• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : خصائص الإمام الخمينی ومقومات الاستمرار .

خصائص الإمام الخمينی ومقومات الاستمرار

خصائص الإمام الخمينی ومقومات الاستمرار


طهران - وكالة الانباء القرآنية العالمية (IQNA)

 الحديث عن الشخصيات التی بلغت مدارج رفيعة من الكمال الإنسانی شاق للغاية، ولكن الإشعاع لمثل هذه الشخصيات يتسع لمديات بعيدة يمكن للخطباء والأدباء الجولان فی رحابها الرحب.
وبالرغم من أن تمجيد شخصية الإمام "عليه السلام" واجب على كل السالكين فی دروب الكمال، إلاّ أن الأهم من ذلك بكثير فی الحاضر والمستقبل هو بيان واجبات الأمّة الإسلامية وتحديد الأصول والمحاور فی خط الإمام الراحل وشرح خصائص ومقومات من يريد الاستمرار فی نهجه وخطه. ومن هنا يتوجب التفكيك (وكما سيأتی تفصيله لاحقاً) بين "البقاء على تقليده" وبين "إدامة نهجه".
إن اصطلاح "خط الإمام"، أو "إدامة نهج الإمام" أو "الاستمرار فی طريقه" وإلى آخر من المصطلحات الجذابة تستدعی التحليل العميق، وعندها سوف تظهر كثير من الحقائق الكبرى فی هذا الطريق، بحيث يتضاءل عدد من يسمح لنفسه الادعاء على خط الإمام.
كان للإمام الراحل مسؤولية هی المرجعية (مقام الإفتاء) حيث سيطرت عصارة فتاواه فی رسائل عملية بالفارسية والعربية، وتشتمل على كلّيات المسائل التی تطرّق إليها الفقهاء.
الفاصلة بين الإمام وبين الفقهاء الآخرين ليست كبيرة، كما أن درك المعانی الكلية ليس شاقاً، ولذا فإن البقاء على تقليده بعد رحيله "رضی الله عنه" لن يكون صعباً. وأصولاً فإن البقاء على تقليد المرجع المتوفى أمر سهل ذلك أن مرجع التقليد كان قد بين كلّيات الفتاوى، وهذه الفتاوى حیّة ومستمرة، أما إدامة خط الإمام الراحل هو إدامة لطريق "القائد" و"الولی". فالولی والقائد يتعامل مع القرار يومياً.. إنه يتخذ قراراته يومياً؛ فمرّة يرتشف رحيق النصر، ومرّة يتجرّع سمّ الموافقة على قبول "قرار"[1].
والآن لننظر من يستطيع القول: "أنا على خط الإمام"، وما هو معنى اتّباع خطه؟
"التابع للإمام" هو من تكون له رؤية كرؤية الإمام "رضی الله عنه"، بحيث يدرك اليوم الذی يتوجب عليه أن يتجرّع السم بالرغم من كل مرارته ولا يتردد فی ذلك لحظة واحدة. ولو أدرك أنّ الوقت حان لارتشاف حريق النصر فإنه يفعل ذلك شاكراً لنعمة الله متواضعاً له، لا تباهياً بذلك النصر مهما جلّ شأنه. "البقاء على الولاء" معناه الاحتفاظ بعلاقة روحية مع الولی. ومسألة إدراك الإنسان للوقت المناسب للصراخ أو التزام الصمت وارتشاف الرحيق وتجرّع السم أمر ليس ميسوراً. وما نراه اليوم من اختلاف فی السبل، فإن سرّه يكمن فی تشخيص الواجب فی الخطوط الجزئية، ومن هنا ينجم الاختلاف بين السالكين فی دروب الإمامة لأن تشخيص الواجب ليس ميسوراً. وما نراه فی بعض الأحيان من اختلاف فی الذوق، ذلك لأن تجرّع السم أمر صعب. من الممكن أن يكون ارتشاف الرحيق عذب، أما تجرّع مرارة السم فأمر صعب جداً. ناهيك عن الاختلاف فی التشخيص، فإن مسألة القبول بعد التشخيص فيها أيضاً.
وهنا يتضح أن البقاء على تقليد ميت مثل الإمام الراحل أمر ميسور، ولكن البقاء على "ولاية ولاء" الإمام أمر شاق. لأنه أمر جزئی تفصيلی وليس أمراً كلّياً، وأمر يومی ليس أمراً سنوياً. واستحقاقات ذلك تتطلب تجرّع المرارة، وارتشاف الشهد، وقبول قرار مؤلم وسماع خبر مزلزل كفتح "خرمشهر".
ومن هنا ينبغی ألاّ يسمح أحد لنفسه بالادعاء بأنه سائر على خط الإمام، إلاّ إذا شعر بأن ولاء ذلك الراحل يملك عليه وجوده. وهذا لا يكون إلاّ إذا روّض نفسه على تجرّع المرارات وتحمل المعاناة.. حتى إذا قيل له: هذا أو ان اجتراع السم القاتل، هذا زمان قبول القرار (598)، فإنه لا يتردد فی ذلك لحظة واحدة وإنما يقدم محتسباً صابراً. وحتى لو زفّت إليه بشرى كبرى فی دویّ فتح خرمشهر، فإنه يتلقى ذلك الخبر العظيم الذی يهزّ النفوس طرباً بالشكر لله سبحانه.. فی مثل هذه الظروف يمكن للإنسان أن يدّعی متابعة خط الإمام. وعلى هذا فإن إمكانية تحقق ذلك ضئيلة للغاية.
والآن لننظر من يكون الإمام الرجل، ومن هو؟
ربما تصنع المصادفات تاريخاً مثل انفجار بركانی يصب حممه على مناطق خضراء فيحيلها إلى أكوام من رماد، وتستحيل أكواخ القرى إلى خواء. وربما تهاجم سيول مدمّرة مناطق زراعية واسعة لتحيلها إلى وادی غير ذی زرع.. هذا تاريخ تصادفی. إذا أراد الإنسان أن يغير التاريخ، فيجب أن تتجلى فی أعماقه رؤية إلهية بحيث يكون تشخيص أيا منها "أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف"[2].
وقد جاء فی الأثر أن الصراط المستقيم أدق من الشعر وأحدّ من السيف، وإذا أراد الإنسان أن يصنع التاريخ فعليه أن يدرك أن "الزمان" فی يد "المتزمّن"، يعنی أن الإنسان هو الذی يغير الزمان والعصر. وهذا هو الأصل الذی يشير إليه الإمام علی "عليه السلام" فی قوله: "لا ضمان على الزمان"، فلا تلومنّ الزمان أبداً فالزمان لا يضمن سعادة أو شقاء الأمم والشعوب المسؤول عما يلحق بنا من أضرار وخسائر.
ثم يضيف الإمام علی "عليه السلام" قائلاً: "العالم بزمانه لا تهجم على اللوابس"[3]. فمن يدرك عصره وزمانه، ومن يتفهّم ما يجری حلوه من أحداث، فإنه لن يواجه مشكلة فی اتخاذ الموقف المناسب، ولن تعتريه الحيرة أبداً لأنه من يعرف سنن التاريخ يكون مؤهلاً لصناعة التاريخ.
ويقول الإمام علی "عليه السلام" فی رسالته إلى نجله الحسن سبط النبی "صلى الله عليه وآله": "قطيعة الجاهل تعدل صِلة العاقل... إذا تغیّر السلطان تغیّر الزمان".
الابتعاد عن الجهلة من الناس تعدل فی الأجر الاتصال بالحكماء من الناس، وإذا ما أردت أن تفهم عصرك فافهم أولاً سياسة الحكم القائم، لأنه إذا تغير نظام الحكم تغیّر الزمان والعصر، وهذه هی المبادئ الأولى فی صناعة التاريخ.
إنه (الإمام الراحل) لم يدرك سياسة إيران بل الشرق الأدنى والأقصى والغرب وما وراء البحار والأرض كلها. لقد أدرك إن باستطاعة الإنسان تغيير التاريخ والزمان. أجل أدرك أن الإنسان ينطوی على هذه القابلية فی التغيير الواعی للتاريخ، وأن هذا لم يتم ب‍"الاجتهاد" فقط بل ب‍"الولاية"، لأنه سبر أن الأحداث التفعيلية اليومية تزامن "الولاء" لا الاجتهاد الكلّی.
والإمام الراحل استند فی قابلياته فی سبر عصره إلى قدرة الله لأن "الثقة بالله ثمن لكل غالٍ وسلّم إلى كل عال"[4]. وعندها يمكنه الثورة بمفرده. كان يعيش حالة الموحّد فی الخوف والرجاء وكان لديه رؤية الموحد فی ميثاقه مع الله فی استمداد النصر.. وأخيراً فی الاعتماد والتوكل عليه سبحانه، لأنه عندما كان وحيداً كان يهتف "الله"، وعندما أصبح فی قلب الملايين كان يهتف أيضاً "الله"، ويوم كان ولا ناصر له كان يقول الله، ويوم هبّت الأمّة بأسرها لنصرته لم يقل شيئاً سوى الله... ومن كان هذا ديدنه لابد وأن ينصره الله، ومن كان مع الله كان الله معه:
لم يقل مجازاً يا ربّ قالها فی الحقيقة والقلب.
فی الماضی قذفوا كتبه ومؤلفاته فی الشارع ومزّقوا كتاباته وهی حاصل عمره، ثم ظهرت بعد سنوات طويلة فی أيدی باعة الكتب فی قارعة الطريق. فی تلك الأيام لم يهب لنصرته أحد. ويوم كان إصدار البيانات يعود على المرء بالشعبية كانت البيانات كثيرة والتوقيعات كثيرة. ولكن يوم كان توقيع البيان الجهادی يعنی الموت ويعنی الإبعاد يوم ينحسر إلا المخلص ويتراجع غير المخلص.. لأن الإمام علی "عليه السلام" يقول: "لو ارتفع الهوى لأنف غير المخلصين من عمله"[5].
يوم يعود الجهاد على المرء بهتك الحرمات لا اكتساب الشهرة والمجد، ويوم يكون الجهاد بعيداً عن الهوى مقروناً بالأخطار، عندها ينزوی الجميع إلاّ المخلصين.. وفی مثل هذه الظروف ظهر الإمام الراحل "رضی الله عنه"، فهاجم النظام الغاشم ولم يكن حاله يومذاك جبلاً بل شجرة خضراء فی وادی غير ذی زرع.. ولذا ينسحب عليه ثناء الإمام علی "عليه السلام" فی مالك الأشتر "رضی الله عنه": "لو كان حجراً لكان صلداً"[6]، فطوبى له وحسن مآب.
فإذا أراد أحد أن يسلك درب الإمام ويتابع خط الإمام فعليه أن يدرك زمانه وعصره.. عليه أن يتصفح جيداً كتاب السياسة المحلّية والدولية صفحة صفحة، وإلاّ يصطحب فی رحلته هذه الهوى. ولو اعتنق أحد الإسلام الأصيل واندك فيه اندكاكاً لتجرّع كأس السمّ فی سبيل نصرته.. ولقبض على الجمر من أجل مصلحة الإسلام، لأنه لن يرى شيئاً غير الإسلام ولتساوى لديه النصر والهزيمة، ولا تأخذه فی الله لومة لائم، وعندما نبلغ هذا المستوى.. عندما نكون مستعدّين لتجرّع كؤوس السم، عندها يمكنها أن نكون من "السائرين على خط الإمام". يجب أن تتألّق روح الإمام العظيمة فی نفوسنا حتى يمكننا أن نخطو فی ذات الطريق الذی سلكه وعبّده لمن يتابعه.
والإمام الخمينی كان آية الله الكبرى، ولكن هذا لا يعنی أنه لن يأتی أحد يعدله أو يماثله، لأن ذلك ينحصر فقط فی شخصية رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" وقد قال الله سبحانه: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}[7].
الرسول "صلى الله عليه وآله وسلم" هو وحده الاستثناء تخصّصاً لأن وجود النبی "صلى الله عليه وآله وسلم" مستمر فی القرآن الكريم وعترته، وهما الثقلان اللذان أوصى أمته بالتمسك بهما إلى يوم القيامة. سيدنا محمد "صلى الله عليه وآله وسلم" لا يفقد ما الدهر دام ينجب المئات من أمثال الإمام الراحل وهو من أعاد للإسلام مجده فی الدنيا.
والسؤال هنا كيف تأتّى للإمام الراحل أن يطوی هذا الطريق؟
لقد كان طريق الإمام مليئاً بالأخطار منقوعاً بالدماء القانية.. إنّ طريقه هو الطريق الدامی المرير.. الطريق الذی يتطلّب الإخلاص الكامل فی كل خطوة من خطاه. طريق الإمام هو الطريق الذی عجز عن سلوكه مئات الفقهاء فی مستوى صاحب الجواهر والشيخ الأنصاری والبروجردی، ولكن يجب التأكيد على إمكانية طیّ هذا الطريق بالرغم من مشاقّة. يقول أمير البيان العربی: "وأعظم ما افترض الله سبحانه وتعالى من تلك الحقوق حق الوالی على الرعية وحق الرعية على واليها"[8]. وبعد أن بیّن الإمام "عليه السلام" الحقوق والمتقابلة، يقول: "فريضة فرضها الله سبحانه وتعالى لكلّ على كلّ"[9]، وعندما تتحقق هذه الحالة فی إرساء معادلة الحق والواجب تكون النتيجة: "فصلح بذلك الزمان وطمع فی بقاء الدولة ويأست مطامع الأعداء"[10].
فصناعة التاريخ.. إنتاج التاريخ يتوقف على إدراك وتفهم الواجبات المتقابلة بين الإمام والأمة. فالمسؤول الأعلى فی المجتمع عليه واجبات تجاه الأمّة وله أيضاً عليها حقوق، وعندما تستقر معادلة الحق والواجب عندها يطمئن على استمرار النظام وبقاء الدولة ويومها ييأس الطامعون. ولذا تقع عليكم مهمة صناعة التاريخ وتكونوا حينئذ من السائرين على خط الإمام، وهذه مسؤولية ليست يسيرة.
والقيام بهذه المسؤولية والنهوض بهذه المهمّة، لا يتم بالدراسة والبحث بل إن أغلبه يتحقق بـ"الإلهام" الإلهی.. وعندما نستنطق هذه الآية الكريمة من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}[11] تجدها تهتف بهذه الحقيقة.. إن تتقی الله يعنی إضاءة مصباح ينير لك الطريق.. الطريق الذی يوضح الحق عن الباطل.. وتمييز الحق عن الباطل ليس أمراً سهلاً. وعندما نشخص الحق عن الباطل، يمكننا اتخاذ الموقف الصائب وسوف لن يكون هناك مجال للهوى أن يملی علينا رغبته وإرادته وميوله. فالقلب الذی يملأه الهوى لا مكان فيه لتقوى الله، سوف يعيش حالة مدمّرة من الحرمان وانعدام الإرادة الحرّة المستقلّة. وعندما نعيد ترتيب معادلة الآية الكريمة الآنفة الذكر تصبح: "إن لم تتقوا الله لا يجعل لكم فرقاناً" وهو يعادل مضمونه قول الإمام علی "عليه السلام": "من لم يهذب نفسه لم ينتفع بالعقل"، فالدراسة وحدها والثقافة بمفردها لن تجدی شيئاً ما لم يصاحبها ترويض للنفس وتهذيب لها.
وعندما سأل الإمام الصادق "عليه السلام" أبا حنيفة عن مبانيه فی الإفتاء، أجاب الأخير: بالقرآن! وهنا نرى الإمام الصادق يستنكر عليه ذلك قائلاً: "تزعم أنّك تفتی بالقرآن ولست من ورثه!"[12].. وهذا يعنی أن الإفتاء بالقرآن يحتاج إلى علم وراثه فی الغالب لا "علم دراسة". فخط الإمام ليس علماً يدرس بمقدر ما هو ميراث يرثه الذين "لا يخافون فی الله لومة لائم"[13] وهم الذی طلّقوا الدنيا طلاقاً علوياً..
الزهاد الذين انزووا بعيداً ويتصوّرون أنهم طلقوا الدنيا، هؤلاء طلقتهم الدنيا.. هذا "طلاق خلعی" أو "طلاق مباراة"، طلاق ليس فيه من الرجولة شیء.. الطلاق الذی فيه شهامة هذا الطلاق العلوی، حيث ترتمی الدنيا أمام قدميه تتوسل إليه تغريه بكل كنوز الشرق الأوسط، فيقول لها: "طلقتك ثلاثاً لا رجعة لی بعدك"[14].
كثيرون ابتعدوا عن الدنيا ولكنهم لم ينتهجوا نهج علی لأنهم "من ترك الدنيا للدنيا"[15]لأنّ "أفضل الزهد إخفاء الزهد"[16]. وهذا هو جوهر القضية. ومن هنا يتضح المعيار فی متابعة خط الإمام.
الموضوع الهام الذی يتوجب طرقه ونحن إلى جوار هذه البقعة المباركة التی تضمّ جثمان سليل رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" الإمام الخمينی "رضی الله تعالى عنه" هو أن الإنسان يمكنه بلوغ مرتبة يكون مختلفاً للملائكة. والمؤمن الحق هو من يتربّى فی مدرسة الأنبياء "عليه السلام" والأولياء ليكون منزلة فی حياته ومرقده بعد وفاته مختلفاً للملائكة. ونحن إذا تأملنا فی الروايات والأحاديث سوف يتضح ما إذا كان مرقد الإمام الطاهر مهبطاً للملائكة أم لا؟
الإمام علی "عليه السلام" يعرّف أهل البيت قائلاً: "نحن شجرة النبوّة ومهبط الرسالة ومختلف الملائكة"[17]. هنا نزلت الرسالة وهنا تهبط الملائكة.. فالعترة الطاهرة من آل النبی هم أغصان شجرة النبوّة. ثم يقول الإمام علی "عليه السلام": "لا يقاس بهم أحد من الناس"[18]، ويقول: "نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد"[19]، ويقول أيضاً "لا يقاس بآل محمد من هذه الأمّة أحد"[20]. و"أحد" نكرة فی سياق النفی ولا تختص بالناس فقط حتى الملائكة من حملة العرش لا يمكن تفضيل أنفسهم على علی "عليه السلام"، وقد سمعتهم من الإمام الراحل "عليه السلام" أن أعظم الملائكة كان يهبط على الزهراء "عليها السلام".
ومن هنا فنّد الإمام الرضا "عليه السلام" ثامن أئمة أهل البيت "عليه السلام" شرعية السقيفة، لأن الإمام لا يتمّ انتخابه بشرياً وإنما إلهياً. لأن: "الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، وهو بحيث النجم من أيدی المتناولين ووصف الواصفين، فأين العقول من هذا، وأين الاختيار من هذا؟"[21]. ولا يمكن للسقيفة أبداً ولا للإجماع أبداً انتخاب إمام معصوم، فالانتخاب البشری بشكل عام عاجز عن ذلك، فـ"أين العقول عن هذا؟ وأين الاختيار من هذا؟".
ولذا قال الإمام علی "عليه السلام": "نحن شجرة النبوّة ومحطّ الرسالة ومختلف الملائكة". والاختلاف يعنی هبوط وصعود الملائكة حتى لا يخلو المكان بقول القرآن الكريم: {هو الذی جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا}[22]. ولذا فإن المراقد الطاهرة لأئمة الهدى هی كالحرمين الشريفين محلّ لتردد الملائكة واختلافهم هبوطاً وعروجاً.
والآن لنرى هل يمكن لتلامذة أولئك الطاهرين أن يكونوا محلاّ لاختلاف الملائكة؟
لقد خاطب الإمام علی "عليه السلام" جنوده فی صفين قائلاً: "إنی متكلّم بِعدَةِ الله وحجّته"[23] يعنی أنه يتحدث بالقرآن.. كلامه مستمد من القرآن، ودليله دليل القرآن وحجته. إنه ينطلق من هذه الآية الكريمة من قوله تعالى: {الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنّة التی كنتم توعدون}[24]. ولذا قال لجنوده: "وقد قلتم ربّنا الله فاستقيموا على كتابه ومنهاج أمره"[25].
وهذا الكلمات المضيئة تخاطب تلامذة علی "عليه السلام" تقول لهم أن الملائكة لا تهبط على المعصومين فقط، إنها تنزّل على المؤمنين المتقين الذی يسيرون على منهاج ربّهم. والنقطة المهمة فی هذا الخطاب إنه لم يكن فی المسجد أمام جموع المصلّين فی حال صلاة أو صيام ـ وإن كان مقاماً مناسباً ـ بل كان ذلك فی ميدان الصراع المسلّح وفی سوح الحرب والقتال. فالإنسان الذی يعلن إيمانه بالله ثم لا يهاب الشرق ولا الغرب وهو ينتهج طريقاً لا يميناً ولا شمالاً سوى طريق الله المستقيم ومنهاج الرب العظيم، فهذا إنسان تتنزّل عليه الملائكة وتبشره ورفاقه وأخوته: {ألاّ تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنّة التی كنتم توعدون}[26]. ولقد قال الإمام الراحل: ربی الله، ثم استقام ويحق لنا أن نخاطبه اليوم ونحیّيه قائلين: السلام عليكم أيها العبد الصالح.. السلام عليكم يا مختلف الملائكة. إن هؤلاء الذی يحجّون إلى مرقده مشياً على الأقدام ويقطعون المسافات الشاسعة إنما يفعلون ذلك لأنه قال ربی الله ثم استقام على منهج الله.. فمن أجل هذا تزوره الملايين من المؤمنين وتتنزّل عليه الملائكة، فطوبى له وسحن مآب. الملائكة الذين هم مظاهر الله سبحانه قولهم فعلهم: "إنما قوله فعله"[27] إنهم يتحفون المؤمنون بالنشاط وهذا فی ذاته تبريك.. إنهم يحملون إليه الروح والريحان وهو فی ذاته تهنئة.
والسرّ فی قوله تعالى فی سورة الرعد: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}[28] هو أن ذكر الله فی ذاته فعله، لأن فعل الله "أنزل السكينة" وعندما يكون نصيب القلب السكينة يكون محصّناً ضد كل عوامل النفوذ المخرّبة. ولهذا ينعم قلب المؤمن بالله بالسكينة والطمأنينة والسلام. ومن أجل هذا كان جنود الإسلام فی الصدر الأول يلوذون بالنبی "صلى الله عليه وآله وسلم": "كنا إذا حمی الوطيس لذنا برسول الله"، "كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم"، لأن رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم" فی مأمن إلهی: {فأنزل الله سكينة عليه}[29]. وفی مثل هذه الحالة يعيش الإنسان فی مأمن من خطر الرعب.. يثور بكل طمأنينة ويقضی على النظام الشاهنشاهی المشؤوم، ويعيش عشرة أعوام قائداً عامّاً للدولة تغمره السكينة.. ثم يرحل إلى الملكوت الأعلى بضمير مشرق وقلب يغمره الأمل ويودّع أخوته فی الإنسانية وأخوته إلى ديار الحبيب[30].
والنقطة الجديرة بالذكر فی ختام هذا الفصل، هی أن إحياء اسم الإمام الراحل يكون فی ظلال الالتفات حول سماحة القائد (الخامنئی)، الحكومة، القضاء، ومجلس الشورى وكلّ المؤسسات التی ترتبط بـ"ولاية الفقيه". وهذا من جهة، وتعزيز عرى التضامن والوحدة واجتناب الفرقة والنزاع من جهة أخرى.
حذار أن نردد فقط: اسم الإمام.. حرم الإمام.. لأن هذا المرقد الطاهر الذی يحفّ به الزوّار من كل حدب وصوب وفی غياب الأمّة عن الساحة سيكون عرضة أن يداس ببساطير الشرق والغرب (معاذ الله)، كما نرى ذلك اليوم ومع شديد الأسف، كيف تداس تربة الحسين والبوّابة التی هی محل للقبل العاشقة على امتداد عشرة قرون تحت بساطير الجلادين العفالقة؛ وكيف أصبح الضريح الطاهر لبطل الإسلام الخالد علی بن أبی طالب أسيراً فی قبضة صدّام الكافر العفلقی... وعلیّ هو القائل: "ينحدر عنی السيل ولا يرقى إلیّ الطير"[31].
ومن هنا لا يكفی وجود الإمام أو المعصوم لوحده أبداً بل "حضور الشعب"، وهذا يتأتى من خلال النموّ الثقافی والفكری، والنموّ الثقافی لا يتأتى إلاّ من خلال اخلاص ووفاء مسؤولی الدولة. والذی يهب الإخلاص لمسؤولی الدولة هی العلاقة الوثيقة بين الإمام والأمّة وبين القائد والشعب واجتناب الهوى، وإلاّ فإن ما نراه اليوم هو أن سيدنا الحسين محاصر فی ضريحه، وصدّام هو المنتصر: {وتلك الأيام نداولها بين الناس}[32].
ما الذی يا ترى أخفى مرقد علی بن أبی طالب عشرات السنين[33]، ثم هو اليوم فی قبضة صدّام الكافر الذی انتهك حرمته بل هو فی الحقيقة تحت سلطة الغرب والكفر؟
فأی مرجع تقليد لم يفخر بأنه قبّل عتبة المرقد العلوی ويتباهى بشمها واستنشاق عبير الكرامة الإنسانية، ثم يودع ذلك المشهد المبارك فی إنسان عينه. ولكن هذا المكان المقدس هو الآن تدوسه بساطير البعثيين.
النموّ الثقافی اليوم والحضور السياسی، والإخلاص لشعب إيران المسلم والانسجام بين الحكومة والأمّة، هو الذی جعل الضريح الطاهر للإمام الراحل يتألق بالنور والحب والسلام.
وفقنا الله سبحانه وأبناء أمتنا للسير فی طريق الإمام وفی خط الإمام.
بقلم : آية الله جوادی آملی
-----------------------
[1] إشارة إلى خطاب الإمام الراحل عشية الموافقة على قبول قرار وقف إطلاق النار فی الحرب العراقية الإيرانية (598).
[2] بحار الأنوار: 8/65، الرواية 2.
[3] أصول الكافی، باب العقل والجهل: 1/26، الرواية 29.
[4] بحار الأنوار: 75/364، الرواية 5، وهذا الحديث من كلمات الإمام الجواد تاسع أئمة أهل البيت "عليه السلام".
[5] غرر الحكم ودرر الكلم، 2/ 603، ح9.
[6] البقرة: الآية (106).
[7] البقرة: الآية 106.
[8] نهج البلاغة: الخطبة 207.
[9] المصدر السابق.
[10] المصدر نفسه.
[11] الأنفال: الآية 29.
[12] بحار الأنوار: 2/488، الرواية 4.
[13] "لا يخاف فی الله لومة لائم". المصدر السابق: 22/427، الرواية 389.
[14] بحار الأنوار: 40/328، الرواية 10.
[15] بحار الأنوار: 2/84، الرواية 10.
[16] المصدر السابق: 68/316، الرواية 23.
[17] المصدر السابق: 40/87، الرواية 114.
[18] المصدر نفسه: 24/274، الرواية 59.
[19] المصدر نفسه: 22/406، الرواية 406.
[20] المصدر نفسه: 23/117، الرواية 32.
[21] المصدر نفسه: 25/125، الرواية 4.
[22] الفرقان: الآية 62.
[23] بحار الأنوار: 71/190، الرواية 56.
[24] فصلت: الآية 30.
[25] بحار الأنوار: 71/190.
[26] فصلت: الآية 30.
[27] بحار الأنوار: 1/122، الرواية 11.
[28] الرعد: الآية 28.
[29] التوبة: الآية 40.
[30] "بقلب مفعم بالسلام وبروح مبتهجة وضمير يرجو فضل الله أستأذن أخواتی وإخوتی وأرحل إلى عالم الأبدية". من وصية الإمام الراحل.
[31] نهج البلاغة: الخطبة 3 (الشقشقية)
[32] آل عمران: الآية 140.
[33] ظل قبر الإمام علی "عليه السلام" سرّاً منذ سنة 40 هـ وحتى سقوط الحكم الأموی.


 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=134
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2008 / 06 / 19
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28