• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : هيئة علماء بيروت .
              • القسم الفرعي : شهر رمضان .
                    • الموضوع : التأثير الروحي للقرآن الكريم .

التأثير الروحي للقرآن الكريم

التأثير الروحي للقرآن الكريم

قال تعالى ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾

 هذه الصفة صفة روحية، لا بد أن نلتفت إليها ونحن نتعامل مع القرآن الكريم، إشارة إلى التأثير الروحي للقرآن الكريم

 كيف يكون للقرآن الكريم تأثير روحي على قارئه وعلى متدبره؟

علماء العرفان يقولون: منازل ومراتب العروج إلى الله تبارك وتعالى مراتب ثلاث:

 حق، وصعق، ومحق

المرتبة الأولى: مرتبة الحق

مرتبة الحق عبّر عنها القرآن الكريم في عدة موارد بالخشية

القرآن الكريم تارة يعبر بالخوف، وأحيانًا يعبّر بالخشية

 مثلًا: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾

 وفي مورد آخر: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾،(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ)

فما هو الفرق بين الخوف والخشية؟

الرهبة التي تصيب الإنسان تارة يكون منشؤها إدراك القوة، هذا يسمى خوفًا، وتارة يكون منشأ الرهبة إدراك العظمة، هذا يسمى خشيةً

 الرهبة الناشئة عن إدراك القوة خوفٌ، والرهبة الناشئة عن إدراك العظمة خشيةٌ، والخشية من صفات العلماء الذين يدركون عظمة الله تبارك وتعالى، لذلك قال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، الذين يخافون الله كثيرون لكن الذين يخشونه قلائل، الخشية تختلف عن الخوف

الإنسان عندما يتصور أن الله بيده الجنة والنار، قوي قادر مهيمن على الوجود كله، تصيبه الرهبة لأنه أدرك أن الله قوي قادر على أن يصنع به ما يشاء، هذه تسمى خوفًا، الرهبة الناشئة عن إدراك قوته تبارك وتعالى خوفٌ، ولكن إذا تأمل الإنسان في هذه الذات المستجمعة لسائر صفات الكمال، كلها حياة، كلها قدرة، كلها علم، كلها عطاء، كلها مدد، لا حد له، لا نفاد له، إذا أدرك عظمة الله تبارك وتعالى أصابته الرهبة، الرهبة الناشئة عن إدراك عظمته تسمى خشية، لأنها نشأت عن إدراك العظيم بما هو عظيم، لا عن إدراك القوي بما هو قوي.

إذن، المرتبة الأولى من مراتب السلوك إلى الله مرتبة الخشية، أي: إدراك عظمته تبارك وتعالى، هذه المرتبة تسمى عند العرفاء بالحق، مرتبة الخشية.

هذه المرتبة أشارت إليها الآية، قالت: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، أولًا فرضنا أنهم يخشون ربهم، لما فرضنا أنهم يخشون ربهم، يعني فرضنا فيهم المرتبة الأولى، انتقلنا إلى المرتبة الثانية، ألا وهي مرتبة الصعق.

المرتبة الثانية: مرتبة الصعق

مرتبة الصعق مأخوذة من الآية: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾.

الله تبارك وتعالى يتعامل مع عباده بقانون الإثارة، عباده المنفتحون عليه طبعًا، عباده المنشرحون إليه، عباده الذين ينفتحون عليه يتعامل معهم بقانون الإثارة، الإمام أمير المؤمنين في بعض كلماته يقول: ”وروّعتهم بعجائب حكمتك“، أي أن الله تبارك وتعالى بين حينٍ وآخر يثير أمام عبده مظهرًا من مظاهر عظمته، ما دام العبد منفتحًا على الله، ما دام العبد منشرح الصدر لله، بين حين وآخر الله تبارك وتعالى يعطيه صدمات كهربائية، بين حين وآخر يظهر له مظهرًا جديدًا من عظمته، من قدرته، حتى يجعله دائمَ الانجذاب إليه، دائمَ التعلق به، دائمَ الاتصال به.

هذه إثارة مشاهد العظمة، إثارة مشاهد الكبرياء، هذا يسمى ترويعًا، وهذا يسمى بمرحلة الصعق، ينصعق هذا العبد، بين فترة وأخرى يظهر له مظهر من مظاهر حكمته، مظاهر عظمته، مظاهر قدرته، فينصعق بها، مثل الصدمات الكهربائية التي تعطى لهذا الإنسان المخدَّر، إنسان مغمى إليه، إنسان مخدَّر، نعطيه وصدمات كهربائية، حتى يلتفت، حتى ينصعق، ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، نحن لا نقطع الفيض عنهم، لا نقطع المدد عنهم، دائمًا نثيرهم، دائمًا نروّعهم، دائمًا نلفتهم إلى مظاهر العظمة، إلى مظاهر الكبرياء، ”وروّعتهم بعجائب حكمتك“.

هذه مرحلة الصعق التي موسى (ع) قال له: أرني أنظر إليك، قال: أنا أعطيك مظهرًا من مظاهر العظمة يغنيك عن هذا السؤال، ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾أي: أفاض على الجبل طاقةً من الضوء هي أكبر حجمًا من تحمّل هذا الجبل وقدرة هذا الجبل، لما أفاضها جعله دكًا وخرّ موسى صعقًا.

 هنا الآية تشير إلى مرحلة الصعق: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، مرتبة القشعريرة هي مرتبة الصعق لمظاهر عظمة الله تبارك وتعالى وجلاله.

 ثم يصل إلى المرتبة الثالثة، هذا الإنسان المروَّع بعجائب حكمة الله، المصعوق بجلال الله، يظل هكذا دائمًا مصعوقًا؟! لا، تمر حالة الصعق، يقفز منها، ينطلق منها إلى مرتبة أعلى، وهي مرتبة المحق .

المرتبة الثالثة: مرتبة المحق

هذه المرتبة المعبّر عنها في القرآن الكريم بالطمأنينة، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾، يصل إلى مرحلة الاطمئنان، ولهذا موسى بعد هذه المرحلة التي صُعِق فيها اطمأن بالمعرفة النورية الإلهية الخاصة، وصل إلى مرحلة الاطمئنان، وهي المرحلة الأخيرة

 مرحلة المحق، يعني: اليقين التام بنفوذه تبارك وتعالى وهيمنته وسيطرته على هذا الوجود بأسره، هذا اليقين الوجداني، هذا اليقين الشهودي، هذا اليقين الحسي، مرتبة الاطمئنان، التي يصل إليها السالك إلى الله .

القرآن الكريم عبّر عن هذه المرتبة: ﴿ثُمَّ تَلِينُ﴾ يعني تطمئن، ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ﴾، حتى الجلود ينعكس عليها حالة الاطمئنان والسكينة والهدوء إلى ذكر الله، ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ﴾.

ولهذا، أحيانًا يرد سؤال: ما هو الفرق بين هاتين الآيتين؟

عندنا آية تقول: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ خوف وقشعريرة

بينما آية أخرى تقول: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾

 هناك يقول: وجلت، هناك يقول: تطمئن، فكيف نجمع بين الآيتين؟

الجمع بين الآيتين: اختلاف المرتبة، اختلاف الدرجة، يعيش المؤمن أولًا حالة الصعق، هذه حالة الوجل هي حالة الصعق بما يثيره الله من عجائب حكمته.

 ثم ينطلق من حالة الصعق إلى حالة المحق وحالة الاطمئنان، يصل إلى حد الاطمئنان الذي خوطب به: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾، إذن هناك اختلاف في المرتبة، كما ذكرتها الآية المباركة

ومن يسلك هذا الطريق - طريق الخشية، ثم يصل من الخشية إلى حالة الصعق، ثم يصل إلى حالة الاطمئنان - فقد حصل على الهداية النورية الخاصة

 هناك هداية عامة للكون كله، هذه هداية تكوينية ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، هذه هداية عامة

وهناك هداية خاصة بالبشر، وهو أنه أنزل إليهم الكتب، وبعث إليهم الأنبياء والرسل، ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾

 وهناك هداية أخصّ، خاصة بالمؤمنين، لا تعطى لغيرهم، هذه الهداية النورية، أن المؤمن يتوفق بأن يسلك هذا الطريق، طريق الخشية، وطريق الصعق، وطريق الاطمئنان إلى الله تبارك وتعالى، بعد أن ذكر الطريق جلّ وعلا قال: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ لا كل أحد، الإنسان المنفتح .

الإنسان الذي غلّف قلبه، مثلنا نحن، نحن غلّفنا قلوبنا، نحن وضعنا على قلوبنا حجبًا، وعلى أرواحنا جدرانًا رصينةً سميكةً، تحجبنا وتمنعنا عن أن نتذوق النور، وأن ننفتح على النور، وأن ننفتح على القرب من الله، والعلاقة مع الله، نفوسنا مغلفة، مع الأسف، نحن نعيش في حجاب القسوة، وفي حجاب الغفلة، وهذا ما ذكره تبارك وتعالى قبل هذه الآية: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ﴾، نحن من هذا الصنف، ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

نحن نعيش مرض القسوة، مرض الغفلة، مرض الحجب، حجب الذنوب، حجب المعاصي، حجب الإصرار على الذنوب، والإصرار على المعاصي، هذا الإصرار على المعاصي والرذائل يشكّل حجابًا رصينًا قاتمًا أسود يمنعنا من تذوّق النور، ويمنعنا من الانفتاح على الله تبارك وتعالى، ”ما يزال العبد يذنب حتى تخرج في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإذا تاب انمحت، وإذا عاد عادت، حتى تغلب على قلبه“  فلا يفلح بعدها أبدًا، وذلك قوله تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾“، صار فيها رين، هذا الرين صبغ القلب، جعله فحمة سوداء.

أما الذين انشرحوا، وانفتحوا على عطاء شهر رمضان الروحي، انفتحوا على القرآن، انفتحوا على نافلة الليل، انفتحوا على أدعية هذا الشهر، اغتنموا الفرصة، تزودوا من الوقت، ذاقوا حلاوة العبادة في شهر رمضان، ذاقوا حلاوة التوبة من المعاصي، ذاقوا حلاوة الإقلاع التام عن الذنوب والرذائل صغيرها وكبيرها، هؤلاء الذين شرح الله صدرهم.

إذن، يدخل علينا شهر رمضان، شهر السعادة، السعادة للمنفتحين، شهر السعادة، شهر الخاتمة الحسنة، الإنسان الذي يقطع هذا الشهر بالعبادة، بالتوبة، بالانفتاح على الله، ساعة في يوم يقرأ فيها شيئًا من القرآن، يصلي شيئًا من النافلة، يقرأ شيئًا من الدعاء، ساعة من أربع وعشرين ساعة تجعلنا من أهل السعادة، ساعة من أربع وعشرين ساعة تغيّر شخصياتِنا، ساعة من أربع وعشرين سنة تتدارك الخلل والخطأ والجريمة والإصرار على المعاصي الذي ثابرنا عليه لمدة سنة كاملة، ساعة من أربع وعشرين ساعة تنقلنا من حضيض الذنوب إلى قمة النور، إلى الهداية النورية، إلى أن نكون مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=847
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 05 / 08
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28