• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : الحرية المنشودة على ضوء القرآن والسنة (1) .

الحرية المنشودة على ضوء القرآن والسنة (1)

الحرية المنشودة على ضوء القرآن والسنة (1) 


الشيخ ياسر عودة .


إن مفهوم الحرية الذي يستبطن الإستقلالية في كل شيء يقابله مفهموم العبودية والرضوخ لكل أمر لا يملك الإنسان فيه حرية الأختيار فالإنسان الحر هو الذي يملك أمره في أحقية أختيار العقيدة أو الفكر أو الخط السياسي وما إليه مما يرتبط بشؤونة الحيايتة أو الأخروية وهذه الحرية نابعة من خلال رفضه للإستعباد وأشكاله مما ينطلق به الأقوياء ليفرضوا على الضعفاء ما يريدون من خلال الضغوط المادية او الأمنية أو غيرها ، ونحن هنا لا بد من أن نتعرض إلى معاني الحرية في أهم العناوين الجامعة لحياة الإنسان .
الحرية في جميع الأحوال: إن من أروع مفاهيم الحرية التي جسدت في تاريخ الإنسان ما قام به ابو عبد الله الحسين "ع: في رفضه لكل أشكال الإستعباد والإنحطاط الخلقي والديني والسياسي مما جعله ثائراً مع ضعفه بالمقاييس الدنيوية فكان شعاره المشهور..
ألا وأن الدعي أبن الدعي قد ركز بين أثنتين بين السلة والذلة وهيهات من الذلة ...
فأختار السيف والقتل وإعتبر قتله في حريته مقدمة على حياته في عبوديته وذلته لذلك عبر عن حريته تلك بقوله : إني لا أرى الموت إلا سعادة ـ لأن فيها حريته ـ والحياة مع الظالمين إلا برما ، ومهما تداعت مشاكل الحياة على الإنسان وتعسرت أموره يبقى له أن كان حراً حرية فكره وإرداته التي أن سلبت منه فلا قيمة لحياته ولذلك كل ما يمارس على الناس من إرهاب عسكري أو فكري أو عقائدي ديني أو غير ديني أو إرهاب أمني يكون الإنسان الحر في مقابلة حراً فلا ينكسر ولا يرضخ مهما عانى وقاسى وينسجم مع فكره وعقيدته وإختياره لأنه إن خالف حريته ورضخ أمام الضغوط يكون قد باع مواقفه ،وعاش العزلة والغربة وعدم الإنسجام مع نفسه لأنه يخالف حريته في إختيار موقفه وهذه من أقسى أنواع الغربة أي الغربة مع الذات لعدم الإنسجام بين الفكر وما يطبق .
إلا اللهم إن قلنا بأنه قد ماتت إرادته وضميره وحريته أضحت عبودية ورقاً يسرى في دمه وهؤلاء كثر ومن أروع مفاهيم الحرية التي تظهر حرية الإختيار وعدم الإنكسار ما ورد عن الصادق "ع" قوله : إن الحر حر على جميع أحواله إن نابته نائبة صبر لها ، وإن تداعت عليه المصائب لم تكسره وإن أسر وقهر وإستبدل باليسر عسراً كما كان يوسف الصديق الأمين لم يضرر حريته إن إستعبد وقهر وأسر إنتهى .
هذا الحديث الرائع والمفهوم الصادق المميز يعطينا أسلوباً ومنهجاً في الحياة للإنسان الحر الذي يتحمل الصعاب المادية أمام من يحاربه في لقمة عيشه ليستعبده وأمام من يحاربه في عقيدته ليكون مستعداً للموت في مقابل التنازل عنها ،وأمام حرية موقفه ليسجن ويظلم جراء ذلك ، فالحر هو الذي يتحمل كل المآسي وألوان الحرب وإن أجتمعت عليه الدنيا لأن الآخرين ربما يملكون أن يقتلوك أو يسجنوك و يمنعوك معيشتك أو أن يعذبوك لكنهم لا يمكلون أن يسيطروا على عقلك منبع الحرية في مواقفك وأظنني أجد هؤلاء قلة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الضغوط وكثر فيه المسحوقون والمتساقطون وهناك كلمة عبر عنها فولتير الفرنسي بما معناه أن الذين هم قادرون على أن يسيطروا على عقلك قادرون على جعلك ترتكب الفظائع في الحياة ـ أن من أخطر مفاهيم الإستعباد السيطرة على العقل فلا يملك حرية التفكير وما أكثر من يصنع الفظائع في الحياة بإسم الحرية والإنسانية والدين وغير ذلك مما سيطروا به على العقول لذا فإن الحر حر ولو مسه الضر والعبد عبد وإن ساعده القدر كما ورد عن أمير المؤمنين "ع" " الحر لا تملك أمره وإن وضعته في قفص والعبد عبد وإن أطلقته في ميادين الحرية " .
الأصل في الإنسان الحرية : عندما خلق الله عز وجل الإنسان خلقه حراً غير مستعبد لأحد من أقرانه وأمثاله أو لأي شيء في هذا الكون وإنما لم يخلق عبداً لكمي يعيش حريته في عدم السقوط أمام التأثيرات ولكي لا يكون أسيراً أمام الهواء والملذات لذا ورد عن الأمير "ع" أيها الناس إن آدم لم يلد عبداً ولا أمة وأن الناس كلهم أحراراً وهذا يعطينا فكرة وهي عدم الإسترقاق في الإنسان لحرية أصله وإن على الإنسان الذي ولد حراً أن يمارس حريته في رفض أشكال الإستعباد أمام الآخرين ورفض الإستعباد أمام ملذات نفسه وشهواتها لأن الإنسان قد يتحول إلى عبد لنفسه ولأطماعه وميوله وهذا مستفيض في الأحاديث والآيات قوله تعالى : ( أفمن اتخذ إلهه هواه ) ـ أي أصبح عبداً لهواه وفي رواية الأمير "ع" لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حراً أو قوله "ع": من ترك الشهوات كان حراً وغير ذلك مما يدل على أن الإنسان ينبغي أن يعيش حريته أمام نفسه فلا يكن عبداً لها وأمام الآخرين فلا يكن عبداً لهم لأنه ولد في الأصل حراً فعليه ممارسة هذه الحرية في كل حياته .
لذا ورد في الحديث عن الأمير "ع" لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً ...
المؤمن لا يذل نفسه : وعلى ضوء ما تقدم من أن الله تعالى خلق الإنسان حينما خلقه حراً فإن الإنسان لا يملك في هذا الجانب حرية أن يذل نفسه ويجعلها مستعبدة للآخرين .
إن قلت مقتضى الحرية أن يملك الحرية في إذلال نفسه قلت هذا كما ترى بطلانه معه لأن الحرية والذل امران متضادان لا يمكن أن يجتمعان .
وعليه ليس له حرية اذلال نفسه لذلك تجد إمامنا الصادق "ع" يعطينا مفهوماً رائعاً آخراً في الحرية يقول إن الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلاله لنفسه .
وفي رواية مثلها أن الله تعالى فوض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً إن الله يقول ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .
أي معنى أسمى من هذا المعنى في أنك لا تملك حرية إذلال نفسك ولم يسلطك الله على ذلك بل يقيني عليك أن تكون حراً وأرادك أن تختار طريق الحرية بالجبر لا بالتفويض كما في باقي أمورك لأنه بعد أختيارك الإيمان أعطاء العزة التي وصف بها نفسه والتي لا تجتمع مع الذل مطلقاً .
ورفض رسول الله "ص" الذين يذلون أنفسهم من أن ينتسبوا إليه بقوله : " من أقر بالذل ليس منا أهل البيت .
حرية أختيار العقيدة : من ناحية المبدأ وفي الظروف الطبيعية لا يسمح الإسلام للكافر بالحرية ، ولكن لا يجبره بالقوة على تبني منظومته الفكرية ، وذلك لعدم قابلية المحل حيث أن الإعتقاد أمر قلبي يستحيل الإكراه عليه ، وعدم قابلية الدين للإكراه من حيث هو فكر من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى المزيد من التوضيح والإهتمام والنبي "ص" كان يدعو بالحجة والبرهان والحكمة والموعظة الحسنة ،والرشد والواضح مقابل الغي والواضح ويترك المجال لتحمل المسؤولية من موقع الإرادة السلبية أو الإيجابية .. وهذا ما يخدم الدين لأكثر مما يخدمه الإكراه " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" ( الكهف : 29 ) : " أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " ( يونس : 99) نعم الإسلام يمنع من ممارسة الفرد من ناحية عملية شأنه في ذلك شأن أي نظام علمي يحفظ وجوده وكيانه ونفوذه على أرضه وقاعدته ومصالحه ويعتبر التحرك بما يضاد ذلك خطراً يهدد الوجود بكافة شؤونه لذلك لا يسمح به بل يحاربه ويعاقب عليه .
في الحديث السابق ورد في قول الصادق "ع" إن الله فوض للمؤمن أموره كلها، يبقى سؤال هل يحق للإنسان في أن يختار العقيدة التي يريد أولاً ؟ .
الأصل فيما تقتضيه طبيعة الأمور أن يكون الإنسان حراً في أختيار أي عقيدة يريد وليس لأحد السيطرة على تفكيره ليجعل عليه القيود بل أن لعقله الحرية في التفكير ملياً وإقامة الأدلة والبراهين لأختيار معتقده وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى في سورة البقرة : ( لا إكراه في الدين ) ومن قوله في سورة الغاشية ـ ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ) .
فالله تعالى لم يجعل لأحد سلطة على أحد بحيث يلزمه حتى بالدين القيم الذي أنزله الله على رسوله "ص" فأرشده إلى عدم إكراه أحد على اختيار الدين الإسلامي ورفع له السلطة عن ذلك فلم يجعله مسلطاً على تفكيرهم لكي يكون مكرهاً لهم في اختيار الإسلام وهذا ما نستفيده من الأحاديث الكثيرة ـ كما في الحديث الذي أوردناه في أول البحث حيث يدل على أن الإنسان مفوض في اختيار العقيدة . قد يقال أن ترك الإختيار للعبد في العقيدة قد يستلزم منه الوقوع في اختيار عقيدة منحرفة .
قلت أولاً وثانياً وثالثاً :
أولاً : أن التفكير السليم المنطلق من قواعد عقلية سليمة وبحث موضوعي مبني على مقدمات سليمة لا يمكن إلا أن يؤدي إلى اختيار العقيدة الصحيحة لأنها توافق العقل والفطرة ولا تنافيهما ,
وثانيا: صحيح أن المولى عز وجل فوض إلى عبده إختيار العقيدة التي يريد إلا أنه فرض عليه تحمل النتائج فمن الطبيعي جداً أن يتحمل النتائج فمن الطبيعي جداً أن يتحمل الإنسان نتائج تصرفاته في أي أمر من الأمور وكذا في العقيدة فإذن إنحرف وأختار ما يوافق الهوى لا ما يوافق العقل السليم فعليه تحمل نتائج و آثار اختياره .
ثالثاً : بعد تبيان العقيدة وإرسال الرسل بالأدلة والبراهين والتي لا يمكن لأي عقل أو تفكير أن يرفضها لا يد من التزام عقيدتهم والسير على مسالكهم والنتيجة هي الطاعة لله الذي حلق الكون وما فيه وهذه العبادة المنطلقة من خلال المعرفة للخالق عبر الأدلة والبراهين هي من أفضل أنواع العبادة حيث أتسم بها الأديب والعالم والمفكر الأول وهو أمير المؤمنين "ع" حيث قال إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ،وإن قوماً عبدوا لله شكراً فتلك عبادة الأحرارا وهي أفضل العبادة فالذي يطلع على أسرار الكون وآياته وحسن تدبيره وعظيم تنظيمه وكثرة دلائله لا بد أن يقر له بالربوبية وأن يصل إلى إختيار عقيدة العبودية التي توصله إلى الشكر لهذا الخالق عبر الإلتزام بأوامره على قاعدة : معنى أن تكون عبداً لله أن تكون حراً أمام العالم ، وعليه تكون الحرية في الطاعة والعبادة لله وحده لأن حقيقة العبادة هنا الحرية .
وأما المعصية لله وعدم طاعته بكون فيها العبودية للهوى أو الخضوع أمام النفس وشهواتها وليست هذه في الحقيقة حرية فما ينشد في العالم من حرية الإنسان على الإطلاق ليست في محلها فللحرية حد ينتهي عند حرية الآخر وكذا للحرية حد ينتهي عند عبوديتك لنفسك فالذي يختار المعصية هو في الواقع ليس حراً وإنما هو عبد لتلك المعصية والحر هو الرافض لها لأن في المعصية مفسدة وحتى لو أختارها تحمل نتائجها وعليه أن يعلم أن حريته في فعل أي يشي لا تسمح له بإزعاج الآخر بها أو التأثير على الغير من خلال حريته .

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=36
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2007 / 05 / 12
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28