• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : أول بيت وضع للناس .

أول بيت وضع للناس

 

أول بيت وضع للناس

 


إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ  آل‏عمران _ 96
يقول سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً فلا عجب إذن أن تكون الكعبّة قبلة للمسلمين، فهي أول مركز للتوحيد، و أقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه اللّه سبحانه و يوحد، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله، إنه أول بيت وضع للناس و لأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض  محفوفة بالبركات، غنية بالخيرات، وضع ليكون مجتمع الناس، و ملتقاهم
إن المصادر الإسلامية و التاريخية تحدثنا بأن الكعبة تأسست على يدي «آدم» عليه السّلام ثمّ تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي «نوح» ثمّ جدد بناءها النبي العظيم «إبراهيم الخليل» عليه السّلام فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري
ولا شكّ أن إختيار أعرق بيت أسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين، أولى و أفضل من إختيار أية نقطة أخرى و أي مكان آخر
كما أن القرآن يشير- في هذه الآية- إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأخرى، و إلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن، معتبرا ذلك أول و أهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل و المزايا، و من هنا يتضح أيضا علّة ما للحجر الأسود من الحرمة، و يتبين جواب ما يحوم حوله من سؤال مفاده: ما قيمة قطعة من الحجر و لماذا يندفع و يتدافع لاستلامه ملايين الناس كلّ عام، و يتسابقون- في عناء بالغ- إليه حتّى أن استلامه يعد من المستحبات المؤكّدة في مناسك الحجّ و برامجه؟
إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزه خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي‏ حجر آخر غيره في هذا العالم، و هي أن هذا الحجر أسبق شي‏ء استخدم كمادة إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة اللّه، و تقديسه، و توحيده، فإننا نعلم بأن جميع المعابد حتّى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كلّ عملية انهدام و تجديد، عدا هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين، و استخدمت في بناء هذه البنية المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها و إلى الآن. ولا شكّ أن لهذه الاستمرارية، و تلك الأسبقية في طريق اللّه و في خدمة الناس قيمة و أهمية من شأنها أن تكسب الأشياء و الأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها
كلّ هذا مضافا إلى أن هذه الصخرة ليست إلّا تاريخ صامت لأجيال كثيرة من المؤمنين في الأعصر المختلفة، فهي تحيي ذكرى استلام الأنبياء العظام و عباد اللّه البررة لها، و عبادتهم، و تضرعهم إلى اللّه في جوارها عبر آلاف السنين و مئات من القرون و الأحقاب
على أن ثمّة أمرا آخر ينبغي الانتباه إليه و هو: أن الآية المبحوثة هنا تصرح بأن الكعبة هي أول بيت وضع للناس، ومن المعلوم أنه وضع لغرض العبادة فهو أول بيت وضع للعبادة إذن، و هو أمر لا يمنع من أن يكون قد شيدت في الأرض قبل الكعبة بيوت للسكن
و هذا التعبير رد واضح على كلّ أولئك الذين يدعون أن النبي إبراهيم عليه السّلام هو أول من أسس الكعبة المشرفة، و يعتبرون بناءها على يدي آدم عليه السّلام من قبيل الأساطير، في حين أن من المسلم وجود بيوت للعبادة في العالم قبل إبراهيم عليه السّلام كان يتعبد فيها من سبقه من الأنبياء مثل نوح عليه السّلام فكيف تكون الكعبة التي هي أول بيت وضع للعبادة في العالم قد أسست على يدي إبراهيم عليه السّلام؟
ما هو المراد من «بكّة»؟
 «بكة» مأخوذة أصلا من «البك» و هو الزحم، و بكه أي زحمه، و تباك الناس أي ازدحموا، و إنما يقال للكعبة أو الأرض التي عليها تلك البنية المعظمة بكة لازدحام الناس هناك، و لا يستبعد أن هذه التسمية أطلقت عليها بعد أن اتخذت صفة المعبد رسميا لا قبل ذلك
وفي رواية عن أبي عبد اللّه (الصادق) عليه السّلام قال: «موضع البيت بكة، و القرية مكة
و قد احتمل بعض المفسّرين أيضا أن تكون «بكة» هي «مكة» أبدل ميمها باء، نظير «لازب» و «لازم» اللتين تعنيان شيئا واحدا في لغة العرب
و قد ذكر في علة تسمية «الكعبة» و موضعها ببكة وجه آخر أيضا هو أنها سميت «بكة» لأنها تبك أعناق الجبابرة، و تحطم غرورهم و نخوتهم، لأن البك هو دق العنق، فعند الكعبة تتساقط و تزول كلّ الفوارق المصطنعة، و يعود المتكبرون و المغرورون كبقية الناس، عليهم أن يخضعوا للّه، و يتضرعوا إليه شأنهم شأن الآخرين، و بهذا يتحطم غرورهم.
توسيع المسجد الحرام
منذ العهد النبوي أخذ عدد المسلمين في الإزدياد، و على أثر ذلك كان يتزايد عدد الحجاج و الوافدين إلى البيت الحرام، و لهذا كان المسجد الحرام يتعرض للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة،
فقد جاء في تفسير العيّاشي أن أبا جعفر (المنصور) طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها  في المسجد، فأبوا فأرغبهم، فامتنعوا فضاق بذلك، فأتى أبا عبد اللّه (الصادق) عليه السّلام فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم، و أفنيتهم لنزيد في المسجد، و قد منعوني ذلك فقد غمني غما شديدا، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أ يغمك ذلك و حجتك عليهم فيه ظاهرة؟ فقال: و بما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب اللّه، فقال: في أي موضع؟ فقال
قول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ قد أخبرك اللّه أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، و إن كان البيت قبلهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر (المنصور) فاحتج عليهم بهذا فقالوا له أصنع ما أحببت.
وقد جاء في ذلك التفسير أيضا أن المهدي (العباسي) لما بنى في المسجد الحرام بقيت دار احتج إليها في تربيع المسجد، فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له: إنه لا ينبغي أن يدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا، فقال له علي بن يقطين: يا أمير المؤمنين لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر عليه السّلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك، فكتب إلى و إلي المدينة أن يسئل موسى بن جعفر عليه السّلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف المخرج من ذلك؟ فقال: ذلك لأبي الحسن عليه السّلام: فقال أبو الحسن عليه السّلام: و لا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بدّ منه، فقال له: اكتب «بسم اللّه الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، و إن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها» فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله (لفرحه الشديد)، ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه السّلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتابا في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئا فأرضاهم.
إن في هاتين الروايتين استدلالا لطيفا يتفق تماما مع المقاييس و الموازين القانونية المعمول بها أيضا، فإن الاستدلال يقول ان لمعبد تقصده الجماهير كالكعبة، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها، الحق و الأولوية في تلك الأرض بقدر حاجته و حيث إن الحاجة يوم أسس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة التي أقيم عليها أول مرّة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة، أما الآن و قد اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج، فإن للكعبة الحقّ في أن تستخدم أولويتها بالأرض
                      بتصرف  الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج‏2، ص: 600

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=312
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 11 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29