• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : سورة الانفال .... نظرة إجمالية موضوعية (1) .
                          • رقم العدد : العدد التاسع والعشرون .

سورة الانفال .... نظرة إجمالية موضوعية (1)

 سورة الانفال .... نظرة إجمالية موضوعية (1)

 

إعداد الشيخ سمير رحال

وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ من حيث الترتيب في المصحف،. وَعَدَدُ آيَاتِهَا 75 آيَةً

سميت السورة بـ "الأنفال" لورود هذه الكلمة في بدايتها، كمحور لسؤال وجّهه المسلمون إلى الرسول حولها لاختلاف آرائهم في شأنها.

فضل السورة

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من قرأ سورة الأنفال وبراءة فانا شفيع له وشاهد يوم القيامة انه بريء من النفاق واعطي من الاجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان العرش وحملته يصلون عليه ايام حياته في الدنيا"([1])

وعن الامام الباقر عليه السلام قال: "في سورة الأنفال جدع الأنوف"([2])

 

ترتيب  السورة في المصحف الشريف

 (وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ فِي الْعَدَدِ، وَوُضِعَتْ مَوْضِعَ السَّابِعَةِ مِنَ السَّبْعِ الطِّوَالِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْمَثَانِي، وَهِيَ دُونَ الْمِئِينَ الَّتِي تَلِي الطِّوَالَ، وَعَدَدُ آيَاتِهَا 75 آيَةً)

وقد تقدمتها سورة «الفاتحة»، وهى مكية، وجاء بعد الفاتحة أربع سور مدنية متتالية، هنّ أطول السور المدنية في القرآن الكريم: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة. ثم تلت هذه الأربع سورتان مكيتان، هما أطول السور المكية في القرآن: الأنعام، والأعراف، ثم جاءت سورتان هي: "الأنفال" وتلتها سورة التوبة وهما مدنيتان.

وَذَكَرَ السَّيُوطِيُّ أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ السُّورَةِ هُنَا لَيْسَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ كَمَا هُوَ الْمُرَجَّحُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، بَلْ بِاجْتِهَادٍ مِنْ عُثْمَانَ...

فقد روي ان ابن عباس قَالَ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا الْبَسْمَلَةَ بَيْنَهُمَا وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ؟ ثُمَّ ذَكَرَ جَوَابَ عُثْمَانَ.. وهُوَ كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ، وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ "كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا مَنْ كَانَ يَكْتُبُ يَقُولُ: ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا. وَكَانَتِ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا. فَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ".

وَلِأَجْلِ الرِّوَايَةِ ذَهَبَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى أَنَّ تَرْتِيبَ جَمِيعِ السُّوَرِ تَوْقِيفِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَوَافَقَهُ السَّيُوطِيُّ.

وَرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يُرَتِّبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ السُّوَرِ إِلَّا الْأَنْفَالَ وَبَرَاءَةَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتْلُو الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَمَضَانَ عَلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ كُلِّ عَامٍ فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ عَارَضَهُ بِالْقُرْآنِ مَرَّتَيْنِ، فَأَيْنَ كَانَ يَضَعُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ فِي قِرَاءَتِهِ؟

 وان التَّحْقِيقُ أَنَّ وَضْعَهُمَا فِي مَوْضِعِهِمَا تَوْقِيفِيٌّ وَإِنْ فَاتَ عُثْمَانَ أَوْ نَسِيَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَارَضَهُ الْجُمْهُورُ أَوْ نَاقَشُوهُ فِيهِ عِنْدَ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ جَمْعِهِ وَنَشْرِهِ فِي الْأَقْطَارِ.

وَاما الْحَدِيثُ المروي عن ابن عباس فقد قَالَ عنه التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ أَبِي جَمِيلَةَ عَنْ يَزِيدَ الْفَارِسِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَزِيدُ الْفَارِسِيُّ هَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَسُئِلَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا بَأْسَ بِهِ انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ.
فَمِثْلُ هَذَا الرَّجُلِ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ رِوَايَتُهُ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مِمَّا يُؤْخَذُ بِهِ فِي تَرْتِيبِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ.

"وذُكِرَ السيوطي أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدَّمَ فِي مُصْحَفِهِ الْبَقَرَةَ وَالنِّسَاءَ وَآلَ عِمْرَانَ وَالْأَعْرَافَ وَالْأَنْعَامَ وَالْمَائِدَةَ وَيُونُسَ، رَاعَى السَّبْعَ الطِّوَالَ فَقَدَّمَ الْأَطْوَلَ مِنْهَا فَالْأَطْوَلَ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمِئِينَ، فَقَدَّمَ بَرَاءَةَ ثُمَّ النَّحْلَ ثُمَّ هُودًا ثُمَّ يُوسُفَ ثُمَّ الْكَهْفَ وَهَكَذَا الْأَطْوَلُ فَالْأَطْوَلُ، وَجَعَلَ الْأَنْفَالَ بَعْدَ النُّورِ.... ثم بيّن وجه هذا الترتيب اجتهاداً من عنده.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ السَّبْعَ الطِّوَالَ أَوَّلُهَا الْبَقَرَةُ وَآخِرُهَا بَرَاءَةُ

وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ السَّابِعَةَ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُمَا سُورَةٌ وَاحِدَةٌ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الفيروز آبادي فِي قَامُوسِهِ، فَقَدْ أَخْرَجَ النَّحَّاسُ فِي نَاسِخِهِ عَنْ عُثْمَانُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتِ الْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ يُدْعَيَانِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَرِينَتَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ جَعَلْتُهُمَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ.

 

سُورَةُ الْأَنْفَالِ مَدَنِيَّةٌ 

والسُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ تَكْثُرُ فِيهَا قَوَاعِدُ الشَّرْعِ التَّفْصِيلِيَّةُ، وَأَحْكَامُ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةُ، بَدَلًا مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ الْمُجْمَلَةِ كَمَا تَكْثُرُ فِي بَعْضِهَا مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَانُ مَا ضَلُّوا فِيهِ عَنْ هِدَايَةِ كُتُبِهِمْ وَرُسُلِهِمْ، وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِخَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَفِي بَعْضِهَا بَيَانُ ضَلَالَةِ الْمُنَافِقِينَ وَمَفَاسِدِهِمْ.

ويكثر في هَذِهِ السُّورَةِ (سُورَةِ الْأَنْفَالِ). وسُورَةُ التَّوْبَةِ أَحْكَامُ الْقِتَالِ مع تأخّر وقت نزول الاخيرة (نزلت سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة، وسُورَةِ الْأَنْفَالِ نزلت في السنة الثانية بعد بدر)

كما تكثر قواعد التعامل مع المعسكرات المتنوعة في السلم والحرب؛ ونظرة الإسلام إلى العهود والمواثيق في شتى الأحوال.

استثناء آيات من مدنيّة السورة

وَرُوِيَ اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا}([3]); لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا ائْتِمَارُ قُرَيْشٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله قُبَيْلَ الْهِجْرَةِ، بَلْ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله بِقَصْدِ الْهِجْرَةِ

فقالوا: إنّها نزلت فی قصة دار الندوة حيث اجتمعت فيها قريش للتآمر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وفشلت مؤامرتهم بهجرة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ومبيت علي عليه السلام على فراشه.([4])

لكن نزول الآية بشأن تلك القصة لا يستدعي نزولها حينذاک بل اسْتِنْبَاطٌ مِنَ الْمَعْنَى .

ونقل جلال الدين عن قتادة أنّه قال: نزلت الآية «وَإِذْ يَمْکُرُ بِکَ الَّذِينَ کَفَرُوا ...» بمکة.

ثم قال: ويردّه ما صحّ عن ابن عباس أنّ هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة([5])

وقد أخرجه فی اسباب النزول عن ابن عباس: أنّ الآية نزلت بعد مقدمه صلى اللّه عليه وآله المدينة([6]).

وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ اسْتِثْنَاءَ خَمْسِ آيَاتٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ أَيْ إِلَى الْآيَةِ 35، لأَنَّ مَوْضُوعَهَا حَالُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فِي مَكَّةَ.

وَهَذَا لَا يَقْتَضِي نُزُولَهَا فِي مَكَّةَ، فهي كالآية السابقة حكاية لأمر سابق، و لا دليل على نزولها حينذاك. بَلْ ذَكَّرَ اللهُ بِهَا رَسُولَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَكُلُّ مَا نَزَلَ بَعْدَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله مُهَاجِرًا فَهُوَ مَدَنِيٌّ.

كما ان  هناك كثيراً من الآيات المدنية تتحدث عن أمور كانت في مكة قبل الهجرة.

وفي هذه السورة نفسها آية: 26 قبل هذه الآيات تتحدث عن مثل هذا الشأن:

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ، فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ، وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}..

وقوله: {وَما كان اللَّهُ لِيعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يسْتَغْفِرُونَ}

أيضاً حكاية عن ماض وإخبار عن حال، أي لم يعذّبهم اللّه فيما قبل، بسبب وجودک بين أظهرهم ولا يعذّبهم الآن- بعد خروجک- لوجود جماعة من المؤمنين لم يستطيعوا الخروج وهم على عزم الهجرة، فرفع اللّه العذاب عن مشركي مكة لحرمة استغفار هؤلاء المؤمنين الباقين بين أظهرهم([7]).

واستثني أيضاً قوله: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُك اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}([8])

وصحّح هذا الاستثناء ابن العربي وغيره وذلک لما روي عن عمر بن الخطاب، قال: أسلمت رابع أربعين فنزلت {يا أَيُّهَا النَّبيُ حَسْبُك اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَك مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.

 وهكذا روى عن ابن عباس([9]) ويعارضه ما روي عن الكلبي، قال: نزلت هذه الآية بالبيداء في غزوة بدر([10])

 وقال الواقدی: نزلت بالمدينة فی بني قريظة وبني النضير([11]) قال في التمهيد:

... وسياق الآية يشهد بمدنيتها، نزلت فی إبان تشريع القتال، سواء أ مع المشركين أم مع أهل الكتاب. فالآية يسبقها قوله تعالى: {الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ ينْقُضُونَ عَهْدَهُمْ ...} {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ...}.

{وَلا يحْسَبَنَّ الَّذِينَ کَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يعْجِزُونَ}. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيلِ ...} {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ...}. {وَإِنْ يرِيدُوا أَنْ يخْدَعُوك فَإِنَّ حَسْبَك اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَك بِنَصْرِهِ ...}([12])

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ ...}.

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ ...}([13])

انظر الى هذا السياق المنسجم بعضه مع بعض انسجاماً يجعلنا علی ثقة من وحدة مترابطة نزلت جملة واحدة([14])

.      آيات ادّعي نسخها في السورة

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}(‏[15]).

قال جماعة من المفسّرين أنها نسخت بآية {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إلخ}(‏[16])

وقال الطبريّ وأصحابنا ليست منسوخة وهو الحقّ لعدم المنافاة بينها و بين آية الخمس للمغايرة بين الموضوعين.

 ادعى البعض النسخ في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار}(15) {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}(16).
وإن الحكم الوارد فيهما منسوخ بقوله تعالى: {ألان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}([17]).
فإن المسلمين إذا قل عددهم عن نصف عدد الكفار جاز لهم ترك القتال، والفرار من الزحف. ومن القائلين بهذا القول: عطاء بن أبي رياح([18])


والجواب عن ذلك:
أن تقييد إطلاق هذه الآية بآية التخفيف المذكورة مؤكد لبقاء حكمها ومعنى ذلك: أن الفرار من الزحف محرم في الشريعة الاسلامية إذا لم يكن عدد المسلمين أقل من نصف عدد الكفار، وأما إذا كان المسلمون أقل عددا من ذلك فلا يحرم عليهم الفرار، وهذا ليس من النسخ في شيء.      


- وايضاً: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها}([19])  .

فقد دلت الآية على الأمر بقبول عقد الصلح والمهادنة أو المسالمة إن مال إليه العدو، وعلى الأمر بالتوكل على اللّه، أي تفويض الأمر فيما عقد من صلح إلى اللّه، ليكون عوناً على السلامة، والنصر عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء.  

وقد أثير خلاف حول هذه الآية، هل هي منسوخة أو لا؟

قيل أنها منسوخة بآية السيف.

قال قتادة وعكرمة: نسخها {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}([20])

وقوله: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً}([21])

 وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه.

وقال ابن عباس الناسخ لها: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ}([22])

ونقل عن ابن عباس وجماعة آخرين من التابعين: أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}([23])

 وفيه نظر، كما ذكر ابن كثير لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفاً، فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص([24]).

وقال جماعة: ليست بمنسوخة، لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان فيه المصلحة

 وقد صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها، فنقض صلحهم.

 قال ابن العربي: إذا كان للمسلمين قوة وعزة ومنعة فلا صلح، وإن كان لهم مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه فلا بأس بالصلح([25]).

وقد نقلت عن ابن كثير ترجيحه أن الآية غير منسوخة وغير مخصصة، ولا منافاة بينها وبين أوامر القتال، فهذه الأوامر عند الاستطاعة، والصلح عند العجز وقوة العدو وعدم التكافؤ بين قوتنا وقوته.

وكذلك قال الجصاص: قد كان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافاً من المشركين منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة، وعاهد قبائل من المشركين، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة حلفاء النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم، ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك، وذلك قبل أن يكثر المسلمون.

فلما كثر المسلمون لم يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ويقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية} بقوله تعالى: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها حكم ثابت أيضاً.

وعقد الصلح جائز غير لازم للمسلمين باتفاق العلماء، فيجوز نبذه إذا ظهرت أمارات الخيانة والنقض والغدر.


قال الإمام الخوئي (ره) والحق: أنها محكمة غير منسوخة، والدليل على ذلك:
أولاً: إن آية السيف خاصة بالمشركين دون غيرهم ومن هنا صالح النبي صلى الله عليه وآله نصارى نجران في السنة العاشرة من الهجرة مع أن سورة براءة نزلت في السنة التاسعة، وعليه فتكون آية السيف مخصصة لعموم الحكم في الآية الكريمة، وليست ناسخة لها.
ثانياً: أن وجوب قتال المشركين، وعدم مسالمتهم مقيد بما إذا كان للمسلمين قوة واستعداد للمقاتلة وأما إذا لم تكن لهم قوة تمكنهم من الاستظهار على عدوهم فلا مانع من المسألة كما فعل النبي صلى الله عليه وآله ذلك مع قريش يوم الحديبية.

 وقد دل على التقييد قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم}([26])([27]).
 وايضاً في قوله تعالى: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون}([28]).

 {ألان خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين}([29]).
فقد ذكروا أن حكم الآية الاولى قد نسخ بالآية الثانية، وإن الواجب في أول الامر على المسلمين أن يقاتلوا الكفار، ولو كانوا عشرة أضعافهم ثم خفف الله عن المسلمين فجعل وجوب القتال مشروطا بأن لا يزيد الكفار على ضعف عدد المسلمين.


 قال الإمام الخوئي (ره) والحق: أنه لا نسخ في حكم الآية

 فإن القول بالنسخ يتوقف على إثبات الفصل بين الآيتين نزولاً، وإثبات أن الآية الثانية نزلت بعد مجيء زمان العمل بالآية الاولى، وذلك لئلا يلزم النسخ قبل حضور وقت الحاجة ومعنى ذلك: أن يكون التشريع الاول لغواً، ولا يستطيع القائل بالنسخ إثبات ذلك إلا أن يتمسك بخبر الواحد، "والنسخ لا يثبت به إجماعاً"

 أضف إلى ذلك أن سياق الآيتين أصدق شاهد على أنهما نزلتا مرة واحدة.
ونتيجة ذلك: أن حكم مقاتلة العشرين للمائتين استحبابي، ومع ذلك كيف يمكن دعوى النسخ على أن لازم كلام القائل بالنسخ: ان المجاهدين في بدء أمر الاسلام كانوا أربط جأشا، وأشد شكيمة من المجاهدين بعد ظهور الاسلام، وقوته وكثرة أنصاره، وكيف يمكن القول بأن الضعف طرا على المؤمنين بعد قوتهم! !
والظاهر أن مدلول الآيتين هو تحريض المؤمنين على القتال، وان الله يعدهم بالنصر على أعدائهم، ولو كانت الاعداء عشرة أضعاف المسلمين، إلا أنه تعالى لعلمه بضعف قلوب غالب المؤمنين، وعدم تحملهم هذه المقاومة الشديدة لم يوجب ذلك عليهم، ورخص لهم بترك المقاومة إذا زاد العدو على ضعفهم، تخفيفاً عنهم، ورأفة بهم، مع وعده تعالى إياهم بالنصر إذا ثبتت أقدامهم في إعلاء كلمة الاسلام .
وقد جعل وجوب المقاومة مشروطاً بأن لا يبلغ العدو أكثر من ضعف عدد المسلمين، فإن الكفار لجهلهم بالدين، وعدم ركونهم إلى الله تعالى في قتالهم لا يتحملون الشدائد، وإن عقيدة الايمان في الرجل المؤمن تحدوه إلى الثبات أمام الاخطار ..."([30]) .

 

موضوع السورة

وسورة الانفال نزلت بمناسبة غزوة بدر، ولذلك سماها بعض الصحابة «سورة بدر».

قال ابن إسحاق: "أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها" وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف العام من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، والظاهر أن نزولها استمر إلى ما بعد الانصراف من بدر.

فقد طلب الرسول الاكرم من المؤمنين أن يخرجوا لمصادرة عير لقريش وبعد أن خرجوا وجدوا العير قد مرت وفاتتهم وصار الأمر بين أن يرجع المؤمنون دون حرب، وإما أن يواجهوا النفير، وهو التعداد الكثير، وكانوا ألفاً ومعهم العُدّة والعتاد... فكانت المواجهة مع قريش فامكن الله المسلمين ومن عدوهم  وقتلوا من قتلوا واسروا من اسروا وغنموا الغنائم وكان رسول الله صلى الله عليه وآله اراد أن يشجع الفتيان على الحرب فقال لهم: "من قتل كافراً فله سلبه"، أي أنه خصّهم بأمر زائد عن سهمهم في الغنيمة. فلما علم الكبار من الصحابة والشيوخ، قالوا: يا رسول الله هم قاتلوا وقتلوا، لكن نحن كنا عند الرايات، يفيئون إلينا إن وقعت عليهم هزيمة فلا بد أن نتشارك، وحدث لغط وخلاف وقد أرشدتهم السورة إلى أن الشأن في توزيعها يرجع إلى الله ورسوله، {قل الأنفال لله والرسول}

فجاءت الآية الاولى في الانفال، والآية (41) في خمس الغنائم والآية (66) في حلية اكل الغنائم، وهذه الآيات الثلاث تشكل حكماً واحداً حيث يجب تقسيم الغنائم التي يحصل عليه المقاتلون، بعد اخراج خمسها لبيت المال، اما ما وراء الغنائم من الانفال، فهي لبيت المال.

ثم كان في السورة حديث طويل متنوع عن معركة بدر  لتتناول الأجواء التي سبقت الإعداد لها، والحالة النفسية التي كان يعيش المسلمون إزاءها، وفي حركة المعركة، وفي نهاياتها ونتائجها على مستوى أوضاع الأسرى والغنائم أو على مستوى الحالة الروحية التي عاشوها بعد ذلك.

والغرض ليس فقط هو سرد الاحداث المفصلية في بدر وانما اخذ مواقع العبرة ومعرفة اسباب قوة المسلمين وما ينبغي ان يكونوا عليه من قوة الايمان والارتباط بالله تعالى وصفات المؤمنين حقا وعوامل انتصارهم وان النصر من عند الله وان الامر كله لله.

فتحدثت عن الجهاد وعوامل هزيمة الكفار واسباب انتصار المسلمين في الآيات (15 /29) وان للنصر شروطا منها الثبات والطاعة وعدم النزاع ، والاستجابة لدعوة الرسول (ص)، وتجنب الفتنة، والتحرر من جاذبية الاهل والاموال والتقوى والبصيرة والصبر وعدم البطر، وان يكون الهدف هو مرضاة الله..

ثم كان الحديث عن مكر الكفار ودعاياتهم واعمالهم التي تتحدث عنها الآيات (30/35)

مثل محاولتهم قتل النبي (ص) او الكيد له كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}([31])

ومثل التحدي باستعجال العذاب، أو الصلاة عند البيت مكاء وتصدية او انفاق اموالهم التي من نتائجها تعبئة الكفار، لكي يكون القضاء عليهم مرة واحدة.

وكذا أفاضت السورة في الحديث عن اهمية الحرب والقتال ودوره في الحفاظ على المؤمنين واقتلاع جذور الفتنة وايصال الدعوة للناس اجمعين كما اكدت على السلم، إذا توفرت العناصر اللازمة لذلك وحكم الاسرى([32])

 ففي شأن الأسرى وفدائهم أو قتلهم «تقول» {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}([33])

كما بيّنت السبب الذى يبيح الحرب، والغاية التي تنتهى عندها وهي حريّة الدّين ومنع الفتنة في الدّين: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}([34]).

وأمرت بإعداد العدة ضمانا للسلم وإرهابا للأعداء {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ...}([35])

وقررت إيثار السلم على الحرب متى وجد السبيل إليه {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}([36])

وأمرت بالمحافظة على العهود وبإعلان النبذ عند إرادته. (آية 58)

كما أمرت بالثبات في الحرب، واقرأ في كل ذلك {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ}([37])

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([38])

وأخيراً بينت السورة أن المؤمنين مهاجريهم وأنصارهم بعضهم أولياء بعض والتّناصر بينهم واجب، والكافرون أمّة واحدة، ولا ولاية بين المؤمنين والكافرين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّه‏ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، .... وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ...}([39])

فهذا هو الجو الذى نزلت فيه سورة الأنفال وهذا هو مجمل ما تضمنته من مبادئ وإرشادات.

وفي خصوص معركة بدر فقد اشتملت السّورة على أمور:

بُدِئَتْ قِصَّةُ غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى بِذِكْرِ حُكْمِ الْغَنَائِمِ الَّتِي غَنِمَهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مَقْرُونًا بِبَيَانِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ كَمَا وَعَدَ النَّبِيِّينَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ حُكْمَ اللهِ وَقِسْمَةَ رَسُولِهِ فِي الْغَنَائِمِ.

ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِذِكْرِ أَوَّلِ الْقِصَّةِ، وَهُوَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْتِهِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَرَاهَةُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِخُرُوجِهِ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ مِنَ الْإِذْعَانِ لِطَاعَتِهِ ، وَالرِّضَاءِ بِمَا يَفْعَلُهُ بِأَمْرِ رَبِّهِ، وَمَا يَحْكُمُ أَوْ يَأْمُرُ بِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِمْ لِلْقِتَالِ، أَوْ لَهُ، وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ.

- ان الهدف من معركة بدر تحقيق النّصر الإلهي للمؤمنين، لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وبيان علّة ذلك الحكم كما في قوله تعالى:{... وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}([40])

- بيان احداث المعركة  وتحريم الفرار من القتال أمام العدو إلا في حالتين: التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة. الآيات 15_ 16

بيان النعم التي منّ اللّه بها في معركة بدر  مثل:

- النصر عند الاستغاثة، وذلك بإمدادهم بالملائكة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ .... }([41])

والإيحاء إلى الملائكة أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فانصروهم وثبتوهم.

- إلقاء النعاس أي النوم عليهم {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ...}([42]) اذ خاف المسلمون من المشركين لكثرتهم، فعالج خوفهم بالنوم، وما استيقظوا منه إلا وأنفسهم تغمرها السكينة.

- إنزال المطر من السماء لتحقيق الطهارة الحسية بالنظافة والوضوء والغسل من الجنابة، والطهارة المعنوية بإذهاب وساوس الشيطان. الآية 11

- الربط على القلوب أي تقويتها وإزالة الخوف والفزع عنهم. الآية 11

- تثبيت الأقدام على الرمال التي تلبدت بالمطر. الآية 11

- إلقاء الرعب والخوف في قلوب الكافرين. الآية 12

_ تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين وتقليل المشركين في أعين المؤمنين

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}([43])

والأمر بطاعة اللّه والرسول والتحذير من المخالفة:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}([44])

_وتحريم الخيانة {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ....}([45])

 _ والأمر بالتقوى

 _ والثبات أمام الأعداء، والصبر عند اللقاء، وذكر الله كثيراً. الآية 45

عدم التنازع والاختلاف حال القتال: {وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}([46]).

- ضرورة التّوكّل على اللّه بعد اتّخاذ الأسباب المطلوبة في كلّ شيء، وبخاصة الإعداد للقتال.

 

اهمية موقعة بدر:

لم تكن غزوة بدر الكبرى هي أولى حركات الجهاد فقد سبقتها عدة سرايا، لم يقع قتال إلا في واحدة منها، هي سرية عبد اللّه بن جحش في رجب على رأس سبعة عشر شهراً من هجرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله إلى المدينة ..([47])

ويوم بدر هو يوم الفرقان كما قال تعالى في توصيفها : {وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ([48]).
والفرقان هو الشيء الذي يفرق بين الحق والباطل؛ فرقاً واضحاً بشدة بحيث يكون ظاهراً للجميع.

فيوم بدر كان فرقاً بين حق وباطل؛ حيث كان المسلمون قلة والكفار كانوا كثرة، فقد خرجوا للاستيلاء على القافلة والعير وكان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً وليس معهم عدة أو عتاد، بل لم يكن لديهم إلا فرسان اثنان ، بينما استعد الكفار للحرب والقتال بالعدد والعتاد والفرسان، وأراد الحق تبارك وتعالى أن يواجه المسلمون وهم قلة جيشاً له شوكة أي له عدة وعتاد وأن ينتصروا، حتى يعلم الجميع أن هذه القلة المؤمنة انتصرت بلا عددٍ ولا عُدَّة على من يملكون العدد والعدة، وبذلك يظهر الفرق بين الإيمان والكفر  .

وفي ذلك اليوم (يوم بدر) ظهرت فيه الأدلة على صدق النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأنّه وعد المسلمين بالنصر قبل ذلك، مع أنّ القرائن في الظاهر لم تكن دالة على ذلك.

كما انّ معركة بدر: {يوم التقى الجمعان} كانت في الواقع إحدى النعم الإلهية الكبرى على المسلمين، لأن تلك المواجهة والنصر دفعا بهم خطوات كبيرة نحو الأمام، إذ بلغ صداهم و اشتهارهم بذلك أنحاء الجزيرة العربية، ودعا الجميع للتفكّر في هذا الدين الجديد وقدرته.

 

 

أضواء من السيرة على موقعة بدر وسير احداثها  وملابساتها

هاجر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم وصحبه الذين آمنوا به من مكة إلى المدينة، بسبب اشتداد أذى قريش لهم، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين في مكة.

فلما سمع رسول اللّه بأن قافلة لقريش محملة بالمؤن والأموال الكثيرة بزعامة أبي سفيان، قادمة من الشام، مع أربعين نفرا من قريش، انتدب المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها، لعلّ اللّه أن ينفّلكموها.  فخرج معه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، واتجهوا نحو ساحل البحر على طريق بدر.

وكان أبو سفيان قد بعث حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ، فعلم بخروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم في طلبه، فبعث إلى أهل مكة، يستنفرهم إلى أموالهم، ونجا بالعير والتجارة، وجاء النفير، فوردوا ماء بدر  فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم الناس بما حدث واستشارهم، فقام المقداد بن عمرو، فقال: يا رسول اللّه، امض لما أمرك اللّه به، فنحن معك، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا، إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ}([49]).

ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه، حتى نبلغه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم خيراً، ودعا له بخير.

وقال الأنصار: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد، أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم.

ثم قال الرسول: "أشيروا عليّ أيها الناس" وكأنه يريد الأنصار، إذ كانت بيعة العقبة معهم أن ينصروه ويدافعوا عنه في دارهم بالمدينة، وتخوّف ألا ينصرونه خارج المدينة، كما شرطوا ذلك في عهدهم، فقال سعد بن معاذ: واللّه لكأنك تريدنا يا رسول اللّه؟ قال: أجل، فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول اللّه لما أمرك اللّه، فوالذي بعثك بالحق، لئن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل اللّه يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة اللّه.

فسرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم لقول سعد، ونشّطه ذلك ثم قال: سيروا على بركة اللّه، وأبشروا، فإن اللّه وعدني إحدى الطائفتين: العير القادمة من الشام، وعلى رأسها أبو سفيان، أو النفير الآتي من مكة، لنجدتهم، وعلى رأسهم أبو جهل، واللّه لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" ([50])

 



[1] كتاب مجمع البيان ص 516

[2] كتاب مجمع البيان ص 516

[3] سورة الأنفال/30

[4] كتاب مجمع البيان ج4 ص 537

[5] كتاب الاتفان ج 1 ص 15

[6] منقول في هامش كتاب تفسير الجلالين ج 1 ص 170

[7] كتاب مجمع البيان ج 4 ص 539

[8] سورة الانفال/64

[9] كتاب الدر المنثور: ج 3 ص 200

[10] كتاب مجمع البيان: ج 4 ص 557

[11] كتاب تفسير التبيان: ج 5 ص 152

[12] سورة الانفال/56 و 57 و 59 و 60 و 61 و 62

[13] سورة الانفال/64 و 65

[14] كتاب التمهيد في علوم القرآن، ج‌1، ص: 229

[15] سورة الأنفال: 1.

[16] سورة لأنفال: 41.

[17] سورة الانفال:66

[18] كتاب الناسخ والمنسوخ ص 154 وكتاب تفسير الطبري ج 9 ص 135

[19] سورة الانفال:61

[20] سورة التوبة:5

[21] سورة التوبة:36

[22] سورة محمد:35

[23] سورة التوبة:29

[24] كتاب تفسير ابن كثير: 2/ 322- 323

[25] كتاب أحكام القرآن : 3/ 69

[26] سورة التوبة:25

[27] يراجع كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي

[28] سورة التوبة:65

[29] سورة االانفال:66

[30] يراجع كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي

[31] سورة الانفال:30

[32] سورة االانفال:71

[33] سورة الانفال:67 و 68

[34] سورة االانفال:39

[35] سورة الانفال:60

[36] سورة الانفال:61

[37] سورة الانفال:15

[38] سورة الانفال:45

[39] سورة الانفال:72 و 73

[40] سورة الانفال:7 و 8

[41] سورة الانفال:9

[42] سورة الانفال:11

[43] سورة الانفال:44

[44] سورة الانفال:20

[45] سورة الانفال:27

[46] سورة الانفال:46

[47] قال المسعودي: كانت غزوات النبي التي قادها بنفسه 26 قاتل منها في تسع

[48] سورة الانفال:41

[49] سورة المائدة:24

[50] مصدر البحث: مجموعة التفاسير: البيان في تفسير القرآن للسيد أبو القاسم الخوئي، والتمهيد في علوم القرآن للعلامة محمد هادي معرفت


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=649
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2016 / 03 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18