• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : العصمة جبرها واختيارها .
                          • رقم العدد : العدد السادس عشر .

العصمة جبرها واختيارها

 

 


العصمة جبرها واختيارها


آية الله الشيخ إبراهيم الدماوندي

لا أشكال ولا ريب في أن الفعل الصادر من الإمام (ع) يدل على كونه غير محرّم عليه كما أن تركه له يدل على أنه غير واجب عليه وهذا من الضروريات اللازمة للعصمة وأنه وقع عن عمد وقصد لا عن سهو ونسيان وذلك لا لأصالة عدم النسيان والسهو للأصل العقلائي بل ولا لأصالة الصحة في فعل الغير بل إنما هو للعصمة وهي فوق ملكة العدالة وأعلى منها بمراحل بحيث لا يكون له داع لترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك لان عنده ملكة عالية قدسية نورانية بصفاء جوهر الذات وهي تردعه عن المعاصي وتبعثه على الطاعات على وجه الاختيار بلا كره واجبار وفي هذا الحال يستحيل عقلاً صدور المرجوح وما هو خلاف الأولى منه فضلاً عن الحرام ولا يتمشى منه ترك المستحب فضلاً عن الواجب وذلك بوجود عامل مساعد للمعصوم على فعل مطلق الخير واجتناب مطلق الشر بحيث لا يسلبه عن الاختيار والقدرة كما هو في الملائكة وبهذا صار أرقى منهم لعدم الامتناع منه وامتناعها منهم حيث إن المعصوم له عقل وشهوة وسائر القوى البشرية من الحلم والغضب فتحصل منه مقتضيات الفعل من العبادة والطاعة لله كما أن هناك دواعي ومقتضيات للشهوة من الأكل والنوم والنكاح ونحو ذلك لقوله تعالى: }قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ{ فإن طغت عليه مقتضيات الشهوة هلك وإلا فهو سعيد، ومن المعلوم أن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم من سنخ البشر لا من سنخ الملائكة لقوله تعالى: }ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه{ فتحصل منهم مقتضياتُ العقل كما تحصل منهم مقتضيات الشهوة فيأكلون وينامون ويتزوجون ويفرحون ويتألمون إلى غير ذلك مع الامتناع من الفعل القبيح، والعصمة كافية في المنع (والمعصوم من عصمه الله) فهي فيض إلهي يقوى به المعصوم على تحري الخير وتجنب الشر حتى يصير كالمانع له عقلاً وليس بعامل قسري بل هو لطف إلهي خفيّ يفعله بالمكلف بحيث لا يكون له داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك، وإن المعصوم يشارك غيره في الألطاف المقرّبة إليه فيختار العبد الامتناع عن فعل القبيح ويقال له إن الله قد عصمه من القبيح وحماه، كما يقال أن الله قد أيده في اتيان الواجبات من دون باعث قهري بحيث يسلب القدرة فنحن مخيرون لا مسيّرون وإلا لبطل الثواب والعقاب ولا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، وحيث إنهم مخيرون على فعل كلا الأمرين وترك كلا الجانبين كانوا في قلق شديد وخوف عظيم من رب العالمين، وعلى قدر معرفة العبد بربه يزداد خوفه وخشيته منه تعالى: }إنما يخشى الله من عباده العلماء{ فلأجل ذلك كانوا يراقبون أنفسهم ويتضرعون إليه في العبادة الدائمة ويناجون ربهم ألاّ تزّل بهم القدم.
هذا وقد فسر بعض الأعاظم من المعاصرين في تفسيره العصمة بالعلم الذي لا ينفك عن العمل به بحال، بتقريب أن العلم على نوعين نوع لا يستدعي العمل به إلا على نحو الاقتضاء ويكون من مبادئ العلة التامة وداعياً إليه كعلمنا نحن، فإنه جزء من العلة ولا يترتب عليه المعلول إلا بعد ضم سائر الأجزاء إليه من بقية الشروط وفقد الموانع وأهمها التوفيق الإلهي والتسديد الرباني كما ورد إذا أراد الله بعبد خيراً هيّأ أسبابه وهو معنى التوفيق وتكون الأسباب وفق المراد، والإرادة تؤثر اثرها وتأخذ مفعولها والعلم يكون داعياً للخير ويهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وإلا يكون كالشجر بلا ثمر والآية تشير إلى ما نقول }إنما يخشى الله من عباده العلماء{.

والنوع الثاني يستدعي العمل بذاته ويتنافى مع الترك كالشجاعة التي تتنافى مع الجبن أو الكرم الذي يتضاد مع البخل وإن كنا لا ندرك هذا النوع من العلم كما قال لأنه بعيد عن طبائعنا وادراكنا. ولازم هذا القول هو أن العصمة تكون غير اختيارية وخارجة عن الإرادة وهو يتنافي مع الاختيار بل هو عين الجبر والاضطرار والحال أن الإنسان مقهور ومجبور باختياره وصاحب إرادة ومتحرك بها وهي فصله عن سائر الحيوانات، وهذا مما يدل على عدم التلازم الذاتي بين العلم والعمل به. نعم يمكن توجيه مراده { بما نقول وهو أن النفس متى خلصت من الشوائب فهي من جهة صفاء جوهرها وسلامة عناصرها، انصرفت عن كل ما يشين وانعكست في قلبه معرفة الله سبحانه من دون استعمال النظر كما ينعكس المثال في المرآة الصافية، فهي من حيث تجردها المطلق تجلى لها ربها بلطفه فاشرقت فتكون بعد ذا محطة إرادة الله وفي هذا الحال يستحيل التخلف عن إرادته تعالى فتكون إرادتهم إرادة الله وإرادة الله إرادتهم من دون فرق وفصل، ولكن مع ذلك كله الامكان الذاتي بصدور المعصية باق عقلاً مع الامتناع الوقوعي ولا منافاة بينهما لاختلاف النسبتين. ويدل على ذلك ما نجده في الصحيفة السجادية ودعاء كميل وأبي حمزة الثمالي وغيرها، وهذا لا ينافي العصمة بالمعنى الذي يعتقده الإمامية بل تسندها، وامتناع صدور الذنب عنهم إنما هو إمتناع وقوعي معلول للطف الإلهي المعبر عنه بالعصمة الحاصلة لهم مع عدم سلب القدرة والاختيار عنهم بخلاف الملائكة حيث لا قدرة لهم ولا إختيار. والامتناع الوقوعي لا يتنافى مع الامكان الذاتي فهو ممكن بذاته وواجب بغيره فصار ممتنعاً عليه، هذا مضافاً إلى ما تقرر في علم الكلام بأنّا إذا احتملنا فيه السهو والنسيان والغفلة فإنه يذهب الوثوق بما صدر منهم من الأحكام فهم مصادر التشريع وعلة بقاء الشريعة المقدسة وإذا تعارض العقل والنقل وجب تأويل النقل بما يوافق العقل، وإنما يقبل المنقول بعد مطابقته للمعقول والشك في الحجية مساوق لعدم الحجية والمفروض أنهم الحجج على الأنام في الأحكام فإذا جاء من النقل في السنة أو الكتاب ما ظاهره المنافاة مثل قوله تعالى: }وعصى آدم ربه فغوى{ وما ذكره الصدوق في سهو النبي (ص) وجب التأويل في النقل وطرحه بما يوافق العقل، والعصمة كافية في الجواب حسب مفهومها ومدلولها عصمكم الله من الزلل وطهركم من الدنس. نسأله تعالى التوفيق بالاقتداء بهم والتمسك بحبلهم فإنه ما خاب من تمسك بهم وأمن من لجأ إليهم.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=207
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2009 / 01 / 16
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28