كلفته روحه.

ومغالاة الشباب في تأييد قضية يظن أنه شديد القناعة بها إنما تكون مغالاةً قاسية لأنها قد تصيب الشاب أو الشابة «بجلطة مميتة» باعتبار أن دم الشباب يتدفق بسرعة بخلاف دم الشيخوخة فلا يؤدي إلى جلطة مميتة؛ وكما دم الشباب أو الشيخوخة فإن فكر الشباب وفكر الشيخوخة يتسمان بالتسرع، والتأني في مقاربة القضايا، نعم هذه القاعدة غير مطردة كما لا يخفى. ومن منطق ما تقدم أعلاه نرى بالوجدان أن أكثر ضحايا الحروب والصراعات هم من الشباب.

وعلى هذا فصفحة قلوب الشباب غير خالية ولكنها سريعة التأثر وقابلة للتغير، ولكن هذا المعيار غير مطرد كما ذكرنا فبعض الشباب يمتلكون قدرة هدارة على عدم التأثر بالطوارئ فيما لو لم تمججها عقولهم الرزينة والسليمة.

بين الإنحراف والإستقامة

ومن باب رقة قلوب الشباب وسرعة تفاعلهم مع الطوارئ قبولاً أو رفضاً، ومن باب عدم انغلاق عقول وقلوب الشباب كما غيرهم؛ فإن الشباب يعيشون بين ظلمة وضياء، بين ظلمة الانحراف وضياء الاستقامة. ولدخول الشباب في دياجير ظلمة الانحراف أسباب عديدة، منها ما نسميه بـ«الموجه غير السليم» ونريد به كل ما من شأنه أن يوجه المرء توجيهاً تلقائياً وبطريقة «اللاوعي»؛ وهذا الموجه متعدد كالبيئة، والبيت، والمدرسة، والدين، والمجتمع، والعادات والتقاليد، والاستعمار، والغزو الثقافي، والاعلام السيئ وغير ذلك.

وإنما قلنا «غير السليم» لأن المذكورات التي ذكرناها قد تكون موجهاً سليماً فاحترزنا بلفظ غير السليم كي لا نضم إليه السليم.

كما أن لدخول الشباب في دياجير وظُلم الانحراف سبب آخر غير خضوعه اللاإرادي للموجه غير السليم؛ وهو المغريات المحسوسة غير المشروعة والمتراكمة والضاغطة والتي لا تترك لصاحبها الشاب فرصة الوقوف ولو قليلاً للتأمل والتفكر واختيار المناسب ورفض غير المناسب، فهذه المغريات الحسية التي لها قابلية المباشرة في الحال؛ هي مغيّبة لكل عامل غير محسوس عن مسرح حياة هذا الشاب أو تلك الشابة، وهي لتتابعها وتغطيتها لكل تفصيل من تفاصيل حياة هذا الشاب أو تلك الشابة تذهله عن النظر إلى الخيارات الأخرى المضادة لها أو المخففة من حدتها على الأقل.

وهذا ما نتلمسه بكل قوة إذا ما استعرضنا حياة الشباب فأينما ينظر الشاب وأنى اتجه يجدها ماثلة أمامه وهي تخاطبه وتخاطب غرائزه وميوله في المدرسة، والجامعة، والأحذية، والعطور، والألبسة وأغلفة الكتب، وشاشات التلفزة، والمرطبات، والساحات العامة، والمهرجانات، والراديو، والانترنت، والمطاعم، والسيارات، وأماكن الرياضة وغير ذلك.

وبالإضافة إلى تسبب «الموجه غير السليم» و«المغريات الحسية المتراكمة» بانحراف الشباب؛ فإن هناك سبباً ثالثاً هو «الفراغ» فالفراغ له تأثير مضاعف على انحراف الشباب، إذ أن العمل وامتلاء الوقت بشغل ما يحتم على الشاب الذهول عن منافيات ما يشغله، وإذا ما انتهى العمل فإنه لا فرصة كبيرة لهذا الشاب كي يصرف وقت راحته بأمور من شأنها الإيغال في الانحراف وهذا غير مطرد طبعاً.

وعلى الأقل فإن الشاب العامل إذا كان يصرف وقته المخصص لراحته في الأعمال المنحرفة فسوف يكون نصف منحرف.

وإني لا زلت أذكر أني كنت أرى شباناً يجلسون على قارعة الطريق ولم تكن تسلم منهم فتاة، ولا جار؛ فأتاني أكبرهم سناً وتحدث معي بصورة العاقل ـ إذ أنه عاقل مع العقلاء مجنون مع المجانين كما أخبرني ـ قائلاً: هؤلاء الشباب لا عمل لهم لذا هم كذلك، ولو كان لهم فرصة العمل لما رأيتهم كذلك؛ وبالفعل فحينما مررت مرة أخرى قال لي: أتذكر فلان ـ وكان أقساهم وأرذلهم ـ قلت نعم. قال: لقد وجد عملاً وها هو لا يخرج إلا من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت.

فالفراغ سبب من أسباب الانحراف في الأعم الأغلب، ولهذا قال تعالى: «فإذا فرغت فانصب» [7] يعني على المؤمن أن لا يترك أي فرصة لفساد الفراغ أن يتسلل إليه، فيلزم تعبئته بسرعة، وليس من العجب أن يقول P: «خلتان كثير من الناس فيهما مفتون، الصحة والفراغ»[8]، فالفراغ فتنة لصاحبه الذي يريد طرد الملل منه بأي ثمن حتى بالانحراف إلا ما رحم ربي ومن هنا قال الإمام علي Q: «من الفراغ تكون الصبوة»[9] وقال Q: «إن يكن الشغل مجهدة فاتصال الفراغ مفسدة»[10] وقال Q: «اعلم أن الدنيا دار بلية لم يفرغ صاحبها فيها قط ساعة، إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة»[11].

وصدق الشاعر حيث يقول:

إن الفراغ والشباب والجدة

مفسدة للمرء أي مفسدة أي اجتماع الشباب مع الفراغ فيه مفسدة.

وصدق الشاعر الآخر حيث قال:

لقد هاج الفراغ عليه شغلاً

 

 

وأسباب البلاء من الفراغ

 

 

    ومن عناصر وأسباب انحراف الشباب أيضاً العزوبية، ولذا أكدت بعض الروايات أن شرار خلق الله هم العزاب، والشباب ليسوا شراً بل العزوبية هي الشر؛ وذلك لأن ما يفقده العازب هو يريد تحصيله بأي صورة فيما لو لم يكن ورعاً تقياً وقلة هم الأتقياء، أما غير العازب فهو وإن كان يفعل كما العازب من ناحية إرادة التملي من الشهوات بأي صورة وربما أكثر من العزاب؛ إلا أن الالتزامات الزوجية قد لا تمنحه فرصة التملي كما العازب. واذكر أنه كان لدينا جار شاب وكان سيئاً للغاية؛ حتى أنه كان يطلق النار على من لا يعجبه بسبب وبلا سبب، وكان يؤذي الناس بطريقة عنيفة حتى ضاق به الجيران ذرعاً، ولكننا وبعد فترة رأيناه عاقلاً متزناً لا يكاد يظهر حتى يختفي وكان السر في تعقله واتزانه أن إمام مسجد تلك المنطقة نصح والده بتزويجه وهكذا كان طرد العزوبية ترياقاً مجرباً ضد الانحراف.

ومن أسباب انحراف الشباب مضافاً إلى سائر ما ذكر عدم توفر القناعة لدى الشباب، وبتعبير آخر عدم وجود خطاب مقنع من قبل صلحاء الزمان، وبالتالي عدم المكنة على حسم هوية الشباب الفكرية والثقافية، وكل هذا بسبب عدم الإقناع فيلزم تقديم أجوبة شافية وكافية للشباب، وعدم القيام بهذا الدور يعني ترك الشباب في دائرة القلق والاضطراب وهذا يجعلهم متوجهين تلقائياً إلى الانحراف؛ فالقلق والاضطراب الشبابي يقلق المجتمعات ويربك الساحات الاجتماعية ويؤدي بها إلى الهلاك، والحل لتلافي آثار القلق والاضطراب الشبابي هو بتقديم أجوبة كافية وشافية لهم.

 

خطابان سلبيان

وبتقديري فإن المشكلة على صعيدنا الإسلامي تكمن في أن البعض يعتمد خطاباً إسلامياً تقليدياً بدائياً يروم حبس الشباب في دائرة الانغلاق والتزمت، فسكن هؤلاء الشباب ونتيجة لانسداد الآفاق أمامهم ولعدم وجود البدائل؛ بعقولهم وقلوبهم في صحراء التاريخ القاحلة بالرغم من أنهم يعيشون بأبدانهم في القرن الواحد والعشرين.

وفي مقابل هذا الخطاب خطاب يدّعي التحرر والحداثة في بيئة لا تملك أدنى مقومات التحرر والحداثة؛ وقد جعل هذا الخطاب من الشاب شاباً يعيش هذه الأفكار في خياله دون أي تحقق على الأرض بل إذا أراد تحقيقها دمر كل ما حوله لأنه إنما بفعله هذا ينزع جلده ويلبس ثوباً غير ثوبه وهذا أشبه بذاك الطائر الذي أراد تقليد غيره فلم يستطع تقليد غيره ولم يستطع أيضاً العودة إلى ما كان عليه.

ولهذا نلاحظ أن الشباب الذين هم من أتباع الخطاب الأول هم ممن يؤثرون الموت على الحياة بدعوى تنفيذ الأوامر الإلهية ولكنهم في الواقع ضحية القلق والاضطراب والتدليس، فهم يفجرون أنفسهم وسط الأبرياء والأطفال لقتل أكبر عدد ممكن منهم لأجل اقناع أنفسهم بأنهم إنما وجدوا أنفسهم واهتدوا إلى الصراط السوي؛ ولكنهم في الواقع هم عين الضياع وعين الضلال.

كما نلاحظ بأن الشباب الذين هم من أتباع الخطاب الثاني هم ممن أسهموا في بناء صرح غيرهم على حساب تهديم بنيانهم الذاتي بسبب تفلتهم وتهتكهم وانهماكهم في ترسيم خرائط أبدانهم دون النظر إلى خرائط وجودهم وحقائق أنفسهم.

 

خطاب مبسّط ومقنع

إن الناجح والمصيب في معركة جذب الشباب نحو ضياء الاستقامة وحرفهم عن ظلمة الانحراف هو من يمتلك خطاباً يلحظ ساحة الشباب الواقعية دون هذه أو تلك، فيخاطب عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم، ويتفهم مشاكلهم، وما يقلقهم وما ينفعهم وما يضرهم؛ وهذا ما نجح به الإمام روح الله الموسوي الخميني{ حيث إنه خاطب الشباب خطاباً مفاهيمياً بسيطاً ومقنعاً أزال قلقهم واضطرابهم، وحسم هويتهم الفكرية والثقافية، فصار الشباب ومن جرّاء ذلك ينتمون إلى فكر نيّر يفتخرون به ويعتزون؛ فلم يذهب بهم الإمام الخميني إلى الصحراء كي يحترقوا بحرّ لهيبها؛ ولم يقفز بهم إلى تزييفات وأوهام الحداثة المزعومة لكي ينزعوا جلدهم الأصلي بل أبقاهم حيث هم وقال لهم: واجهوا مشاكلكم حيث أنتم وبطاقاتكم وقدراتكم الذاتية، وبيّن لهم مراكز قوتهم ومواطن ضعفهم؛ وعلمهم كيف يستفيدون من الواردات من خارج بيئتهم مع الحفاظ على نقاط القوة الموجودة في تراثهم.

لقد أخذ قدس سره من التراث الديني تلك الأجوبة الشافية والكافية لري عطش الشباب الفكري والثقافي؛ ثم أنه لم يخاصم العصرنة لأنه استخدم أدواتها المفيدة في تطبيق تعاليم الاسلام على أرض الواقع. إن الاقناع من أهم سبل جذب الشباب نحو ضياء الاستقامة وابعادهم عن ظلمة الانحراف.

 

 



[1] لأن الفتاة في الإسلام تبلغ في أقل من سن الـ51 ولكن واحترازاً من مناقشة صدق الشباب على ما دون سن الـ51 قلنا بأن القدر المتيقن هو في سن الـ51.

 

[2] باعتبار أن الكهولة بحسب المتعارف تبدأ من سن الأربعين، ولكن البعض استدل من القرآن الكريم على أنها تبدأ في سن الثلاثين من خلال ما ورد في القرآن على لسان عيسى Q.

 

[3] سورة القصص، الآية: 11.

 

[4] التربية عبر التاريخ، 183.

 

[5] سرة الأعراف، الآية: 157

 

[6] التربية الإسلامية والمشكلات المعاصرة، 821.

 

[7] سورة الانشراح: 7

 

[8] مجالس الدين والحياة، 852.

 

[9] م.ن.

 

[10] م.ن.

 

[11] م.ن.

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=86
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 01 / 23
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16