في رحاب الزيارة الجامعة : أهل الذكر
آية الله الشيخ عبد الله جوادي آملي حفظه الله
كلمة "أهل" تحمل فيما تحمل معنى الأنس وميل القلب.
وكلمة "الذكر" قبال الغفلة والنسيان، وبمعنى التذكير، ويقولون: "اجعله منك على ذُكْرٍ"، أي لا تَنْسَه، ثم حمل عليه الذكر باللسان، ويأتي "الذكر" بمعنى الشرف والصيت والثناء، وهذه المعاني كلها ترجع إلى أصل واحد، هو الحفظ من النسيان، لأن من يشرف ويعلو اسمه فهو مذكور غير منسي ولا مغفول عنه.
وقد جاء "الذكر" في القرآن في قبال النسيان والغفلة.
{واذكر ربك إذا نسيت} الكهف/24، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} المجادلة/19، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} الكهف/28.
والنسيان في هذه الآيات مرادف للغفلة المذمومة، وأما النسيان الجبلي المراد في حديث الرفع المشهور: "رفع عن أمتي تسعة: الخطأ والنسيان و.." فهو غير مذموم.
وعليه فعنوان "أهل الذكر" يطلق على المتلبسين والمأنوسين أنساً خاصاً بالذكر والتذكير، والمنزهين دوماً عن الغفلة والنسيان، ولا تفارقهم حالة الذكر أبداً.
مرجعية أهل الذكر
هذه الفقرة ـ ككثير من فقرات هذه الزيارة ـ مقتبسة من القرآن الكريم، فقد أحال القرآن الكريم إلى أهل الذكر في موضعين: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} النحل/43 والانبياء/7. ولهاتين الآيتين ـ وهما من أدلة وجوب رجوع الجاهل للعالم ـ مفهوم عام، مؤداه: إن كل من له علم ودراية بشيء (كالقرآن، والتوراة والإنجيل و..) ويُعد من الماهرين فيه، فهو "أهل الذكر" في ذلك الشيء. من هنا أطلق هذا العنوان على علماء اليهود والنصارى لشمول هذه المفهوم العام لهم، لا من باب اختصاصهم به، وقد أطلق أيضاً في روايات أهل البيت(ع) على الفقهاء والمجتهدين.
وعليه فإن مصاديق "أهل الذكر" تختلف باختلاف الأمر المسؤول عنه، ففي السؤال عن صفات النبي الخاتم(ص) في الإنجيل والتوراة يكون مصداقه علماء اليهود والنصرانية، وفي السؤال عن أحكام الشريعة الإسلامية يكون المصداق النبي وأهل بيته(ع) حال وجودهم، والفقهاء حال غيابهم، وهناك موارد كثيرة جداً يصح فيها تطبيق هذا العنوان على أئمة أهل البيت(ع).
وقد جاءت مفردة "الذكر" في القرآن الكريم بمعاني عديدة منها:
- القرآن: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الحجر/9
- التوراة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ} الأنبياء/48
- الآية والسورة، أو الكتب السماوية (الأعم من القرآن): {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} الأنبياء/ 2
- الصلاة: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ} الجمعة/9
وسميت الصلاة ذكراً لاشتمالها على أذكار لسانية، ولأن الغرض منها عدم الغفلة عن الله تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} طه/14، وعليه فالصلاة سبب للذكر.
- الرسول: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} الطلاق/10 ـ 11. وسمي(ص) لأنه ذكراً لأنه مذكّر.
والمراد من "أهل الذكر" في هذه الفقرة من الزيارة هم أهل البيت، لأنهم جديرون بأن يكونوا "أهل الذكر" في هذه المصاديق القرآنية: فهم وطيدو الارتباط بالذكر الحكيم وشديدو الأنس به، حتى استحقا عنواني "الثقل الأصغر" و"القرآن الناطق"، بل هم وهو حقيقة واحدة تجلت في لباس التكوين والتدوين، وهما لا ينفكان ولا يتخالفان، بنص حديث الثقلين.
وهم القيمون بمعرفة الكتب السماوية السابقة وذوو البصيرة فيها، قال علي(ع): أما والله لو ثُنيت لي الوسادة، ثم أجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتى ينادي كل كتاب بأن علياً حكم فيَّ حكم الله فيّ.
وهم أدرى الخلق برسول الله(ص) وأعلمهم به، لأنهم أهل بيت الرسالة وعترة النبي، ولهم فيه ما ليس لغيرهم، حتى صاروا كنفسه.
إشارات
- المذكّرون والمضلّلون
إن الأئمة(ع) هداة إلى المصداق الأكمل للذكر، وهم القرآن والإسلام، ويقابلهم أئمة الضلال والغافلون عن الحق: { يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} الفرقان/28 ـ 29، ذلك أن "ذكر الله" هو الصراط المستقيم، والأئمة هم المقصد والمقصود، لذا كان "ذكر الله" هو الهادي إلى الصراط وسبب رشد القاصد الساعي للمقصود، وكل ما يزيغ عنه ويضل عن المقصود فهو من الغفلة عن ذكر الحق، وحيث إن للقرآن دوراً كبيراً في ذلك فقد وصف بذي الذكر: {ص والقرآن ذي الذكر} ص/ 1
- عين الحياة
إن ذكر الله حي خالد، وهو سبب العمران والحياة: "اسألك.. أن تجعل أوقاتي من الليل والنهار بذكرك معمورة". وقال أمير المؤمنين(ع) لابنه: "فإني أوصيك بتقوى الله، ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره".
وبالقرآن والعترة تحيا البشرية وتعمر قلوب الناس، لأن الأول ذكر والثاني "أهل الذكر"، فهم محيو قلوب متبعيهم وبناة البيت المعمور في نفوسهم، وهو من أظهر مصاديق: {في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} النور/36، والعنصر الأساسي في هذا البناء الرفيع هو اسم الله وذكره، ونسيج هذا الاستبرق الملكوتي هو ذكر الحق وأسماؤه الحسنى.
وأما العمهون والغافلون عن ذكر الله فهم في مأزل عيش وخناق حياة، والسر في ذلك إن الإعراض عن سبب العمران لا نتيجة له إلا الخراب وضنك الحياة، والمعرض عن ذكره تعالى محشور أعمى، وعيداً منه غير مكذوب: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ} طه/ 124. وأما الذاكرون لله، العاملون بذكر القرآن والعترة فلهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة/ 22ـ 23.
- معيار عظمة الذكر
إن عظمة الذكر تقاس تارة بخصوصية الذكر نفسه، وتارة بلحاظ الذاكر، وتارة بلحاظ المذكور، وكما أن علم الله بذاته بنحو يكون العلم والعالم والمعلوم واحداً، فإن الذكر أيضاً سيكون بالنسبة إلى الله كذلك إذا ما اتحد الذكر والذاكر والمذكور، وبهذا يتبين معنى: {ولذكر الله أكبر} العنكبوت/45، فإذا ما ذكر الله عبداً من عباده فسيكون ذلك الذكر أكبر ذكر للعبد المذكور، وإذا ما ذكر العبد الواصل الله فذلك الذكر هو أشرف ذكر يكون منه، ولن يكون له ذكر أكبر من ذكره لله تعالى، سواء كان مذكوره الآخرة أم الدنيا، وإن كانت هي نعم الله "تعالى ذكرك عن المذكورين"([1])، وهذا الذكر شرف للذاكر: "يا من ذكره شرف للذاكرين"([2])، ولكل ذاكر مقام معلوم، كل بقدر ذكره، وذوو الذكر الأكبر هم الآيات الإلهية العظيمة فهم الأكبر والأشرف.
- الذكر الكثير
إن ذكر الله من أعظم العبادات، حلو المذاق فطرة، تأنس به الروح وتستطيب شمه، وهو غير مشروط بشرط خاص، لذلك ورد الحث عليه والترغيب فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} الأحزاب/41
والأئمة(ع) كثيرو الذكر لأنهم أهل الذكر، وتوصيفهم بعنوان "أهل الذكر" دليل دأبهم في الذكر ودوامهم عليه، ودائم الذكر دائم الصلاة.
- الذكر المتقابل
وعد الله تعالى على ذكر النعمة المزيد منها، ووعد على ذكره هو سبحانه ذكراً منه للذاكر: {فاذكروني أذكركم} البقرة/152، وأهل بيت العصمة أهل ذكر لله المتعال، فلا جرم أن يكونوا مذكورين عنده تعالى، وحيث إن ذكرهم له تعالى كامل دائم، فإن ذكره تعالى لهم كمال راسخ ومستقر فيهم.
- الذكر عامل تكامل
إن استذكار مظاهر الاقتدار الإلهي ـ وهم الأنبياء ـ مدعاة لشهامة نفوس علماء الدين والمتصدين لتفقيه الناس بدين الله، كما أن ذكر الموت والمعاد نافع لكثير من الناس، لأنه سبب إيجابي في التفاعل والنشاط من جهة، ومؤثر في هدفية الحركة والسير بها في الاتجاه الصحيح من جهة أخرى، كما أنه يميل بالنفس للقناعة والتخفف من أثقال الدنيا ومتاعها، وينير القلب والباطن: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} ص/46، و"جعل الذكر جلاء للقلوب" (نهج البلاغة، الخطبة222). وقد خوطب الرسول باستذكار الأنبياء وذكرهم ليفيد الناس من وصية الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} مريم/41، {واذكرْ في الكتابِ موسى} مريم/51، وخوطب أيضاً بتذكير الناس بالمعاد والحشر المخوف المفزع: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} ص/67ـ 68، {وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} هود/3، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} مريم/39.
وأهل بيت العصمة(ع) لهم من هذا الذكر المبارك النافع القدح المعلى، ولهم فيه المقام الأسنى.
- علوّ أهل الذكر على الذاكر
إن "أهل الذكر" غير الذاكر، كما أن أولي العلم غير العالم والعليم، وأولي الأمر غير الآمر، وأولي الألباب غير اللبيب.
وذكر العبد لله تعالى، وإن كان أمراً محبباً ومرضياً في نفسه لقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} البقرة/152، {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} آل عمران/135، غير أن لأهل الذكر مقاماً أعلى ودرجة أرفع، والفرق أن كلمة "أهل" تفيد معنى الأنس والألفة التامة، فـ "أهل الذكر" هم النزاعة قلوبهم للذكر، المستأنسة به المقيمة عليه، لا يغفلون عنه ولا يفترون، ولم يؤخذ في عنوان "الذاكر" تلك المعاني ولم يشترطوا في معناه المداومة على الفعل، هذا على القول بأنه اسم فاعل، وعلى القول بأنه صفة مشبهة فهو وإن دل على الدوام إلا أنه لا يدل على الأنس القلبي والانجذاب الروحي، وإن أمكن أن يورث الاستمرار على أمر ما الأنس والألفة به.
- درجات أهل الذكر
لأهل الذكر درجات كثيرة ومتفاوتة، لأن كل ذاكر هو أهل ذكر ـ بأحد مصاديق الذكر السالفة ـ بمقدار معرفته وعلقته وأنسه بذلك الذكر، والأئمة(ع) هم الفرد الأتم والمصداق الأكمل لهذا العنوان، لا يسبقهم فيه سابق ولا يلحقهم لاحق.
وهم(ع) ليسوا أهل ذكر وحسب، بل هم أنفسهم ذكر، ذلك أنهم يشاركون أمير المؤمنين في كونه نفس رسول الله(ص): {وأنفسنا وأنفسكم} آل عمران/61، ويقومون بإمامتهم بكل ما قام به الرسول بنبوته في هداية الناس، وبما أن الرسول ذكر، لقوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا، رسولا..} الطلاق/10ـ 11، فهم أيضاً ذكر.
وإطلاق عنوان "الذكر" على القرآن والأئمة الأطهار(ع)، دليل على تلازمهما الأبدي، وشاهد آخر على ما جاء في حديث الثقلين: "إني تارك فيكم الثقلين.. وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..".
- الذكر المبارك
يقرر القرآن أن الكتب السماوية ذكر كلها، ولكنه خص منها القرآن باسم "الذكر المبارك" فقال تعالى: {وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} الأنبياء/50، وهي تسمية خص بها لخصيصة فيه استأثر بها، وهي كونه ذكراً لكل الممكنات، وله الهيمنة الكاملة على سائر الصحف السماوية، وهو ليس ذكراً للمسلمين وحسب، بل هو ذكر وشرف لمذكر العالمين رسول الله(ص) أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} الزخرف/44.
ومعنى هيمنة القرآن على سائر الصحف السماوية أن تذكيرها وهدايتها بإشرافها وقيمومته وتصديقه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} المائدة/48،
والقرآن الكريم في العصر الحاضر هو الدليل الوحيد على حقية الكتب السماوية الأخرى.
والقرآن ذكر مبارك، لأن منافع وبركات زمزمه العد وكوثره الفياض دائمة باقية، يفيد منها كل الناس، مؤمنهم وكافرهم، المصدق به والمنكر، العارف بقدره والجاهل، فالكل يمنح من نمير مائه، ويرفل في نعمه، بل ويتلمس سقاط مائدة معارفه.
وكل أمة تأخذ نفسها باتباعه والعمل به، وترى سعادتها في ثقافته وآدابه وفكره، ستجني الرشد والخير والنماء الحضاري، وستسطع فيها الثقافة النيرة.
- مكانة الذكر
إن "الغفلة أضر الأعداء" للإنسان
ويقابل الغفلة ذكر الله سبحانه، وهو ألذ خواطر القلب: "إلهي ما ألذ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب"، و"ليس عمل أحب إلى الله ولا أنجى لعبد من كل سيئة في الدنيا والآخرة من ذكر الله"، وبكلمة القرآن الجامعة و{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد/28،
والذكر وإن كان موطنه القلب: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} ق/37، غير أن "الذكر" في اصطلاح العرف والمتشرعة هو كل أمر يذكّر قلب المرء ويزيل عنه رين الغفلة، ولذا يطلق هذا العنوان على الأوامر اللسانية والقرآن والكتب السماوية السابقة، وعلى النبي والصلاة و...
- الجواب بقدر عقل المخاطب
على المسلمين الرجوع إلى الأئمة الأطهار(ع) في تلقي معارف الدين واستبيان معالمه، ولكن ليس على الأئمة أن يجيبوا عن كل سؤال، بل الجواب منهم منوط بسعة ذهن السائل، فإن كان جديراً ومتحمّلاً للجواب أجابوه وإلا سكتوا مراعاة للمصلحة ([3])، وقد يجيبونه جواباً إقناعياً ([4]): {هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ص/39. وهذه الآية وإن نزلت في شأن النبي سليمان(ع) غير أنها ذات مفهوم عام شامل وقد طبقه الأئمة(ع) على أنفسهم. والحاصل على عامة المسلمين سؤالهم في ما ينوبهم من معضلات وشبهات، والأئمة(ع) أعلم بأبواب الصلاح والفساد في الأجوبة وسكوتهم ليس بالجزاف بل وفق الحكمة.
& من كتاب ادب فناء المقربين باختصار
[1] الصحيفة السجادية، الدعاء 39
[2] المصدر نفسه، الدعاء 11
[3] كما في السؤال عن القضاء والقدر، فقد سُئل أمير المؤمنين(ع) عنه فقال: "طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه" نهج البلاغة، الحكمة 287.
[4] سأل رجل هشام بن الحكم: هل يقدر الله أن يدخل الدنيا كلها في بيضة، لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ فراجع هشام الإمام، فأجابه بقوله: يا هشام! فانظر أمامك وفوقك وأخبرني: ماذا ترى؟ فقال: أرى سماء وأرضاً ودوراً وقصوراً وتراباً وجبالاً وأنهاراً. فقال له أبو عبدا لله (ع): إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقل منها قادر أن يدخل الدنيا كلها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة. (بحار الانوار، ج 4 ص 143). وقد سئل أمير المؤمنين(ع) السؤال عينه فقال: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون. والسر في اختلاف الجوابين أن السائل الأول لم يكن يعرف معنى "المحال والممتنع بالذات" فأجابه الإمام بما يقنعه، أما سائل أمير المؤمنين(ع) فقد كان مدركاً لذلك فأجابه الأمير جواباً استدلالياً.
|