• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : من التاريخ .
                    • الموضوع : نظرة أولية في الديموغرافيا اللبنانية (2) .
                          • رقم العدد : العدد السادس عشر .

نظرة أولية في الديموغرافيا اللبنانية (2)

 

 


نظرة أولية في الديموغرافيا اللبنانية (2)


إعداد: الشيخ علي سليم سليم

لكل بلد أسطورة مؤسسة. حاول اللبنانيون في السابق أن يجعلوا من الحضارة الفينيقية  أسطورتهم.. ثم حاولوا أن يجعلوا من فخر الدين رمزاً للتعايش بين الجماعات والأديان ولرسم ما أسموه الحدود الطبيعية للبنان. ووصلوا عام 1943 إلى صيغة لبنان ذي الوجه العربي الذي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب.
جاؤوا مع الطائف إلى ثنائية الكيان النهائي لجميع أبنائه مع الهوية العربية. لا الكيان النهائي ترسخ في المشروع السياسي ولا العروبة. انتهينا مع الكيان النهائي إلى دعوات «الحياد» ومع العروبة إلى المقاومة وطليعة المشروع العربي المقاوم...
ركيزة المجتمع هي المواطنون المتساوون في الحقوق.. ولا حقوق متساوية بين المواطنين بل امتيازات وحرمانات. نحن في نظام «الملل» وفي نظام يجدد التقاليد الاقطاعية في تغليب العلاقات الشخصانية على معايير القدرة والكفاءة. نظام الاستزلام والزبائنية لا يصح نموذجاً للدولة، أي دولة، موحدة أو مركبة .
وإذا عدنا إلى الماضي للبحث عن الظروف والتقلبات والحروب والهجرات والتبدلات السكانية، عن أسبابها ومسبباتها، لا نجد غرابة في ما آلت وتؤول إليه أوضاعنا في راهن حاضرنا ومستقبلنا، لأن الذهنية هي ذاتها، والارتماء في أحضان الخارج والارتهان له هو نفسه، وإن اختلفت الظروف وتبدلت الآليات.

عن عمد مقصود بني لبنان كياناً هشاً:
هو بشعوبه وطوائفه وبمشروع دولته التي ما استطاعت يوماً أن تقوم بواجباتها ومهامها، بل ما زالت عاجزة عن تحرير «الأملاك البحرية» من مغتصبيها في الداخل، لا زالت الدولة في واقع الأمر تلك السلطة الحارسة لمصالح تتركز في العاصمة وبعض الجبل وفي أيدي قلة من أصحاب الثروة، على حساب كل المناطق و»الملحقات» المتروكة لمصيرها البائس من الفقر والحرمان.
إن الأزمة كانت وما زالت في مشروع الدولة، فإما أن تكون الدولة لكل اللبنانيين يرسخ فيها صدق انتماءهم وولائهم لها ليساهم جميعهم في تبعات هذا الولاء بالدفاع عن كامل أرضها، وإما فإن المعنيين بالأمر سيتولون مواجهة مصيرهم بأنفسهم. في تجربتنا منذ الاستقلال حصل الخيار الثاني وبتسليم من سائر اللبنانيين لأن الوطنية اللبنانية لم تتحقق اكتمالها في الدفاع عن كل لبنان والدولة لم تنجز مشروعها.
إن من يشهر «سيف الدولة» ويطالب بحق الدولة في وجه المقاومة لاظهار التناقض، عليه أن يحل مشكلات الدولة ويخرجنا من المديونية العامة التي تكبل الدولة فتعجز عن تلبية احتياجات المواطنين الأولية لأن الدولة ليست سلطة فقط تنفذ مشاريع سياسية لا ندري كم تخدم المصلحة الوطنية، بل هي أعم من ذلك.
من يجادل المقاومة في حقها ودورها وهو لم يقدم شيئاً فعلياً، إنما يمارس اعتداء على انجازات وطنية وتضحيات حققها اللبنانيون بمعزل عن دولتهم العاجزة والمشوهة والتي ما زالت توزع على اللبنانيين الامتيازات والحرمانات...
هذا حال الوطن اليوم الذي تشكل بجغرافيته التي كانت مسرحاً للصراعات الاقليمية والدولية كما اليوم والذي كان شاهداً على الصراعات المتنوعة السياسية والمذهبية، والتي أفرزت تحولات ديموغرافية خطيرة لا تزال معتمدة حتى اليوم، كان آخر مظاهرها أهداف حرب تموز 2006، فلولا فشل هذا العدوان لكانت هناك تغيرات دراماتيكية على هذا الصعيد... أعني استهداف الشيعة مجدداً كما بالأمس البعيد عرضة للتهميش والاستبعاد إلى حد الالغاء كياناً ووجوداً ودوراً...
إن تاريخ لبنان هو تاريخ وطن وشعب عاش ولا يزال في بقعة معلومة من الأرض وينتمي إلى طوائف متنوعة ومتداخلة تشكل في مجموعها موضوع هذا التاريخ ومادته. فليس من الجائز أن يبقى محصوراً بالجبل دون غيره من المناطق وينحصر في تاريخ الأسرتين المعنية والشهابية وتاريخ الموارنة والدروز دون سائر اللبنانيين.
وقد تعرض الشيعة في تاريخهم إلى كثير من التجني الذي تجاوز أصول الأدبيات العامة التي تقوم على احترام كرامة الآخرين.. لذلك لا يمكن تناول تاريخ الشيعة في لبنان إلا بوصفه وجهاً آخر لتاريخ لبنان الوطني العام وليس جزءاً من هذا التاريخ أو فصلاً هاماً وأساسياً منه تتحرك فيه مختلف الجماعات والمناطق بدون أن تحجب إحداها الأخرى أو تتوارى خلفها.
إن معظم ما كتب عن تاريخ لبنان حتى اليوم لا يعدو في الواقع كونه تاريخ طائفة من طوائفه حتى في الأحوال النادرة عندما لا يحمل هذا التاريخ اسم الموارنة أو الدروز، وهذا أمر نادر على كل حال.
إن التجربة الشيعية في العصر العثماني حذفت من الرواية اللبنانية الوطنية وأقصى المسيحيون المعاصرون المختصون بكتابة عرض الأحداث وسيرة القديسين اللبنانيين الآخرين عن باقي مكونات لبنان التاريخي .
كشف حمادة الأوهام التاريخية التي وضعها وعمل عليها المؤرخون الذين كتبوا التاريخ التقليدي والمدرسي فأطلقوا وعمموا تسمية الامارة اللبنانية على الامارتين المعنية والشهابية في جبل الدروز. فلقد أعطى المؤرخون السابقون وهماً لقب إمارة الشوف أو جبل الدروز لكل لبنان والواقع هو ان لبنان عرف أربع امارات مستقلة هي: إمارة بعلبك، إمارة جبل عامل إمارة جبل لبنان وإمارة الشوف. وقد حكم أمراء ومشايخ عدة هذه المناطق بالتساوي وباستقلالية كاملة بعضهم عن بعض.
... جبل لبنان بقائمائميته ومتصرفيته هو لبنان الذي كتبوا عنه تاريخاً نتعلمه، وبقي هذا هو لبنان الذي ليس لملحقاته حتى حق المساواة في المواطنية مع بقية أخوة الوطن الذي ضم إليه فيما بعد الملحقات ومنها بعلبك وجبل عامل.
عندما حسم الصراع في النهاية لصالح المماليك على الجبهتين الصليبية والمغولية، كان من المنتظر أن يتعرض الشيعة إلى التعسف والتنكيل، وحتى إلى حملات الانتقام والتشريد التي قامت بها بقسوة بالغة جيوش المماليك في لبنان مستندة إلى قاعدة صلبة من رأي عام سني مؤيد وتحريض رجال الدين وفتاويهم التي دعت غالباً، إلى اعتبار الشيعة مرتدين عن الإسلام، والمرتد يكون شرعاً مهدور الدم والمال.
على الرغم من أن المماليك أظهروا تساهلاً مع غيرهم في أمور أكثر خطورة، حتى أنهم عفوا عن بعض المتآمرين لمصلحة الصليبيين، منهم عدة من أمراء الغرب التنوخيين.
ربما يكون السبب من هذا الموقف القاسي تجاه الشيعة يعود إلى أن التشيع قد استقطب أعداداً مهمة من المغول، شملت حتى بعض ملوكهم وقوادهم بتأثير من بعض الدعاة الشيعة الذين استطاعوا الوصول إلى بعض الحكام من المغول عن طريق العمل في خدمتهم أو تحت ظلهم. مما حدا ببعض هؤلاء الحكام إلى ادخال عمليات القتل والتدمير التي كانوا يقومون بها في دائرة الأخذ بمناصرة الشيعة والاقتصاص لهم من الاضطهاد التاريخي الذي كانوا عرضة له.
إن هذا الموقف العدائي الموثق تجاه الشيعة لا يحتمل أية خلفية سياسية او تأديبية عارضة، أو مرحلية، إنما يثبت ويعلن سياسة مذهبية ترمي إلى قمع الشيعة، بسبب اعتقادهم واختلافهم المذهبي عن مذهب الحكومة، ويرمي إلى القضاء عليهم أو افنائهم أو تذويبهم في المذاهب الأخرى. وهذا ما يؤكده المنشور الرسمي الذي يقضي بمنع اعتقادهم ووجوب استئصالهم مضافاً إلى رسالة ابن تيمية المتمحضة في مذهبيتها الحاقدة والتي تبرر القسوة التي رافقت حملات كسروان.
لم يكن من الغريب أن تؤدي سياسة المماليك تجاه الشيعة، وعزمها الأكيد على استئصالهم وممارسة كل أنواع الضغوط والتنكيل بهم، إلى انحسار وجودهم المكثف في المدن الساحلية المهمة حيث يتواجد نواب المماليك وعساكرهم، والسكن بعيداً عن متناول يد السلطة في الجبال الشاهقة والوعرة التي يجدون فيها مكاناً أمناً، وحماية طبيعية، تحد من وصول اليد التي يخشونها ويحسبون لبطشها حساباً كبيراً .
إن هذه الهجرة القسرية أفسحت المجال أمام السلطات لاسكان أعداد متزايدة من التركمان والأتراك للاستفادة منهم في الرقابة العسكرية تجاه الفرنج وتحركات المقموعين الشيعة. لم تكن هذه السياسة جديدة على الشيعة، فقد ألفوها في عهد الدول السابقة، إلا أن المماليك أضافوا عليها الطابع الرسمي.
وقد أمر السلطان الظاهر بيبرس سنة 1267 باتباع المذاهب السنية الأربعة وتحريم ما عداها، ولم يكن للشيعي الحق في وظائف القضاء والإمامة والتدريس حتى ولا تقبل شهادته في المحاكم... ولم يكن حاله أحسن إبان الحكم العثماني، وأن الحالات التي حوكم فيها الشيعي على تشيعه دون أي جرم آخر لا يمكن أن تحصى لكثرتها...
كان المسيحي واليهودي أحسن حالاً من الشيعي، وإن كانت الدولة لا تعتبره مواطناً كاملاً إلا أنه بموجب نظرية أهل الذمة وأحكامها، يتمتع بحقوق محددة ومعلومة، فهو من طائفة معترف بها وحياته وماله مصونان... ويعود في أحواله الشخصية إلى طائفته دون تدخل من السلطة ولم يكن انتماؤه الديني في أي وقت جريمة تستحق المحاكمة والعقاب.
لقد تناقضت أعداد الشيعة من سكان المدن بشكل مضطرد خلال الحقبة المملوكية ولم يمنع ذلك الحاكمين من مطاردتهم في الجبال التي هربوا إليها، فكانت ما عرف في تاريخ لبنان بـ»فتوح كسروان».

هوية الكسروانيين:
قيل الكثير حول هويتهم المذهبية، بل والطائفية. ثمة من ذهب إلى أنهم كانوا من الموارنة، فيما يجعلهم آخرون دروزاً او من الظنيين أو النصيرية أو الاسماعيلية...
ولكن عند مراجعة رسالة ابن تيمية والتي تعتبر مستنداً تاريخياً أساسياً في اشارتها لهوية سكان هذه المنطقة. فهناك اشارات كثيرة توضح هويتهم منها:
قوله في وصفه أهل كسروان:... هم وأهل هذا المذهب الملعون، مثل أهل جزين وما حواليها، وجبل عامل ونواحيه.. بعد وصفه إياهم بأهل البدع المارقون وذوو الضلال المنافقون، الخارجون عن السنة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة...
إن هذه الأوصاف تدفع ما يحاول أن يثيره البعض عن هوية سكان كسروان المستهدفين وحقيقة مذهبهم، تدل بوضوح على انتماءهم المذهبي، وأنهم شيعة امامية اثني عشرية حصراً لعدم انطباقها على ما ذكر من مذاهب كالدرزية والنصيرية والاسماعيلية والاباظية.. مضافاً إلى ذكره: «... هذا هو المذهب الذي تلقنه لهم أئمتهم، مثل بني العود فإنهم شيوخ أهل هذا الجبل». ومن المعلوم أن بني العود كانوا طيلة قرون من مشايخ المذهب وقد حفلت بهم كتب السير بتراجم بعضهم وذكر آثارهم. وفي «أمل الآمل» لا يقل عن ترجمة خمسة من مشاهيرهم، يبدو أنهم انتشروا بعد النكبة في مختلف أنحاء سوريا وخصوصاً في جزين، في عصرها الذهبي.
قال صالح بن يحيى في تاريخ بيروت: «والسالم منهم تفرقوا في جزين وبلادها، والبقاع وبلاد بعلبك، وجعل الناظر في بلاد بعلبك وجبال الكسروانية بهاء الدين قراقوش فأخلا من كان تأخر بجبال كسروان، وقتل من أعيانهم جماعة، ثم أعطوا أماناً لمن استقر في غير كسروان».
ويبدو أن وجودهم كان كثيفاً إلى حد استدعى تأليف المصنفات الخاصة بالرد على فقهائهم واعتقاداتهم وما اشتهر عنهم من تشيع راسخ القدم.
ما يظهر أن الهدف كان اخلاء كسروان من أهلها وقتل من يرفض المغادرة إلى جزين أو إلى بعلبك، لأن المطلوب هو الاستيلاء على البلاد  أرضاً بدون سكان – بنفس الفكرة والأسلوب الذي استخدمه الصهاينة ضد الفلسطينيين - لإسكان التركمان فيها. وهذا ما يؤكده ابن تيمية: «فإن القوم لم يحضروا كلهم من الأماكن التي اختفوا فيها ويئسوا من المقام في الجبل إلا حين قطعت الأشجار وإلا كانوا يختفون حيث لا يمكن العلم بهم. وما أمكن أن يسكن الجبل غيرهم لأن التركمان، إنما قصدهم الرعي.
وقد صار لهم مرعى، وسائر الفلاحين لا يتركوا عمارة أرضهم ويجيئون إليه» .
تحت تأثير هذا النظام، وجد كل من يعيش في المناطق العثمانية نفسه مضطراً إلى الالتجاء باندفاع وحماس نحو طائفته لينضوي تحت لوائها، ويشعر بانتمائه النهائي والأقوى إليها مما أعطى لكل طائفة، شكلاً من الوحدة القومية التي تنفرد بتوجه اجتماعي وفكري وحضاري وسياسي، قد لا يتشابه مع الطوائف الباقية، فتتسع الهوة الفاصلة بينها وتتحول الطائفة إلى شعب له خصائصه وتطلعاته يتميز عن باقي شعوب الامبراطورية ومللها وينفرد بشعور وتوجه متميزين.
قدمت الدولة العثمانية نفسها إلى رعاياها والعالم الخارجي كدولة مذهبية تعتبر رسالتها الأولى نشر الدين... وحامية المذهب السني. فوجد اللبنانيون أنفسهم دائماً غرباء عنها وشعر الموارنة والشيعة والدروز أنهم جسم مختلف... فكان الاحساس بالتنافر متبادلاً، وينتظر الفرصة المناسبة للاعراب عن حدته، مما زاد من تعلق الفرد بأبناء مذهبه وتمسكه به، باعتباره وحدة جامعة نؤمن له الحماية والأمان.
وهكذا نشأت بين الطوائف اللبنانية وبعض الدول الأجنبية علاقات ثابتة ودائمة عن طريق المراسلات أو المندوبين أو القناصل.. حتى أصبح من التقاليد السياسية المعروفة والمعمول بها في العلاقات الدولية.
وقد تعذر على الشيعة ايجاد دولة أجنبية تؤمن لهم الحماية المأمولة، لأن الدولة الشيعية الوحيدة هي الدولة الصفوية.. يصعب التواصل معها لبعد المسافة. ولعدم وجود أية علاقات دبلوماسية مع الدولة العثمانية إنما كان بينهما تاريخ طويل من الحروب والعداء، ورغم ذلك استمر التواصل بين الشيعة والصفويين ...
يقول البارون دي فو: لما كان المتاولة لا يتلقون أي حماية دولية فقد ضعف مركزهم مما أدى إلى انهيارهم.
وكان السنة في السلطنة العثمانية عصب الدولة ومادة الحكم وطائفة السلطة وموضع عنايتها ورعايتها، وهم أكبر الملل وأهمها، منها الولاة والموظفون ورؤساء الجند ورجال القضاء والافتاء والتدريس..
وهكذا تمكنت معظم الطوائف في لبنان من الاعتماد على راع دولي تلجأ إليه وتستمد منه الحماية والعون.. غير أن الشيعة رغم افتقادهم للداعم الخارجي، كانوا يعرفون أن لهم عدواً واحداً على اختلاف العصور والظروف هو السلطة العثمانية. ولقد بدا في مرحلة مبكرة من الوجود العثماني أن الأمير الحرفوشي هو الحاكم اللبناني الوحيد الذي سقط مع دخول السلطان سليم سنة 1516، كما أنه من المرجح سقوط بني بشارة في المناسبة نفسها جنوباً، بينما أعلن الحماديو .
سقطت دولة المماليك وقامت على انقاضها دولة العثمانيين، فخضع لها الشيعة واستصدرت الفتاوى بتكفيرهم.. وتحولت كل الطوائف إلى ملل معترف بها رسمياً تتمتع كل منها بامتيازات معينة وحماية دولية فاعلة. واستمر الشيعة خارج هذه الأطر وظلوا في نظر السلطة مجموعة أفراد مصنفين في خانة المشبوهين دائماً، والأعداء أحياناً، خصوصاً عندما تكون الحرب بينها وبين فارس معلنة ومستعرة. حتى أن الحرب التي شنها السلطان سليم العثماني على المماليك كانت في جوهرها حرباً ضد الشيعة حيث يؤكد: «أنا ما جئت عليكم إلا بفتوى علماء الاعصار والامصار وأنا كنت متوجهاً إلى جهاد الرافضة والفجار فلما اتفق الغوري مع الرافضة تركت الرافضة ومشيت إليه».
لم تكن سياسة السلاطين من المماليك وما تميزت به من فتك وبطش ووحشية خاصة بالشيعة وإن كان أيسرها القتل، فتعدت إلى غيرهم، بيد أنها لم تتجاوز حدود الاذلال. ففي سنة 1363م نودي في البلد على أهل الذمة بإلزامهم بالصفار وتصغير العمائم. وأن لا يستخدموا في شيء من الأعمال، وأن لا يركبوا الخيل ولا البغال وأن يكون في رقابهم ورقاب نسائهم في الحمامات أجراس، وأن يكون أحد النعلين أسود مخالفاً للون الآخر .
تبنت السياسة الرسمية في اسطنبول الخط المتشدد للنخبة الدينية والقضائية المؤثرة في وجه الهرطقة، مشرعين بذلك قتل «الروافض»، كعقوبة شرعية وحيدة وواجبة التطبيق على كل من يثبت تشيعه فكان ذلك المبرر القانوني والايديولوجي للمذابح الكثيرة التي قام بها الجيش السلطاني في الأناضول أولاً وفي سائر البقاع التي اجتاحتها جحافله... وواصلوا قمعهم واضطهادهم بشكل منهجي وعلني. وقد بقي الحكام من الشيعة.. هدفاً لحملات تأديبية متلاحقة على اعتبارهم لصوصاً وقطاع طرق ومغتصبين.
فكانت الفتاوى الصادرة من أعلى السلطات الدينية الرسمية برعاية السلطان سليم.. الخاضعة لسلطة مفتي اسطنبول بوصفه «شيخ الإسلام» تكرر وتؤكد وجوب قتل الشيعة واستحلال ذراريهم وأن لا تقبل لهم توبة. وأن هؤلاء كفرة لا دين لهم ويتوجب على جميع المسلمين قتلهم... جمعوا بين أصناف الكفر والفساد والبغي والالحاد.. ومن توقف في كفرهم فهو كافر مثلهم، مالهم حرام، ونكاحهم باطل.. وسبب جواز قتلهم: الكفر... وانكارهم خلافة الشيخين.. فيجب قتل هؤلاء الأشرار تابوا أم لم يتوبوا.. وتوزع أملاكهم ونسائهم وأولادهم على المجاهدين وقد احتفظ القضاء له بطريقة خاصة للاعدام، وإذا كان تنفيذ العقوبة يكون عادة بالشنق أو بالسيف فالاعدام على التشيع لا يكون إلا بالحرق أو الخازوق!!
والغريب في الأمر ان الفتاوى التي تسوق مبررات القتل تستخدم نفس الطريقة – ادعاءً وافتراء - التي تزعمه على من تهدر دمه.. ففي فتوى القاضي حمزة أفندي:... أنهم يعبدون أنفسهم ويسجدون لقادتهم الملعونين ويشتمون أبا بكر وعمر وينكرون خلافتهما .
أن الأساس الايديولوجي للدولة العثمانية يرتكز على مبدأين ثابتين هما حماية المذهب الحنفي باعتباره ممثل العقيدة الصحيحة، والخلافة السنية الكونية التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام وتقويم اعوجاجه عن طريق الحرب المقدسة – الغزو – التي تعتبر كل من يساهم فيها مجاهداً في سبيل الله. وكل من تستهدفه زنديقاً وكافراً لا بد من عقابه في الدنيا قبل أن يقوم الله بهذا الواجب في الآخرة.
وأود دعوة الشيخ يوسف القرضاوي الخائف من الغزو الشيعي للبلاد السنية الخالصة حسب تعبيره، إلى قراءة التاريخ بتأن وموضوعية بعيدة عن التعصب المذهبي، ليعرف كيف نشر العثمانيون الإسلام السني وبأية طريقة؟! كذلك فعل المماليك من قبلهم، حيث كانت العقوبة الشرعية للتشيع عندهم، هي القتل والتمثيل والتفنن في استنباط وسائل التعذيب والهلاك وباصدار الفرمانات التي منعت بموجبها السلطات العثمانية جميع الشيعة من العودة إلى أرزاقهم وبيوتهم المهجورة. فقد قضى القاضي شمس الدين الدمشقي بحرق اثنين حتى صارا رماداً ثم ألقيا في نهر بردى لأنه ثبت عليهما أنهما رافضيان هذه العقوبة الوحشية حتمت عليه إذا لم يشأ أن يترك مذهبه أن يسكن في مكان بعيد عن متناول السلطة. وهذا ما يفسر أن المدن الكبيرة خلت من السكان الشيعة ومن أكثر مدن الساحل اللبناني لتحل محلهم جاليات سنية تركمانية، وفي مرحلة لاحقة جاليات مسيحية .
كان مصير الامارة الشيعية في الجنوب أكثر مأساوية، فقد اختفى مع الاجتياح العثماني اسم بني بشارة... وتوارى في زوايا النسيان... كما توارت منذ ذلك التاريخ، أسماء عائلات شيعية قوية طالما برزت على مسرح الأحداث المهمة في الفترة السابقة في بعض أنحاء البقاع الأوسط والغربي وحتى مشغرة وجزين وحولهما.
وكان يطلق على جرود جبيل والبترون اسم بلاد المتاولة كما أطلق الرحالة والقناصل على عموم هذه البلاد اسم بلاد الحماديين.
أما الشيعة في جبل لبنان، الذين نالوا من بطش المماليك وغاراتهم النصيب الأوفر فقد اعتمدوا مرة أخرى على حصونهم الطبيعية الشاهقة في جرود الجبال واستعدوا لجولة طويلة أخرى من المقاومة والعناء والتصدي..
كان الحكم المملوكي في لبنان مباشراً شديد الوطأة، وقادراً على التدخل العسكري السريع في أية لحظة يرى نفسه بحاجة إلى التدخل.. ادت هذه القبضة الشديدة إلى انحسار الشيعة نحو الداخلي الجبلي وانكماشها التدريجي حث كانت رقعة تواجدها  وانتشارها تزداد مع الوقت ضيقاً وتراجعاً. فلما حل الباشوات الأتراك مكان النواب المماليك.. تراخت هذه القبضة وتضاءل اهتمام السلطة رغم موقفها المعادي بنشاط رعاياها من الشيعة وغيرهم لانصرافها إلى الاهتمام بأولويات أخرى شغلت جل قدرتها واستأثرت بمعظم جهودها.
فاستعاد المتاولة تقدمهم إلى الأمام بعد جمود مؤقت، انعشه وقاده الحرافشة الأقوياء فسيطروا بقوة من بعلبك حتى صور .

الشيعة وفخر الدين:
إن فخر الدين المعني هو أكثر الشخصيات التاريخية اللبنانية إثارة للإهتمام والنقاش عند الباحثين الغربيين واللبنانيين على السواء. تميز هذا الأمير بشخصية فريدة وطموح جامح ورؤيا سياسية بعيدة ومغامرة وانتهازية مفرطة بالمخاطرة، جعلت منه اللاعب الأبرز لفترة طويلة، في معادلة معقدة ودقيقة أدخل فيها القوى السياسية المحلية والسلطة العثمانية والمطامع والمصالح الدولية الاقتصادية والتاريخية والسياسية. وحاول أن يسخّر ما أمكنه من هذه العوامل لإشباع طموحه، فتعامل مع كل منها بما يعتقده أنسب الطرق للوصول إلى ما يريد.
كان فخر الدين مبالغاً في نهمه إلى المال والسلطة، فسعى إليهما دون الاهتمام بالوسيلة، حتى استطاع أن يمد سلطته إلى مناطق عديدة خارج جبل الدروز، وجمع من الأموال ما أمكنه من إغراق الباشوات العثمانيين برشاويه وعطاياه، وزيادة ماية ألف ذهباً على بعلبك مقابل زيادة أميرها عشرة آلاف قرش على صفد، ففاز بالمقاطعتين وبمقاطعات كثيرة أخرى حتى وسع ملكه وكثر عدد رجاله ونمت ثروته.
إن مضاعفات الحرب الصفوية – العثمانية، والتوجس العثماني من موقف الشيعة الذي قد يكون موالياً للصفويين، أو قيام اتصالات وتعاون بين الجانبين، يهدد الجبهة الداخلية العثمانية، «وظفت كلها لصالح فخر الدين، وحملت الدولة على تقويته واعتماده لمراقبة الشيعة وإضعافهم ومنعهم من أي تصرف معاد» ، فأسندت إليه صيدا وصفد حيث يقع الوجود الشيعي الجنوبي. ثمّ سهلت له ضرب الحرافشة في البقاع، وتجاهلت كل أعماله التدميرية فيه. وأخيراً منحته ولاية طرابلس، حيث اصطدم بالوجود الشيعي الوحيد الذي لم يكن قد ضربه بعد.
إن أطماع فخر الدين المادية في أراضي الشيعة وثرواتهم، وأطماعه السياسية في حكم بلادهم، في صفد وبعلبك وكسروان، وحرصه الشديد على تنفيذ مشروعه الخيالي، وتوفير أسباب النجاح له، واستغلاله خصوصاً في المرحلة الأولى من حكمه لتداعيات الحرب العثمانية الصفوية، وانعكاساتها على أوضاع  الشيعة اللبنانيين، ونظرة السلطات العثمانية إليهم فانتدب نفسه ليكون عين السلطة وسيفها المسلط على رقابهم. كل هذه الأسباب دفعت العلاقات بين الطرفين إلى مرحلة التأزم ثم التوتر فالعداء مما قاد إلى صدام عسكري في النهاية لم يعد من الممكن تجنبه.
وخلافاً لما أوردته المراجع التاريخية، فقد قاد فخر الدين المعني الثاني حلفاً درزياً مارونياً في مواجهة الشيعة، للفصل بين جبل عامل وإمارة بعلبك لإضعافهم بغية تمرير مخطط إقامة ممالك أوروبية في لبنان وفلسطين وقبرص .
وعندما بدأت ملامح العداء المعني تظهر عنيفة ضد الشيعة حاول الأمير يونس معالجة الأمور باللين والسياسة دون جدوى، لأن تصميم صديقه القديم على المضي في عدائه حتى النهاية، لم يكن قابلاً لأي تعديل. فلم يعد أمامه إلا الدفاع عن الشيعة في البقاع وجبل عامل والتصدي لما يتعرضون له من ضيم.
«كان الأمير يونس يعطف عطفاً شديداً على أبناء طائفته في جبل عامل، ويفتح دوره وقصوره لإيوائهم وحمايتهم عندما تدور عليهم الدوائر، وتجبرهم القوة الغاشمة لهجر ديارهم. وطالما دفع عنهم الغوائل، وصرف في سبيلهم الأموال، وفاء ومروءة، كما جرى له مع الحاج ناصر الدين منكر، الذي اعتقله الأمير المعني لأموال متأخرة عليه فسعى يونس بلإطلاق سراحه وكفل ما يطلب منه من الأموال» .
إن هذه الهواجس المعنية التي تفجرت قمعاً وتنكيلاً بشيعة جبل عامل، ستقود بعد فترة وجيزة إلى حروب طويلة بين فخر الدين وشيعة البقاع، بقيادة الأمير يونس، وستدفع الأمير المعني إلى مهاجمة بعلبك وبلادها ومحاصرة حصونها وضرب مشروع يونس السياسي، لا سيما وأن كل الظواهر توحي بأن للمعني مشروعه الخاص. البالغ الطموح والتعقيد والمناقض بقوة لما يسعى له الحرفوشي، من قيام اتحاد شيعي يهدد مشروعه في الصميم، مما قاد حتماً إلى تصادم عسكري بينهما كانت له انعكاسات أساسية في علاقة فخر الدين بسائر شيعة لبنان.
لم يقتصر استهداف فخر الدين للشيعة على جبل عامل والبقاع، فتوجه لتنفيذ مخططاته نحو جبل لبنان، وكانت كسروان على رأس أهدافه، حين كان التواجد الشيعي لا يزال منتشراً وكثيفاً تحت حكم الحماديين، الذين دأبوا على تشجيع نزوح المسيحيين إليها بمنحهم أماكن يقيمون فيها وأراضٍ يستغلونها، وبالسماح لهم ببناء دور عبادة، واستقدام رجال دين وحمايتهم قبل كل ذلك من سطوة الوالي العثماني وأعوانه. وسبق أن ذكرنا أنهم تعهدوا حماية النصارى عبر المناشير الموثقة.
طوي مشروع فخر الدين بعد قتله في اسطنبول، وعادت الحياة السياسية إلى مسيرتها السابقة في لبنان. فحكم أولاد الأمير يونس بعلبك والبقاع، وعاد النازحون إلى ديارهم في بلاد بشاره، وبقيت قلعتا طرابلس وجبيل بيد أصحابهما، وترك فخر الدين بصمات وآثاراً استمر تأثيرها حياً إلى أجيال بعده.
إن ممارساته تجاه الشيعة في مختلف مناطقهم، خلفت عندهم إحساساً عميقاً بالخيبة والنفور والعداء، فهو الذي سلخ كسروان عن محيطها، وسبب إلحاق قسم كبير منها بجبل الدروز، وبالتالي أصبحت من معاملة والي الشام الذي عانى شيعتها من اضطهاده، وتنكيل حكام الجبل، مما سهل محاولات تهجيرهم لاحقاً، كما ألقى بذور الفتنة والصدام في جزين بمحاولة تغيير طابعها بالعنف والإكراه مما أورث احقاداً بين الطوائف عمرت طويلاً، وخرب بعلبك وقلعتها. وأحرق قب الياس والكرك وسرعين وعدداً من أهم بلدات البقاع وحصونها ومزاراتها، ولم يبق على بيت واحد في عدد كبير منها، كما فعل بقرى كثيرة في جبل عامل ونهب وأحرق القرى الشيعية «قرى أولاد حمادة» في جبل لبنان.
قبل العهد العثماني بمدة طويلة كان الوجود الشيعي منتشراً في لبنان كله ، ساحلاً وجبلاً، حكاماً ومحكومين، وكان الساحل اللبناني يغلب عليه الطابع الشيعي من طرابلس حتى صور، حيث قامت أحياناً دول مزدهرة تتمتع بالكثير من مظاهر الاستقلال والتطور.
إن الوجود الشيعي في لبنان هو نتيجة تشيع جماعات من سكانه كما حصل في أي مكان آخر من العالم الإسلامي كالحجاز والعراق والشام. بخلاف ما يتوهم البعض، فهم لم ينزحوا إلى هذه البلاد من أي مكان آخر  وأنما هم من سكانها الأصليين، تحولوا منذ زمن قديم إلى هذا المذهب، كما فعل غيرهم في بلاد أخرى، وأن كل ما يتردد عن استقدامهم أو هجرتهم من مكان آخر، هو قول ليس له ما يبرره رغم أن كثيراً منهم قدم إلى لبنان في فترات تاريخية كما قدم غيرهم من جميع المذاهب. والهجرات الفردية هي من طبيعة البشر تحصل في جميع البلاد ومن جميع الملل.
أدى انتشار المذهب الدرزي بين الشيعة في وادي التيم والشوف، إلى كثافة درزية وانحسار شيعي في هاتين المنطقتين، كما أن الهجرة المارونية من شمال سورية إلى الجبال القريبة من طرابلس، والتي كانت في ما مضى قليلة السكان، أوجدت واقعاً سكنياً جديداً يعيش فيه الشيعة والنصارى في قرى مشتركة أو متجاورة، بينما لا يزال جبل الضنية يحمل إلى هذا اليوم اسم الجماعة الشيعية التي استقرت هناك قبل الحروب الصليبية، وكانت الضنية وكسروان وأغلبية المناطق الساحلية ذات أكثرية ساحقة من الشيعة .
يحدثنا التاريخ عن هجرة أخرى إلى جبل عامل في سنة (85ق.م)، فقد قدم الانباط من جنوبي الأردن، حيث أسسوا هناك دولة الأنباط وحلوا في المكان الذي تقوم عليه اليوم مدينة النبطية، التي لا بد أنهم قد أعطوها اسمها، كما يدل على ذلك واقع الحال، وقد حكموا جنوب لبنان واشتهروا بأعمال الري والحرف والفلاحة، ونظراً لشهرتهم وانتشارهم فقد عمم العرب اسم الأنباط على مجموعة السكان القديمة فجعلوا كل وطني نبطياً. وبعد أن امتزج المهاجرون بالسكان الأصليين من بقايا الشعوب السامية كالفينيقيين والكنعانيين، جاء دور الهجرة الفارسية التي أعقبت حروبهم مع البيزنطيين واستوطنت أعدادٌ منهم جبل عامل قبيل الفتح الإسلامي بمدة قصيرة.
كانت كسروان على امتداد قرون عديدة، الخزان البشري الشيعي الذي يرفد سائر المناطق اللبنانية، ولأسباب مختلفة، بمجموعات لم تنقطع من السكان الذين هاجروا منها تحت ضغوط اقتصادية حيناً وسياسية أكثر الأحيان، أو رغبة في الانضمام إلى آخرين نزحوا في وقت سابق واستقروا في مكان آخر، أمّن، لهم من سبل العيش والأمن، ما كانوا ينشدون.
وكانت هذه الهجرات تتوالى نحو مختلف الجهات، إلى جبيل والبترون شمالاً، أو جبل عامل جنوباً، أو، وعلى الأخص إلى منحدرات الجبال المقابلة والسهول الواقعة في سفوحها شرقاً، حتى أصبح من المسلم به اليوم، أن نجد نسبة كبيرة من شيعة لبنان يرجعون بأصولهم وانتسابهم إلى كسروان.
لم يعد الوجود الشيعي الغائب في كسروان موضوع خلاف أو تساؤل كما كان سابقاً ولوقت طويل، بعد ظهور الدراسات الحديثة وخصوصاً تلك التي اعتمدت على السجلات العثمانية الرسمية – الدفترخانة. وهي التي تميزت بصحتها ودقتها. ويظهر من خلالها أن هذه المنطقة كانت عند الفتح العثماني وبقيت إلى عهد متأخر، منطقة ذات أكثرية شيعية يقتصر سكان قراها الخمس الكبرى على الشيعة، وهي القليعات وفيترون وحراجل وبقعاتا ومجدل بني حابس، بينما يشاركون أقليات من النصارى والسنة والدروز في قرى أخرى، باعتبار أن قسماً أساسياً من المتن كان يعد من ضمنها في هذا التاريخ .
بقي الطابع الشيعي هو الغالب على كسروان بعد الفتح العثماني. وكان يقيم فيها أقلية من بعض الأسر التركمانية، كذلك كان هناك جاليات متفرقة من الروم الملكيين واليعاقبة وبعض السنة. أما الموارنة فلم يكونوا قد اجتازوا نهر إبراهيم حتى ذلك الوقت. فلا يوجد بين أديرة كسروان العديدة دير واحد يسبق عهده القرن السابع عشر. وليس هناك ذكر لرجل واحد ماروني أصله من كسروان قبل القرن السادس عشر. وإذا جاء ذكر الموارنة في تأليف الصليبيين فلا نراهم يذكرونهم إلا في البلاد الواقعة بين طرابلس وجبيل أما جنوبي نهر إبراهيم فلا نرى لهم فيه أثراً.
وعنما وصل أول مهاجر ماروني إلى حراجل، كان فيها ثلاثماية وسبعون بيتاً كلها من الشيعة. وكذلك ميروبا وفاريا وبسكنتا وبقعاتا والأذواق.
الكنيسة الأولى التي شيدت في كسروان، يوم كان يأبى تعصب المتاولة الأقوياء أن يكون للمسيحيين مكان عام يصلون فيه كما يقول القنصل هنري غيز Guys كانت في منزل القنصل الخازني الذي جعل من منزله الجبلي مصيفاً له وكنيسة للمؤمنين في آن معاً. وإن كنا لا ندري، إذا كان الدافع إلى هذا القول هو نقل الواقع كما هو، أو محاولة ذكية لطلب المساعدات من القنصل الفرنسي. ولكنه يدل في الحالتين على عدم وجود كنيسة واحدة في كل كسروان حتى ذلك التاريخ، رغم أن تعصب المتاولة لم يقف يوماً حائلاً دون بناء كنائس وممارسة الشعائر الدينية، واستقدام رجال دين، بل كانوا يسمحون لهم بذلك ويساعدونهم على إتمامه.
يقول الأب لامنس: «إن كسروان ليست من المقاطعات التي أوى إليها الموارنة قبل القرن الخامس عشر، وإن تسأل من كان يسكن كسروان قبل هذا العهد، أجبنا أن معظم أهل هذه الناحية كانوا من المتاولة أو من النصيريين» علماً أن الكثير من الوقائع تؤكد أن الهجرة المارونية لم تبدأ قبل منتصف القرن السادس عشر، وليس هناك دليل تاريخي يؤكد أن النصيريين قد سكنوا يوماً هذه المنطقة، وإن كان بعض الباحثين، ولا سيما المستشرقين منهم، قد توهموا أن كلمة الرافضة لا تعني الشيعة الإمامية حصراً بل قد تعني طوائف أخرى منها النصيرية، وهذا خطأ شائع وقع فيه الكثيرون من غير أهل الدراية والعلم في شؤون المذاهب الشيعية المختلفة. ومن هنا كان توهم وجود النصيريين أو غيرهم من المذاهب العلوية في كسروان أو أنحاء أخرى من جبل لبنان، في بعض الحقب التاريخية.
إن وثيقة تاريخية صادرة عن حاكم حمادي في كسروان هو محمد حمادة سنة 1552م ، تنقل لنا بوضوح السياسة الشيعية تجاه هجرة الموارنة إلى كسروان، التي كانت سائدة في هذا التاريخ، والحالة السياسية العامة التي كانت تحكم تحركات الأطراف حينذاك، وتلقي بعض الأضواء على العلاقات بين الشيعة والسلطة العثمانية الممثلة بوالي طرابلس.
إن ترحيب الشيعة الكسروانيين، حكاماً وسكاناً، بالمهاجرين الموارنة، أدى إلى زيادة أعداد الوافدين باطراد، ابتداء من النصف الثاني من القرن السادس عشر. وقد كان لا يزال في حلب وغيرها من المناطق والمدن السورية أعداد مهمة من الموارنة حتى القرن الثامن عشر .
فتكاثر الموارنة في كسروان واستقروا إلى جانب الشيعة في قرى مشتركة أو قرى مجاورة . كما تعزز الوجود السني بأعداد جديدة، قصدت فيطرون وفقيع والقليعات وعرمون والجديدة وساحل علما وفتقا  وسواها. أما جونيه التي عرفت في فترة متأخرة وجوداً إسلامياً كثيفاً وناشطاً اقتضى أن يكون لمسجدها إماماً وخطيباً وأن يشتهر من أهلها علماء في الفقه والحديث قبل أن يتكاثر فيها اليعاقبة بعد ذلك.
وفي هذه الفترة قصد النصارى كسروان الجنوبية، وسكنوا قرب الشيعة في كفر عقاب وكفرتيه. وقد بدا في حينه، أن في المكان متسعاً للجميع قبل أن تأخذ التطورات اللاحقة اتجاهاً آخر يسعى إلى إحلال طائفة مكان الأخرى، باستعمال مختلف الأساليب لتحقيق هذا الهدف، فانفجر الخلاف حول كسروان حروباً متواصلة فيها، وضعتها على طاولة المساومات والتجاذبات.
عُرفت جبيل في الماضي أنها مركز علمي إسلامي يقصده الطلاب للدراسة، وحضور مجالس الحديث. وقد ذكر ياقوت خمسة أسماء شهيرة من العلماء المنسوبين إليها كما ذكر غيره أكثر من هذا العدد. ومنهم أئمة مساجد ورجال فقه  وشرع ودين .
ليس في التاريخ اللبناني المعتمد ولا في التاريخ العاملي المتناقل ما يلقي الضوء على كيفية انحسار الشيعة وخروجهم من جزين وإقليمها وما جاورها. وفي التعرض لذلك من التناقض والتباين في التواريخ والأحداث ما لا يثبت قناعة أو ينير سبيلاً. والمرجح أن النزوح الشيعي لم يكن وليد حدث معين أو معركة فاصلة في وقت من السهل تحديده كما حصل في كسروان إثر حملات المماليك وإنما هو أقرب إلى أن يكون نزوحاً قسرياً متمادياً على فترات متقطعة ومتتابعة لجماعة أثر أخرى، اضطرت تحت وطأة ظروف تاريخية واجتماعية واقتصادية ومذهبية إلى مغادرة ديارها إلى حيث يتيسر لها أماناً وحماية لم تعد تجدها في مهدها الأول. وقد تحدثت مصادر درزية ونقل عنها الكثيرون من العامليين المعاصرين عن معارك نشبت عام 1757م بين الدروز بقيادة يوسف الشهابي والمتاولة وعلى رأسهم المقدم علي محمد الخزرجي والشيخان جهجاه برو وعلي الجواد وبعد سلسلة من الغارات المتبادلة تبادل فيها الفريقان النصر والهزيمة حصلت معركة جل الشوك التي انهزم فيها المتاولة وأدت إلى انحسار وجودهم عن معظم أنحاء جزين بما فيها أقاليم جزين والتفاح والريحان فدخل الدروز على أثرها إلى المدينة.
إن هذه المرويات تدخل في إطار التقليد الشعبي المتواتر وتتنافى مع الكثير من الثوابت التاريخية الراسخة ليس أهمها أن الأمير يوسف لم يتولَّ كرسي دير القمر قبل ربع قرن من هذا التاريخ. وأنه، بعد آن وصل إلى كرسيه، لم ينتصر في أي من معاركه التي خاضها في جبل عامل وهي كثيرة.
بدا الشيعة في جزين يعانون من الإضطهاد والقمع، كسائر العامليين، في الفترة التي تمكن أثناءها فخر الدين أن يمد سطرته إلى مختلف أنحاء جبل عامل من خلال التزامه سنجق صفد. وأن خضوع جزين لسيطرته أدى، فيما بعد، إلى فصلها عن محيطها التاريخي وجعلها أحد الأقاليم التي يتألف منها جبل الدروز، فانتقلت ملكية مساحات واسعة من الأراضي إلى العائلات الدرزية المتنفذة، الذين استقدموا فلاحين من الطوائف المسيحية وأسكنوهم في مناطق جزين وإقليم التفاح، التي أخذوها من المتاولة، ليعملوا في الزراعة لاعتمار الأرض.
إذا كانت هذه هي حدود هذا الحكم أو مداه، فمتى يكون شيعياً أو سنياً أو ينسب إلى أية طائفة من طوائف لبنان وما هو المقياس الذي يميز حكماً شيعياً عن آخر درزي أو سني أو أي حكم آخر، هل أن طائفة الحاكم هي التي تحدد هذا الأمر، أو هي طائفة المحكومين، أو أن سياسة هذا الحكم ومراميه وأهدافه هي التي تحدد هويته. في الدولة العباسية كان يحدث أن يعقب خليفة سنياً وارث شيعي ثم تعود الخلافة إلى سني آخر إلا أن الدولة تبقى هي الدولة العباسية دون أن تكون دولة شيعية أو سنية، وفي داخل لبنان في جبل الدروز أو جبل الشوف كان الأمير درزياً أحياناً وسنياً غالب الأحيان ومارونياً في أواخر عهد الإمارة فهل كانت صفة الإمارة تتغير في كل مرة؟
في دولة، كالدولة العثمانية تحولت الطوائف فيها إلى ملل، وشكلت دويلة في قلب الدولة. وفي بلد مثل لبنان تحولت الملل فيه إلى شعوب فأصبح يقال الشعب الدرزي والشعب الماروني، والشعب الشيعي. نرى أن الحكم يمكن أن ينسب إلى إحدى طوائفه فقط في حال نشأت بين الحاكم وجماعات مؤثرة وملتزمة من محكوميه علاقة تفاعلية خاصة تعطي هذه الطائفة الشعب كياناً ذاتياً موحداً ومتميزاً عن غيره من الطوائف والشعوب الأخرى، وتتعامل مع الآخرين من المجموعات أو الولاة الحكام ويتعاملون معها على هذا الأساس باعتبارها كيانات سياسية واجتماعية تختلف عن غيرها في خصائص تنفرد بها وتميزها عما جاورها أو بعد عنها من أقاليم ومقاطعات أخرى، ولو كانت جميعها ملحقة بباشوية واحدة ويحكمها من الناحية النظرية الباشا العثماني نفسه، وكانت خاضعة إدارياً لولايته سواء أكانت طرابلس أو دمشق أو غيرها من مراكز الحكم التي تتقاسم الأراضي اللبنانية المختلفة.

تاريخ الحرافشة
رغم أهمية الدور الذي قام به الحرافشة في تاريخ لبنان، طوال المدة الزمنية التي حكموا فيها إحدى أهم مناطقه وأكثرها اتساعاً، لم يعرف لهم تاريخ مدوّن مستقل بذاته.
أهمل المؤرخون اللبنانيون عموماً أخبار الحرافشة باعتبارهم خارج الإطار اللبناني المتعارف عليه في أيامهم، والذي لم يكن يتجاوز جغرافياً جبل الشوف وجبل لبنان وساحلهما. من جهة ثانية كان تشيعهم يصنفهم خارج الملة التي ينتمي إليها هؤلاء المؤرخون، وجلهم من رجال الدين الذين لم يبذلوا جهداً كبيراً في إخفاء تجاهلهم وتحاملهم على أخبار الحرافشة، كما فعلوا مع الحماديين رغم انتمائهم إلى جبل لبنان نفسه.
إنّ البطريرك الدويهي الذي استطاع أن يترك بصماته العميقة على كلّ التاريخ اللبناني في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بحيث إنّ مؤلّفه الفريد استأثر برسم السياق العام لكلّ مؤرّخ أتى بعده وحتى عصرنا الحاضر، هو قبل أن يكون مؤرخاً رجل دين وصل إلى قمة الهرم الكنسيّ، فمن غير المستغرب أن يكون التاريخ عنده وسيلةً غايتها مصلحة هذا الدين وخدمته، كما يراها هو في عصرٍ له مقاييسه وأفكاره وقواعده الخاصّة ولو كان ذلك على حساب الموضوعية التاريخية.
إن البطريرك المؤرخ كان يكتب التاريخ كما تمناه لا كما حصل في الواقع: لذلك يقول أحد الباحثين: إنه يخشى أن يكون الدويهي قد وقع ضحية تصوره للتاريخ كما ينبغي أن يكون لا كما هو واقع وحاصل على الأرض  وأن هذه الخشية في محلها تماماً.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=220
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28