• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : مقالات .
                    • الموضوع : تحديات المرحلة الدنيوية وأثارها الأخروية .
                          • رقم العدد : العدد السادس والثلاثون .

تحديات المرحلة الدنيوية وأثارها الأخروية

 

تحديات المرحلة الدنيوية وأثارها الأخروية

إعداد: الشيخ إبراهيم نايف السباعي

 

أمام الإنسان سبعة مواقف أو حواجز صعبة، عليه أن يجتازها كي يتمكن من العبور ، بلا خوف ولا حزن إلى عيشٍ رغيدٍ وحياةٍ هنيئةٍ آمنةٍ مطمئنةٍ، وتتوزع المواقف على أربعة منها في الدنيا، وثلاثة منها في الآخرة.

  1. التحدي الأول: الشيطان الرجيم، يعتبر إبليس بالنسبة للإنسان أول التحديات وأصعبها وهو العدو الأول له، قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير} فاطر/6، وغرض الشيطان إيقاع الإنسان في المعصية، لأن فيها الجرأة على الله عزَّ وجلَّ، وتعتبر هدف إبليس الأول والاخير، استمهل المولى تعالى أن ينظره إلى يوم يبعثون من أجل أن يحرف الإنسان عن الصراط المستقيم، قال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}النور/21 ويوقعه في براثنه، فيصبح مطيعاً للشيطان ويخرج عن عهدة الرحمن وذلك بالمعصية.

وتأتي المعصية من خلال وساوس الشيطان، وكل ما يقوم به من خطوات تصب جميعها في النهاية في المعصية، عندما نتبع خطوات الشيطان ونسمع ونطيع وساوسه، نقع في الذنب ونرتكب الآثام وكل ذلك يجلب لنا غضب الرحمن.

ولقد حذرنا الله تعالى من خطوات الشيطان، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}النور/21، وأكثر ما تأتي خطواته عن طريق الوسوسة قال تعالى: {الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس}الناس/5و6.

إن فتنة الشيطان تبقى ملازمة بالإنسان من بداية البلوغ والتكليف وحتى الممات؛ لأن الشيطان قد خبُرا الإنسان، وعرفه حق المعرفة، وأدرك كل نقاط ضعفه حتى بات مكشوفاً لديه، ولكي نبقى حذرين منتبهين من شباك  وأفخاخ إبليس وجنوده، قال لنا تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ}الحديد/20، فللشيطان أساليب في إضلال الناس، وطرق حرفها عن الصراط المستقيم لا تخطر على بال أحد، قال تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ..}النساء/119، أما لماذا هذا الكره والحقد من إبليس لولد آدم؟

الجواب: قطع إبليس على نفسه، وتوعد على أن لا يترك الإنسان حتى يوصله إلى المعصية، والتي هي بالتالي تغضب الرحمن، فيصبح من أهل النار؛ انتقاماً لنفسه حين أُخرج من الجنة بسبب عدم السجود لآدم، وسوف يفتش الشيطان عن كل ما يمكن أن يوقع الإنسان في معصية الله عزَّ وجلَّ، وواحد من تلك الأساليب أن يوسوس لولد آدم كل يوم وكل ساعة وكل لحظة، بلا كلل ولا ملل إلى أن يتغلب عليه، ويسقط الإنسان في براثنه وبالتالي هي المعصية، إما بارتكاب المحرمات وإما بترك الواجبات والتهاون بها.

 

بعضٌ من حبائل الشيطان

نرى الشيطان يأتي إلينا من كل صوب وجهة، كما ورد في القرآن الكريم: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}الأعراف/17، وهذا واحد من تلك الأساليب؛ وهي: أن يأتي من كل الجهات ويبذل الجهد، ويبدل أشكال المعصية والطرق إليها، ويغيرها ويزينها ويلونها، هذا كله بلا تعب أو ملل ولا يأس أو قنوط من أجل الوصول إلى ما يسعى من أجله؛ وهو إيقاع الإنسان في المعصية، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}الحجر/39، وهذا طريق آخر يتبعه الشيطان ليحرف الإنسان، وهو التزيين وإظهار المعصية بمظهر الجمال والحلاوة وهو ما يُعبر عنه بالغواية، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}الحجر/39

إذا عُرف السبب بطل العجب

المواجهة سهلة عندما يتعرف الإنسان على حقيقة الدنيا، ويعرف إبليس على حقيقته، ويتعرف على أساليبه وطرقه ونواياه، عندها سوف ينهار هذا الجدار الوهمي من أمام الإنسان، صحيحٌ أن المعصية ذنب وخطيئة عظيمة، وليس على الإنسان أن يقع فيها، لكن قد تضعف إرادة الإنسان وينهار أمام المغريات، فيقع في المحذور وهي المعصية، إلا أن الأمل كبير بالاستغفار وبالتوبة والعودة إلى الله تعالى.

 

التوبة والاستغفار

تُذلل هذه العقبة وتمحو المعاصي بالتوبة والاستغفار، والاستغفار والتوبة يعتبران ترياقاً للمعصية ومن أهم الأدوية للذنب، فعلاج المعاصي التوبة والاستغفار، قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}الفرقان/70، وقال أيضاً: {قُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا}نوح/10، وورد أمير المؤمنين علي عليه السلام: عجبت لمن يقنط من رحمة الله وبيده الممحاة، قيل له وماهي الممحاة؟؟ قال: الاستغفار. كتاب بحار الأنوار ج 9 ص 283، استبدل مكان الممحاة بالمنجاة

وورد عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام قال: من عمل سيئة أُجّل فيها سبع ساعات من النهار.. كتاب أصول الكافي ج 2 ص 318/5

وأصدق مثال على قبول التوبة بالاستغفار، ورفع العذاب وآثار المعصية ما جرى لقوم يونس عليه السلام، حيث كاد العذاب إن ينزل عليهم لولا أنهم استغفروا الله، وتابوا إليه توبة نصوحة، فقبلها منهم تعالى فكشف العذاب عنهم بذلك، قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ}يونس/98

نعم، هذا من سنن الله تعالى في عباده، قال تعالى: {.. وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}الانفال/33

  1. التحدي الثاني: هو السيطرة على القوى الموجودة عند الإنسان والنفس التي يمتلكها، قد وهب الله الإنسان قوى؛ لتعينه في حياته الدنيا وليقتدر بها على اجتياز الامتحان والاختبار، ويستعين بها على تجاوز خطوات الشيطان، ولتقف حائلاً ومانعاً من تسلل النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة إلى أفكارنا وأفئدتنا؛ وكي لا نخيب أو نهوي في غياهب الفسق والانحراف والفساد والضلالة، وفي الوقت نفسه تكون هذه الحواس عوناً لنا على الشيطان، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}الإنسان/2، وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} الشمس/7 ـ 9

ولكنها قدد تكون عقبة وعائقاً أمام بلوغ المُنى ورضا الله تعالى، فالحواس الخمس ـ القوى ـ من البصر والسمع واللسان والأنف واللمس؛ كل هذه إن لم يحسن الانسان استعمالها كانت وبالاً عليه؛ لأن أكثر من يحاسب ويعاتب أو يعاقب ويدخل النار يوم القيامة؛ إنما بسبب هذه الحواس إضافة إلى النفس الأمارة بالسوء، ومما تفرزه لنا من الكذب والغيبة والنميمة والبهتان، والتجسس وسوء الظن و..

روى أبو ذر، عن النبي صلى الله عليه وآله - في وصية له - قال: يا أبا ذر من ملك ما بين فخذيه وما بين لحييه دخل الجنة، قلت: وإنّا لنؤاخذ بما تنطق به ألسنتنا؟ فقال: وهل يُكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم، إنك لا تزال سالماً ما سكت فإذا تكلمت كتب لك أو عليك.

يا أبا ذر، إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عزَّ وجلَّ، فيكتب بها رضوانه يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها، فيهوى في جهنم ما بين السماء والأرض.

يا أبا ذر، ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له، ويل له، ويل له.

يا أبا ذر من صمت نجا، فعليك بالصمت، ولا تخرجن من فيك كذبة أبداً، قلت: يا رسول الله فما توبة الرجل الذي يكذب متعمداً؟ قال: الاستغفار والصلوات الخمس تغسل ذلك. كتاب بحار الأنوار ج 74 ص 88

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو كان على باب دار أحدكم نهر، فاغتسل في كل يوم منه خمس مرات، أكان يبقى في جسده من الدرن شيء؟ قلنا: لا، قال: فإن مثل الصلاة كمثل النهر الجاري، كلما صلي صلاة كفرت ما بينهما من الذنوب. كتاب التهذيب ج 2 ص 237عن أبي بصير

وعلاجه الاخلاق الحميدة الحسنة، وأفرادها ومصاديقها كثيرة؛ من العفو والصفح والتسامح ومساعدة الآخرين بالمال والطعام والشراب وحتى الكلمة الطيبة.

والأخلاق هي محاكاتنا للناس ومعاملاتنا معهم أفعالاً وسلوكاً، لأن بالخُلق الحسن نفوز عند الله تعالى وعند الناس، وبالخُلق السيئ تبتعد عنا الناس في الدنيا ونسقط في حساب الآخرة، فلا عجب من قول النبي صلى الله عليه وآله: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. كتاب بحار الأنوار ج 68 ص 382

انطلق النبي صلى الله عليه وآله في حركته الاصلاحية في المجتمع العربي آنذاك من خلال طريقين؛ حيث وجد الإنسان منحرفاً عن فطرته وإنسانيته، ووجد المجتمع قد أنحط إلى أدنى مستوياته، وكأن الشيطان قد خيّم على عقله، وزين له القبائح وأبعده عن فطرته وطبيعته.

النحو الأول: كان على النبي صلى الله عليه وآله اصلاح الإنسان، وأن يرفع عنه ما ختمه الشيطان على قلبه، فقام بإصلاح داخل الإنسان وهو الفؤاد ـ القلب ـ وهذا العمل كفيل بعودة الإنسان المحمودة إلى طبيعته وفطرته، فرسم له صلى الله عليه وآله خطة عمل، خلاصتها برنامج عبادي عشري مؤلف من: صلاة وصوم وحج وزكاة وخمس وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وتولّي أولياء الله والتبري من أعدائهم.

كان هذا كفيلاً بإيصال الإنسان إلى أرقى درجات الخلق، وأتم  الدرجات العُلى التي رسمها الله تعالى للإنسان، لكن بشرط التطبيق والالتزام به بدقة، وأي نقص فيه سينعكس عليه سلوكاً وبالتالي سيؤثر على النتيجة، فينال درجة أقل وأدنى، وقد ورد في الحديث القدسي: عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون. كتاب إرشاد القلوب، وكتاب عدة الداعي

النحو الثاني: صناعة مجتمع وبيئة صالحة يسودها الأمن والأمان، وتتحمل إمكانية تطبيق النحو الديني، وهذا يتكفل به برنامج إصلاحي اجتماعي اخلاقي، يبدأ من الفرد ليصل إلى كل أفراد المجتمع، لقد لخّص سبحانه وتعالى كل ذلك بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}النساء/36

كان هذا برنامجاً ربانياً يعطي النتيجة المطلوبة بشرط تطبيقه من قبل الأفراد، فيتكوّن مجتمع ذو بيئة صالحة آمنة مطمئنة، يحيط بها الرغد من كل مكان وتسود فيه الأمن والأمان، وما من مجتمع مفكك ومنقسم على نفسه متباعد عن بعضه البعض إلا بسبب البعد عن الله تعالى والقيم والاخلاق التي أمرنا بالالتزام بها.

إذن الخُلق الحسن؛ هو السبيل الوحيد والعلاج الناجح، لمن أراد أن يسلك درب السعادة والوصول إلى الله تعالى، فقد فاز هابيل برضا الرحمان وانتصر على قابيل، عندما سلك درب الخير والتجارة مع الله تعالى، وقال لقابيل: {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}المائدة/28

فالأخلاق الحميدة هي أفضل سفينة يمكن ركوبها للنجاة من إغراءات الدنيا، والعيش مع السعداء في الدنيا والآخرة.

  1. التحدي الثالث: مخالطتنا للناس إن مخالطتنا للناس كالسيف ذي حديّن، قد نستقي منها الكثير من الحسنات والثواب والدرجات العُلى في الدنيا والآخرة، وقد نكسب منها السيئات والسمعة السيئة والعقاب في الدنيا والآخرة وأسفل دركات جهنم.

ومخالطة الناس؛ تعني الآباء والأمهات ومن علا، والأولاد من أبناء وبنات وإن نزلوا، والأقرباء من أعمام وأخوال وعمات وخالات و..، والأصدقاء والأصحاب والجيران منهم الملاصق لك ومنهم البعيد.

فالعلاقات مع هؤلاء طويلة ودقيقة، فأي غلطة منك مع الآباء أو الأمهات توقعك في العقوق، والعقوق كما في الحديث يقطع الرزق ويقصر العمر، بل وأوعد فاعلها بجهنم، وأما مع الأقرباء فأدنى خطأ يوقع مرتكبها في قطيعة الرحم؛ وهو لا يقل سوءً من العقوق، فإنه يقصر في الرزق والعمر، وكذلك وعد مرتكبيها بالنار، وهكذا البقية من أصدقاء وأصحاب وجيران.

 

الأدب أدب الله تعالى

إن الله تعالى قد أعطانا دروساً في التأدب الأخلاقي الاجتماعي، وبالعلاقات التي تقربنا منه ُزلفى، وتبعدنا عن حبائل الشيطان، وتجعلنا في مجالس الأنبياء والمرسلين والدرجات العُلى في جنة النعيم.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ}البقر/83، فكانت آية بينة وخريطة واضحة جلية، إذا سلكناها وطبقناها أعطتنا راحة البال، حيث ورد فيها أن التوحيد هي الهوية الأساس، والشرك يبعد عن الله تعالى، وهو خط أحمر لا يصح منا التقرب منه، وبر الوالدين جُعل فيهما الحب والرضا والرحمة والعطف والرزق والبركة من الله تعالى، ووصل ذي القربى ـ صلة الأرحام ـ تحمل معها العفو والغفران والرزق الحلال والبركات من السماء، فعليك وصل الرحم وذوي  القربى.

علينا بالبر بالوالدين وصلة الرحم بذي القربى مهما بلغت التضحيات، إلا أن يؤدي ذلك إلى ضرر أو حرج شديدين، وقد أوصى الله تعالى في قرآنه بهما، حيث قال: {قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}البقر/215، وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ}البقر/180، وقد حثّ النبي صلى الله عليه وآله أصحابه على صنع المعروف وعمل الخير معهما.

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، وما رواه جابِر عن النبي صلى الله عليه وآله في وصية رجل مِنْ بَنِي عُذْرَةَ أعتق عَبْدًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ ـ أي دُبُرَ وفاته ـ قال: ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا، قال: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ. كتاب صحيح الجامع الرقم:28

وأضاف تعالى في الآية "اليتامى والمساكين"؛ فتصبح عناصر خمسة علينا الالتزام والتنبه إليها، إذا أردنا العيش بحسنَ الحال وبراحة البال، علينا التقيد بتلك القواعد: فالعطف والتحنن على يتامى الناس، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله: (يُتحنن على ايتامكم)، وكذلك مُجلبة للرزق وتيسير الأمور الدنيوية وفي الآخرة نعيم مقيم، وأما التصدق على المساكين فيه تحل عقد المكاره وتدفع عنك عشرات ميتات السوء، وتدفع البلاء وترفع القضاء المحتوم.

فراحة بالك وبحبوحة عيشك في النصيحة الربانية التي رسمها الله تعالى لنا، وغير ذلك لن يوصلك إلا إلى العيش الضنك الصعب.

وباقي الآية يختص بأحكام العِشْرة، وتتلخص في الحواس الخمسة "وقولوا للناس حسناً".

 

ميزان الله تعالى في معاشرة الناس

جاء في الأمثال كما ويحكى عن المثل الصيني:

إذا أردت أن تزرع لسنة واخدة فأزرع قمحاً

وإذا أردت أن تزرع لعشر سنوات فازرع شجرة

وإذا أردت أن تزرع لمئة سنة فازرع إنساناً

نعم، قمة السعادة عندما ترى سنابل ما زرعت من قمح، ولذة ما تراه من ثمار مما زرته من شجر، ونتيجة ما تراه من هدي من هديت من بشر، إنها سعادة كبيرة لا توصف ولا تقدر بثمن، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: لئن يهدي الله بك رجلاً خير ممن طلعت عليه الشمس. فروع الكافي ج 5 ص 28

إن نجاح أي عمل يعود فيها إلى التطبيق الآمن لها والالتزام بها، لأن العلاقات مع الآخرين تعطينا هرمون السعادة وهو ضالة الإنسان ومطلب الجميع.

يكفينا تأثيراً لتلك القواعد بالإيجابية، أنها تؤثر حتى على غير المتدين إسلامياً، فكلنا قرأ قصة النبي صلى الله عليه وآله مع ذلك اليهودي، الذي كان يرمي الأوساخ والشوك في طريق النبي صلى الله عليه وآله وعلى بابه، كيف اسلم وآمن وصدق بالله عزَّ وجلَّ والنبي صلى الله عليه وآله. كتاب مسند بن حنبل ج 3 ص 175

ولا يخفى علينا كيف أن المعاشرة بالحسنى سبب من أسباب القوة والتماسك، وتوجد مناعة حيوية في المجتمع، بينما الاختلاف والتباعد والتفرق عوامل ماحقة هالكة، وأهم سبب من أسباب الضعف والوهن في مجتمعاتنا.

بيّن أمير المؤمنين عليه السلام مجموعة قضايا لنا، يمكن جعلها أسساً مهمة لميزان الله في معاشرة الناس والتعامل فيما بينهم، فقال عليه السلام:

يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ. وَاعْلَمْ، أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَة الْأَلْبَابِ، فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ. كتاب نهج البلاغة ج 3 ص 43

  1. التحدي الرابع: حسن الخاتمة وسوء الخاتمة، معنى حُسن الخاتمة؛ هو أن يُوفَّق العبد قبل دُنوِّ أجله؛ للابتعاد عمّا يُغضِب الله سبحانه وتعالى، والتوبة إليه من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات، والقيام بأعمال الخير، ثمّ يكون موته على هذه الحالة الحسنة، قال تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا}مريم/60

 

أما سوء الخاتمة؛ فهي أن يقوم الإنسان في الدنيا بأعمال الخير، ويجاهد في سبيل الله، ويقضي حوائج الناس، ويساعد الفقراء والمساكين، ويدفع الصدقات ولا يترك شيئاً من أعمال الخير إلا ويفعله، لكنه في النهاية يضلُّ وينحرف ويموت كافراً أو فاسقاً، فهذه سوء الخاتمة التي ندعو الله أن لا تكون خاتمة حياتنا بها؛ لأن فيها النهاية التعيسة، وهذا الضلال والخسران المبين، ضرب الله مثلاً عن هذا المصداق، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا}.الكهف/103 ـ 106

 

أسباب سوء الخاتمة

لسوء الخاتمة أسباب أهمّها: الانحراف عن العقيدة التوحيدية الصحيحة السليمة، واتّباع سبيل الانحراف والضلال، والزيغ عن الحقّ بعد الهداية والإيمان، وقد حصل لعدد من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله، منهم: عبيد الله بن جحش من بني شمس ممن هاجر إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب عليه السلام، وقد صار نصرانياً في الحبشة ومات على ذلك، الاصابة ابن حجر ج1 ص 158 قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَقاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.النور/39

 

أسباب الاحباط في العمل:  

 كثيرة هي الأعمال التي تحبط العمل وتذهب بحسناته، منها: كثرة الذنوب التي يرتكبها العبد، وكثرة ورودها على القلب حتّى تطغى عليه كلّه، فتصبح كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ}المطففين/14، ومن الأمراض التي تُفسد العمل والقلب معاً: الرِّياء، والغُرور، والغِشّ، والخِداع، والنفاق، وغيرها الكثير، وتأجيل التّوبة؛ والإغترار بطول الأمل.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}محمد/34، دعوة صريحة من الله تعالى لكل مؤمن، أن لا يبطل أعماله الإيمانية بالشرك والرياء والمنِّ وغيرها، فيختم حياته بها فتكون سوء خاتمة وعاقبة سيئة. بل عليه بتكفير الذنوب، ومحوها أو إسقاط عقوباتها وذلك بالحسنات، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}هود/114، ووردت في القرآن آيات كثيرة وفي السنة أحاديث عديدة، تذكر أسباباً لذلك فمنها: الإيمان، والأعمال الصالحة، والتوبة، والصدقة سرّا.

 

الاحباط يرفع العمل

ومما يوجب إحباط أعمال الإنسان ورفع ثواب أعماله، أيضاً:

1 - المن والأذى، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر}.البقر/264

فهذان عاملان لبطلان العمل: أحدهما المن والأذى، والآخر الرياء والكفر، فالأول يأتي بعد العمل غالباً، والثاني قرينه، وهما كالأسيد يذيبان الثواب وأعمال الخير، وكالنار يحرقان الأعمال الصالحة.

2- العجب، عمل في إحباط آثار العمل، ورد في الخبر: "العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". كتاب جامع أحاديث الشيعة ج 13 ص 551

3 - الحسد، ورد فيه عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، أنه قال: إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

وكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فإن السيئات تمحو كل الحسنات أحياناً.

4 - المحافظة على الإيمان إلى آخر لحظات العمر، وهذا أهم شرط لبقاء آثار العمل، لأن القرآن يقول بصراحة: {ولقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}.الزمر/65

إذن: لتجنّب سوء الخاتمة ونيل حسن الخاتمة، فإن من المسائل الأساسية التي أكدت آيات القرآن المختلفة، ومنها: هذه الآية أن يَحذر المؤمنون من أن تحبط أعمالهم كالكفار.

فإن نفس العمل شيء، والحفاظ عليه شيء أهم، فإن العمل الصالح السالم المفيد، هو العمل الذي يكون منذ البداية سالماً من العيوب، وأن يحافظ عليه من الخلل والعيب حتى نهاية العمر.

ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: الإبقاء على العمل أشد من العمل، قال - أي الراوي -: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة، وينفق نفقة لله وحده لا شريك له فتكتب له سراً، ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياء. تفسير الأمثل في شرح الآية بتصرف

من هنا نعرف مدى أهمية المحافظة على عقيدتنا التوحيدية وعلى إيماننا، وما أتينا به من أعمال خير، عن رسول الله صلى الله عليه وآله: ..إِنِّي تَارِك فِيكمْ أَمْرَينِ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا: كتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَهْلَ بَيتِي عِتْرَتِي أَيهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَقَدْ بَلَّغْتُ إِنَّكمْ سَتَرِدُونَ عَلَيّ الْحَوْضَ فَأَسْأَلُكمْ عَمَّا فَعَلْتُمْ فِي الثَّقَلَينِ، وَالثَّقَلَانِ كتَابُ اللَّهِ جَلَّ ذِكرُهُ وَأَهْلُ بَيتِي‏.. أصول الكافي ج 1 ص 294


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=971
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 02 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28