العدالة الاجتماعية في نهج البلاغة
قال الإمام علي(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر
" أَنْصِفِ اللهَ وَأنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِن خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوَى مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِم وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ
وَلَيْسَ شَيءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْييرِ نِعَمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ
كما أنّ كلّ جرم أو مادّة في الكون لها حدود معيّنة والتزامها بحدودها يعني العدالة (بالعدل قامت السماوات والارض) وخروجها عن حدودها يعني الظُّلم ، فكذلك الحال في المجتمع البشري حيث عيّن الله لكلّ فرد من أفراد المجتمع حدوداً وحقوقاً، فإذا ما سار كلّ إنسان وفق حدوده واستلم حقوقه فذلك يعني العدالة، أمّا إذا طغى الإنسان على حدوده، أو سلبت منه حقوقه فذلك يعني الظُّلم .
وبالضّبط كما أنّ العدالة الكونية تحافظ على خير الكون واستقراره، بينما الظُّلم الكوني يسبّب دمار الكون وخرابه، فكذلك العدالة الاجتماعية تحفظ المجتمع وتسعده والظُّلم الاجتماعي يمزّق المجتمع ويشقيه .
في هذا المجال يقول الإمام علي(عليه السلام) لزياد بن أبيه ـ وقد استخلفه: إسْتَعْمِل الْعَدْلَ وَاحْذَر الْعَسْفَ وَالْحَيْفَ الظلم ، فَإِنَّ الْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلاَءِ بهروب الناس وهجرتهم وَالْحَيْفَ يَدْعُو إلى السيف.
صور الظّلم في المجتمع
1 _ الحاجة والحرمان
فإنّ الله الذي خلق الناس وتكفّل بمعيشة ورزق كلّ واحدٍ منهم بل وكلّ كائنٍ حي.. يقول تعالى:{ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها } هود: 6
ويقول الإمام علي (عليه السلام):" عياله الخلق، ضمن أرزاقهم، وقدّر أقواتهم
وهذا الرزق مودع في كنوز الكون وخيراته، فعلى كلّ إنسان أن يعمل لاستخراج حصّته من هذه الكنوز والخيرات. ولكن من لا تساعده ظروفه الجسمية أو الاجتماعية على العمل وأخذ حصّته من خيرات الكون مباشرة، هل يسقط حقّه ويعيش محروماً أو يموت جوعاً؟
كلاّ.. وإنما فرض الله على القادرين على العمل والحائزين على ثروات الكون أن يعطوا ذلك الفقير العاجز ما يسدُّ حاجته ويدفع الحرمان عنه، يقول تعالى:{ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم } الذّاريات: 19
فإذا امتنع الأثرياء عن إعطاء الفقراء حاجتهم ومعيشتهم، فهذا ظلم واعتداء لا يرضى به الله ولا تقبله شريعة العدالة
يقول الإمام علي(عليه السلام) في هذا المجال إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلاّ بما متّع به غني، والله تعالى سائلهم عن ذلك "
ويقول في رسالة لعامله على مكّة قثم بن العباس : وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة والخلاّت
وفي عهده لمالك الأشتر يقول(عليه السلام )
اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُم، مِنَ الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينِ وَأَهْلِ
الْبُؤسَى وَالزَّمْنَى، فَإنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعَترا
اما لو طغى الناس الأثرياء وانحرفوا عن قانون العدالة وتركوا الفقراء يكابدون الحاجة والحرمان فستترتب النّتائج الخطيرة التّالية :
أ ـ الطبقية: حيث تتكدّس الثّروات عند مجموعة من الناس، بينما يكتوي الآخرون بنار البؤس والحرمان. وبمرور الأيام يزداد الأثرياء ثروة وترفعاً، ويزداد الفقراء تعاسة وانـعـزالاً. يـقـول الإمــام عـلـي(عليه السلام): " إضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أوْ غَنِياً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أوْ بَخِيْلاً إتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً "
ب ـ الجريمة والانحراف: فإنّ الفقر والحاجة الملحّة تدفعان إلى الجريمة والفساد كالنَّهب والسّرقة والاحتيال
يقول الإمام(عليه السلام) وَإذَا بَخِلَ الغني بمعروفه باعَ الْفَقِير آخِرَتَهُ بِدُنْيَاه
ج ـ الاضطرابات الاجتماعية: فإلى كم سيصبر الفقراء على ألم الجوع ويتحمّلون الحاجة والحرمان؟.. بل لابدّ وأن يتورّم الحقد في قلوبهم فيتفجّروا في ثورة عارمة.
يقول(عليه السلام):" الْحَيْفُ يَدْعُو إلَى السَّيْفِ "
2_ عدم تكافؤ الفرص
وهذا هو المشهد الثّاني من مشاهد الظُّلم الاجتماعي، حيث يُتاح المجال الاجتماعي والامتيازات الاقتصادية لفئة دون أُخرى، على أساس علاقتهم بجهاز الحكم أو قرابتهم من شخص الحاكم. وهذا يسبّب وصول غير المؤهّلين لمراكز السّيادة، بينما ينسحب أصحاب الكفاءة لعدم إتاحة المجال لهم لممارسة كفاءتهم، فيُحرم المجتمع من خبراتهم وخدماتهم .
والإمام علي ع بمجرّد أن تولّى الإمام الخلافة سحب كلّ الامتيازات السيّاسية والاقتصادية التي مُنحت بغير حق
يقول (عليه السلام): وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ -المال- قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإنّ في الْعَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ، فَالْجَوْرُ عَلِيْهِ أَضْيَقُ "
وأصرّ الإمام علي(عليه السلام) على عزل الولاة السّابقين ومن بينهم معاوية بن أبي سفيان والي الشّام ، ورفض أن يمنح طلحة والزبير ما يطمحان إليه من منصب لعدم كفاءتهما , وطبّق سياسة المساواة في العطاء بين النّاس مهما اختلفوا في الفضل والمكانة وحينما عوتب صار يشرح سياسته العادلة بقوله : لَوْ كَانَ الْمَالَ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُم، فَكَيْفَ وَإنَّما الْمَالُ مَالُ اللهِ!
3_ الحصانة أمام القانون
وصورة ثالثة من صور الظُّلم الاجتماعي أن لا يطبّق القانون إلاّ على الضُّعفاء والفقراء، أمّا ذوو المناصب والثّروة والجاه، فهم في حصانة عن تطبيق القانون عليهم إذا ما انحرفوا.
وقد حارب الإمام هذا الظُّلم بعنف حينما قال: "الذّليلُ عِنْدِي عَزيزٌ حَتّى آخَذَ الْـحَـقَّ لَـهُ، وَالْـقَـوِيُّ عِـنْدِي ضَعِيفٌ حَتّى آخَذَ الْحَقَّ مِنْهُ
4_ الاعتداء على حقوق الآخرين
لكلّ فرد في المجتمع كرامته وحقوقه، والاعتداء على كرامة أيّ فرد وحريته وحقوقه يعتبر شكلاً من أشكال الظُّلم، الّذي لابدّ وأن يعاقب الله عليه صاحبه عقاباً يكون وقعه وألمه أشدّ من وقع الظُّلم على المظلوم.
يقول الإمام علي (ع ):" يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ"
ويكون الظُّلم أكثر بشاعة إذا كان ضحيته الضُّعفاء والفقراء الذين لا يستطعيون مقاومة الظُّلم والدِّفاع عن حقوقهم يقول الإمام:" ظُلْمُ الضَّعِيف أَفْحَشُ الظُّلْمِ
ويقول أيضاً:" وَبُؤسَى لِمَن خَصْمُه عِنْدَ اللهِ الفُقَراءِ وَالْمَسَاكِين "
ويقول الامام(عليه السلام): " لأنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِن ظَالِمِهِ، وَلأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ، حِتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَإنْ كَانَ كَارِهاً "
ويقول(عليه السلام):" لَنْ تُقَدّس أُمّة لا يُؤخَذ لِلضَّعيفِ فِيهَا حَقَّهُ مِنَ الْقَوِي
الموقف من الظلم
1_ التألّم من الظُّلم:
ويصوّر الامام علي (عليه السلام) احدى حالات الظلم والموقف الادنى منه فيقول:
وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُم ـ جيش معاوية ـ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَالأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ، فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا، وَقُلْبَهَا، وَقَلائِدَهَا وَرُعُثَهَا، مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالإسْتِرْجَاعِ وَالإسْتِرْحَامِ.. فَلَوْ أَنَّ امْرَءاً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً " 17
2 الوقوف إلى جانب المظلوم ضدّ الظّالم: ففي آخر وصية للإمام علي (عليه السلام) وجّهها لولديه الحسنين قال: " كونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً"
ويقول الامام زين العابدين في احد ادعيته : اللهم اني اعتذر اليك من مظلوم ظلم في حضرتي ولم انصره .
3_ العمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الظُّلم: وهي مسؤولية كلّ فردٍ واعٍ، يقول الإمام (عليه السّلام):" أخذ الله على العلماء ـ الواعين ـ ألاّ يقارُّوا على كظّة ـ تخمة ـ ظالم، ولا سغب ـ جوع ـ مظلوم "
|