• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مفاهيم .
                    • الموضوع : الخطيب ونفوذ الكلام .
                          • رقم العدد : العدد السابع والعشرون .

الخطيب ونفوذ الكلام

 الخطيب ونفوذ الكلام

 

الشيخ محمد تقي فلسفي (ره)

"إن من الشعر حكمة وإنّ من البيان سحراً"

الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

إن الخطابة هي فن يكتسب ويؤخذ بالتعلم، يحث إليه الخطى أصحاب الذوق والاستعداد والرغبة لبلوغ مرحلة عليا من الأدب والبلاغة وارتقاء منابر الخطابة، فيتعلمون رموز هذا الفن ودقائقه، ويتمرسون عليه حتى يصبح فيهم ملكة ذاتية يستطيعون التحدث إلى الجمهور دون تكلف وعناء، ويوضحون آراءهم وأفكارهم له بسهولة تامة.

والتكلم يسّره الخالق العالم بمشيئته الحكيمة في البناء الإنساني بتوفير وسائله وأسبابه، ووضع كل لوازمه بفطرة الإنسان، وقد انتقلت هذه الهبة الإلهية القيمة بواسطة الوراثة من الأجيال السابقة إلى اللاحقة وهكذا ستستمر.

الناطق وفن الكلام

ثلاثة أمور تلعب دوراً على مستوى كبير من الأهمية والتأثير في نطق المتحدث:

أولاً: شخصيته ومكانته في أذهان الرأي العام، فكلما ازداد حب المجتمع للمتحدث ورغب إليه كلما اهتم الناس بحديثه.

ثانياً: موضوع البحث المعلن للمستمعين الذي يريد أن يتناوله المتحدث.

ثالثاً: مهارة المتحدث في كيفية إلقاء الخطاب وتشكيل الكلمات، فمهارة الإلقاء ليست أقل من مادة الحديث في بيان الموضوع إن لم تكن أهم منها، فالمتحدث الماهر يستطيع تجميل كلامه بلطائف الفن وتصويره للمستمع بشكل يسحر وينفذ إلى أعماق أعماقه.

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن من الشعر حكمة وأن من البيان سحراً"([1]).

وعن الإمام علي عليه السلام : "رب كلام أنفذ من سهام"([2]).

 

 

الفرق بين العلم والفن:

يمكن تعريف العلم: أنه عبارة عن معرفة الحقائق المجهولة للأشياء ووعي عمق موضوعات وقضايا ذلك العلم في المجالات المعنوية والمادية.

والفن: عبارة عن تجسيد تلك الحقائق وتصويرها.

فالحقائق المكتشفة تعد للخطباء المادة الأساسية للكلام، ومهارة الخطيب بمثابة الصورة التي تطبع بها تلك المادة، حيث يعرضها على المستمعين بشكل جميل فاتن.

 

المعرفة والتوعية:

الواجب الأساسي الأول للخطيب هو: معرفة موضوع البحث الذي يبتغي طرحه في المجلس، أي: أن يعلم ماذا يريد أن يقول، وأية مواضيع يلقيها على المستمعين وبأي نظم وترتيب.

إن معرفة الخطيب بمادة حديثه وشكل الإلقاء والأداء يمنح كلامه نظماً وترتيباً فلا يتشتت تبعاً لذلك ـ فكره ولا يفلت منه زمام حديثه، يبدأ حيث ما هو مطلوب ويتوغل في البحث بمقدار ما يقتضي البحث غير مبتعد عن هدفه، ويختمه حيثما استلزم ذلك.

ومن الأجدر بالخطيب أن يعلم الآخرين كما يعلم هو، ويطلع المستمعين في بداية كلامه على موضوع بحثه مهماً كان هذا الإعلان مقتضباً وقصيراً، فيقول مثلاً: يدور موضوع بحثي اليوم حول التوحيد في العبادة.

ومع الاختلاف في معنويات المستمعين واستعداداتهم لاستيعاب البحث، ينطوي هذا الإعلان على عدة فوائد:

فالفئة المؤمنة الموحدة في العبادة تتهيأ للإصغاء لمعرفة ما إذا كان هناك تقصير في عبوديتها وتوحيدها لترفعه، والجماعة التي تحمل في ذهنها شيئاً عن التوحيد في العبادة دون أن تستوعب معناه تستعد للإستماع جيداً لتقف على هذا الأمر الاعتقادي المهم كما هو مطلوب، وإذا وجد بين الحضّار بعض المسلمين بالاسم فقط فإنهم يعطون أذناً صاغية لفهم معنى التوحيد في العبادة والإطلاع على هذا الأمر المهم، ولو حوى المجلس على غير المسلمين فإن حب الاستطلاع يدفعهم لاستغلال هذه الفرصة لمعرفة ماذا يعنيه التوحيد في الإسلام.

وبخلاصة: يمكن القول أن الإعلان عن فحوى الحديث في بدايته يهيئ فكر المستمع للإصغاء ويوجه انتباهه للاستماع ليتابع الخطيب بدقة ورغبة.

وينبغي الالتفات إلى أن هذا الإعلان يحث المستمع على الإصغاء والمتابعة والاندماج مع الخطيب ما لم يخرج هذا الأخير عن موضوع حديثه وينطلق لتناول قضايا متفرقة أخرى، لأن المتحدث لو فرّط سلسلة كلامه وانحرف عن مسيره، فإن المستمع هو الآخر سينفصل عنه ويترك المجلس خارجاً منه أو يترك متابعة الخطيب.

 

إقناع المستمعين:

الواجب الأساسي الثاني للخطيب هو إقناع المستمعين، بمعنى أن يكون المتحدث مقتدراً مسيطراً على الموضوع الذي يتناوله بالبحث ليستطيع إقناع المستمعين بصحته وأصالته، ويجعلهم يسايرونه في الرأي والعقيدة، ويستلزم هذا الأمر المهم أن يعي الخطيب قيمته العلمية ويعرف حده، ويختار موضوع البحث بما يناسب كفاءته وقدرته.

 

الأدلة العقلية والشرعية:

قد تكون المواضيع التي يبحثها الخطيب الإسلامي خالصة، كأن يريد أن يبحث في الرد عن نظريات الماديين ويبرهن على وجود الخالق، ففي مثل هذه الحالات يتيسر إقناع المستمعين بالأدلة العقلية فقط، وفي الحالات التي يتناول فيها الخطيب الإسلامي قضايا دينية بحتة يقتنع المستمعون المؤمنون  بالآيات القرآنية الكريمة وأحاديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام وفتاوى المجتهدين من العلماء، وقد تنطوي قضايا البحث على بعدين يمكن في أثباتها استخدام العقل وكذلك الكتاب والسنة، والبحث حول التوحيد في العبادة هو من هذا القبيل.

بإيجاز: فإن الأمر الأساسي الثاني الذي يجب توفره في الخطيب هو إقناع المستمعين، وينبغي بالخطيب الإسلامي أن يلقي بحثه على مسامع الحاضرين ويطرح استدلالاته عليهم بشكل يتقبله المستمعون دون أن يترك مجالاً للشك والترديد، فيأتي بالدليل العقلي إن كان موضوع البحث عقلياً، ويقدم الدليل الشرعي لو كان شرعياً، ويستدل بالاثنين معاً إن تطلب ذلك كسوء عبادة الأصنام.

 

الترغيب

ثالث نقطة رئيسية يجدر بالخطيب ـ ومهما كان انتماؤه ـ ايلاؤها الأهمية المطلوبة، هي: ترغيب المستمعين بالواجبات التي عليه أن يلقي خطابه أو كلمته حولها.

 

الخطيب الإسلامي

الخطيب الإسلامي من جهته يطلع المستمعين في بداية حديثه عن موضوع بحثه وهو: التوحيد في العبادة (مثلاً)، ثم يأتي بالأدلة العقلية والشرعية، ويقنع الحضار بها، ويتطرق في كلامه إلى عبادة الهوى والشهوة والمال والمنصب والسلطة وغيرها من العبادات المماثلة ودورها في انحطاط الإنسان وسقوطه، وأن التوحيد في العبادة هو الطريق الوحيد للخلاص من جميع هذه العبادات المذلة، ولهذا بدأ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم دعوته لإنقاذ أناس العصر الجاهلي من الشرك وخاطبهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.

إن بعث الرغبة والميل لدى المستمعين لأداء واجبات التوحيد والامتناع عن عبادة الهوى هو ليس أيسر من الإقناع العقلي والشرعي إن لم يكن أعسر منه، لأن الإنسان يميل وبنحو طبيعي للإشباع المطلق لهوى النفس وإرضاء رغبات الشرك لديه.

وينبغي للخطيب الإسلامي أن يرجعه من هذا الطريق ويهديه في مسير التوحيد والطاعة المطلقة للباري تعالى، وهذا عمل تعترضه المشاكل والصعاب.

عن الإمام علي عليه السلام قال: "واعلموا أنه ما من طاعة الله شيء إلا يأتي في كره وما من معصية الله شيء إلا يأتي في شهوة".

ولكي يكون لترغيب الخطيب الإسلامي وقعه المؤثر، ويستحث المستمع لإنتهاج طريق الحق، عليه أن يبذل سعيه في تعزيز الأسس الإيمانية في المستمع، وتقوية حس حب الله في ضميره، وبث الأمل فيه برضوان الله ورحمته الواسعة، فحب الرغبة بالسعادة الأبدية يمكنهما كبح جماح عبادة الهوى ليدب الضعف في حب الشهوات، وبالتالي يصان الإنسان من أخطارها ومضارها.

هناك الكثير من الخطباء والمتكلمين يستطيعون إقناع المستمعين ببعض القضايا الإسلامية إلا أنهم يعجزون عن حثهم وتحريكهم بالترغيب فيتحدثون مثلاً ـ عن ضرورة الدفاع عندما تتعرض دار الإسلام إلى هجوم أجنبي، ويقنعون الناس بالدليل على لزوم مواجهة العدو، لكنهم لا يقدرون على تطويع عشر المستمعين الذين تتوفر فيهم الشروط المطلوبة لقتال العدو.

ومن الطبيعي أن يتفاوت الخطباء من ناحية النزاهة والتقوى والسوابق والشهرة ومعرفة الناس وتأثير الكلام ونفوذه وقابلية التجسيد وسائر مهارات وفنون الخطابة، ورغم ذلك فإن من تتوفر فيه الشروط أكثر من غيره قد لا يستطيع أن يترك في الناس الأثر المطلوب ويدفعهم للسعي والعمل، وينبغي أن لا يكون هذا سبباً للنكوص واليأس وعاملاً للتراجع والتوقف عن أداء الواجب، بل عليه استخدام متون الآيات والأخبار لتحقيق نجاح أكبر وزيادة تأثير ونفوذ كلامه، فمثلاً يتحدث عن الرحمة الإلهية الواسعة لتحفيز الناس على أعمال الخير ويستشهد بروايات تدور حولها.

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من قبل الله منه حسنة واحدة لم يعذبه أبداً ودخل الجنة".

هذه الرواية تبعث الأمل في المستمعين ولكن ولكي لا يفسر الحديث خطأ، يجدر بالخطيب أن يقول مباشرة أن الإمام الصادق عليه السلام تحدث في هذه الرواية عن قبول العمل، ومن أجل أن نفهم ما قاله الإمام حقاً، علينا أن نعلم أي عمل ينال رضا الله تعالى، وأي صاحب عمل يدخل الجنة ويصان من العذاب الإلهي لقيامه بعمل الخير.

شرط قبول العمل

جاء في الروايات الواردة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة المعصومين عليهم السلام أن الإخلاص في النية هو شرط قبول العمل عند الله تبارك وتعالى.

عن الإمام علي عليه السلام قال: "عليك بالإخلاص فإنه سبب قبول الأعمال".

وعنه عليه السلام: "من لم يصحب الإخلاص عمله لم يقبل".

فالمفروض بالخطيب الإسلامي أن يتحدث عن الرحمة الإلهية الواسعة في التوحيد لترغيب الناس بطاعة الأوامر الإلهية ويذكر دلائل وشواهد مستقاة من الروايات التي تبشر برحمة الله ليبعث فيهم الأمل، وإلى جانب الأحاديث المؤملة يسترعي انتباه المستمعين إلى أهمية خلوص النية كشرط أساسي لقبول العمل.

 

 

تصور خاطئ

قد يتبادر إلى ذهن سائل: أنه ليس هناك حاجة إلى الترغيب والتحفيز العاطفي طالما أن الخطيب الإسلامي يتم البرهان ويقنع عقول المستمعين بالدليل القاطع في بحث التوحيد أو غيرها من البحوث الدينية، لأن إقناع العقل يوضح الطريق الصحيح المؤدي إلى السعادة، والمستمع العاقل يسلك بنفسه هذا الطريق ويأخذ بعنان عواطفه ومشاعره نحو ذات الطريق، فيؤدي ما عليه من واجبات ويعمل بالفرائض ويتجنب الآثام والخطايا.

هذا التصور خاطئ ويجافي الحقيقة، لأن الأهواء والميول فضلاً عن أنها لا تستسلم للعقل الذي ينظر إلى حقائق الأمور، فهي قد تتغلب في بعض الأحيان على قوة العقل لتصبح هذه الأخيرة أسيرة عاجزة في قبضة النفس الأمارة.

عن الإمام علي عليه السلام قال: "وكم من عقل أسير تحت هوى أمير"([3]).

فالإنسان يستطيع الانتصار على عدوه الخارجي بالعقل والذكاء، وقتله في ميدان الحرب والتخلص منه وإلى الأبد، ولكن العدو الداخلي أي هوى النفس له من القوة والقدرة ما يستطيع معها أن يأسر العقل كما يقول الإمام علي عليه السلام.

العقل والشعور

العقل: هو الضوء الساطع الذي ينير درب الحياة، ويميز الصلاح عن الفساد والصراط المستقيم عن الطريق المعوج، ويصون الإنسان من الضلال والسقوط، لكن القوة التي تحرك المرء في هذا الدرب وتدفعه للنشاط في الشؤون المادية والمعنوية هي العواطف والمشاعر.

فلإثبات وجود الله استثمر الأنبياء قوة العقل في الناس، واستخدموا العواطف والأحاسيس لأداء التكاليف الإلهية والقيام بالواجبات الدينية.

وفي التعاليم السماوية، استثمر الأنبياء قوة الحب لأداء الفرائض وترك المحرمات، فالحب أقام علاقات مستحكمة ومقدسة بين الخالق والمخلوق، ويؤدي المؤمنون القسط الأكبر من واجباتهم الدينية في ظل عاطفة الحب.

وتتجلى أهمية الحب بوضوح بمطالعة الروايات الواردة في كتب العامة والخاصة، وكنموذج لها نثبت هذين الحديثين هنا.

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "هل الدين إلا الحب والبغض في الله".

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "هل الدين إلا الحب".

وبإيجاز فإن هوى النفس والغرائز الجامحة لا تستسلم للعقل والعلم، بل لا بد من كبح جماح الهوى والأحاسيس بإحساس أقوى، والإحساس الأقوى في مدرسة الأنبياء وفي ضمائر المؤمنين هو حب الله والأمل برحمته الواسعة والخوف من عذابه الدائم.

نستنتج أن على الخطيب وفي المرحلة الأولى أن يعلن هدف بحثه للمستمعين ويبعدّهم للإصغاء إلى المواضيع التي سيطرحها، وفي المرحلة الثانية أن يقنع المستمعين عقلياً وشرعياً ويكسب عن هذا الطريق ثقتهم بصحة أقواله وأصالتها، وفي المرحلة الثالثة أن يحثهم على التحرك والنشاط باستثارة عواطفهم ليحصل على النتيجة المطلوبة والمستهدفة.

وبديهي أن الموضوع الرئيسي في فن الخطابة هو الإقناع والترغيب، فالمستمع يصغي برغبة أشد إلى كلام الخطيب إذا ما أعلن عن هدف البحث في الوقت المناسب.

وينبغي للخطيب لإقناع مستمعيه أن يكون على اطلاع واسع بالدلائل العقلية والدينية لموضوع البحث ليستطيع التأثير في المستمع وكسب ثقته واعتقاده بأقواله.

ولترغيب الناس، عليه أن يطعم حديثه بالروايات ـ كما أسلفنا ـ ويستثمر حب الناس للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام بالإضافة لذلك عليه أن يلمّ بعض الشيء بعلم النفس ليستطيع إثارة عواطف المستمعين.

 

_ من كتاب البيان وفن الخطابة _ بتصرف

 

 

 

 

 



[1] كتاب تحف العقول ص55

[2] كتاب غرر الحكم ص 416

[3] كتاب نهج البلاغة كلمة 211


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=567
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28