• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : الإسلام العالمي في عصر الولاية .

الإسلام العالمي في عصر الولاية


الإسلام العالمي في عصر الولاية
الشيخ عباس أحمد شحادي

ترسخ الإسلام مع نزول القرآن الكريم معتضداً بالسنة النبوية الشريفة، ومع أول حكومة إسلامية ومجتمع إسلامي في المدينة بدأ النمط المجتمعي الإسلامي يأخذ ملامحه الأولى، ثم أخذ يترسخ بعد الفتح والتنعم بالنصر ودخول المسلمين أفواجاً تحت قيادة الرسول (ص) في مكة. ثم أخذ هذا النمط في ظل رعاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يتسع حتى بلغ فيما بعد مناطق شاسعة تضم شعوباً وبلاداً كثيرة...
وقد عرف هذا النمط المجتمعي في حياته الواقعية خلال قرون، ألواناً عديدة من العلاقات والحالات الاجتماعية والتنظيمية والسياسية، ومن أشكال الملكية والسلطات الحاكمة والصراعات، كما واجه مشكلات وتحديات في كل الميادين، وقد رافقت ذلك كله جهود كبيرة ولا تزال في العمل على الإجابة عما تولد من مستجدات وصعوبات ومشاكل وسلبيات. ولهذا أخذ الفقه الإسلامي بل الفكر الإسلامي برمته يسهم في مختلف ميادين البحث والمناهج والموضوعات والقضايا التي تمس المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية، فضلاً عن ميادين العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية بما في ذلك إسهامات أساسية في إرساء قواعد المنهج الاستقرائي في البحث العلمي.
ونظّم المفكرون والباحثون والعلماء والفقهاء المجددون بصورة خاصة لا سيما المبدعون منهم منهجاً راسخاً ومتيناً في كيفية مناقشة مختلف القضايا وبحثها وتأسيس قضايا وأفكار أخرى على هديها، والوصول فيها إلى أحكام تقوم على أساس الإسلام وتجيب عن المستجدات والتساؤلات المختلفة.
ولا يبالغ المرء إذا قال: إن المستوى الذي وصل إليه المنهج لدى الأئمة والمجتهدين والمفكرين، والذي أسس له أئمة أهل البيت (ع) لا سيما الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، قد بلغ حداً فريداً لا يجارى من حيث الدقة والعمق والشمول. وكان الأمر كذلك بالنسبة إلى المنهج في مجال العلوم المادية والرياضية.
ويمكن القول هنا: إن كل ما جاء به «روجرز بيكون» و«فرنسيس بيكون» لم يزد حرفاً واحداً عما أرساه العلماء المسلمون في هذا الميدان من أمثال الرازي وجابر بن حيان والحسن بن الهيثم والشيخ البهائي وأمثالهم.
وكذلك بالنسبة لما يسمى اليوم العلوم الإنسانية حيث أرسيت قواعد وموضوعات منهجية على درجة عالية من العمق في دراسة التاريخ والاجتماع والنفس والعلاقات الإنسانية وسياسة الدول والاقتصاد، وهكذا بالنسبة للمجالات الأخرى التي تناولت موضوع الفلسفة وعلم الكلام وعلم الأخلاق... «وبكلمة: ترسخ الإسلام وترسخت أنماط المجتمعات الحضارية الإسلامية، كما أرسيت مناهج عديدة في قراءة مختلف المجالات، فكان هنالك من المناهج والموضوعات ما وصل درجة عالية من الدقة، كما كان هنالك ما تخبط بالأخطاء واختلط بالفكر الإغريقي أو بالبدع التي كانت تتسلل إلى دار الإسلام، أي بقدر ما حدث على أرض الواقع من انحرافات عن النموذج الإسلامي، حدثت انحرافات في المجال المنهجي والفكري، وكذلك بقدر ما حدثت ثورات مرتكزة إلى الإسلام وعاملة على مكافحة تلك الإنحرافات، قامت إسهامات كبرى في المجال المنهجي والفكري»(1).
والذي نريد التركيز عليه ها هنا هو أننا أمام تراث غني وعظيم الثراء في الموضوعات والمقولات والمبادى‏ء العامة والتقنيات التي يحتاج إليها المنهج الصحيح لقراءة الإسلام القرآني والنمط المجتمعي الحضاري الإسلامي ودراسة آليات التاريخ الإسلامي، إذ لا يعقل أن يقوم منهج علمي في بلاد المسلمين يحترم نفسه دون أن يستند إلى النص الإسلامي الثابت أولاً ثم إلى الفكر الإسلامي السليم، الذي تفاعل مع مختلف المجالات، وقدّم إسهامات السليم، الذي تفاعل مع مختلف المجالات، وقدّم إسهامات كبيرة خلال ما يزيد على أربعة عشر قرناً، ودون أن يعتني بدراسة التجربة التاريخية الواقعية التي عاشتها الأمة الإسلامية طوال تلك القرون...
في الحقيقة إن مراجعة التاريخ الفكري والسياسي للنمط المجتمعي الإسلامي السليم تظهر وجود سياق متواصل إلى حدٍ ما فيما يتعلق بطبيعة مسار هذا النمط على أرض الواقع، كما تظهر وجود سياق متواصل في المسائل المتعلقة بالمنهج وذلك في مجالات الفقه أو مجالات الدراسات التاريخية والاجتماعية والسيايسة والاقتصادية، أو في مجالات البحث العلمي في ميادين الكون والطبيعة والحياة...
ولا نقصد بالحديث عن تواصل السياق وجود نمط ثابت أو خط واحد أو منهج واحد، وإنما المقصود أن كل الحالات والمفاصل التي عرفها هذا التاريخ في مختلف مجالاته وتباين ألوانه والأوضاع العامة التي تفرض هذا الفكر أو ذاك الرأي، بما في ذلك القضايا التي تثار والمناقشات التي تدور والغنى الكبير في التنوع والاختلاف، كانت كلها تنتسب أو تنسب نفسها بشكل أو ب‏آخر إلى الإسلام، وتنبع بهذا القدر أو ذاك من النمط المجتمعي الإسلامي بكل ما حمل في داخله من صراعات، وما خاض مع خارجه من معارك، وما عرفه من اختراقات وانحرافات، وما مارسه من جهاد ضد هذه الاختراقات.
ولكن هذا السياق العام وما حمل فيه من الفكر الإسلامي المشرق، ولمكان أهميته وعظمته وقداسة دوره في تربية الإنسان وتدعيم حريته، كان المقصد الوحيد لاجتياح الكفر العالمي الواسع في القرن التاسع عشر والقرن العشرين مما تسبب بانقطاع صورة المسار التاريخي لدى الكثيرين، والظاهر أن التخطيط لذلك سبق هذين القرنين، فقد راحت الحضارة الغربية المسيطرة تفتت وحدة الأمة وتمزقها إلى أجزاء وكيانات، وتزرع فيها نمطاً إجتماعياً واقتصادياً وسياسياً تابعاً لها من أجل قطع التواصل بالنمط المجتمعي الإسلامي العام، والنيل حتى من معتقده.
أما في المجال الفكري والثقافي فقد راح المسيطرون يفرضون على المدرسة والجامعة وأجهزة الإعلام مناهج الغرب بكل ما تستند إليه من فلسفات، وما تحمله من مبادى‏ء ومعايير ومقولات وموضوعات ونماذج حول مختلف مناحي الحياة، الأمر الذي أبعد أعداداً متزايدة من مثقفي العرب والمسلمين عن سياقهم التاريخي وزرع في عقولهم التغريب وعدداً لا يحصى من المقولات المشوهة حول الإسلام والتراث والتاريخ والمجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي، مما خلق معضلة منهجية خطيرة بالنسبة إلى كل من يتصدى لدراسة هذه المجالات ومعالجتها، وقد أصبح محكوماً عليه بالعقم لا من الزاوية العلمية فحسب وإنما أيضاً من جهة ما يقترح للمستقبل من نظام. وذلك لأن مشروع الحاضر والمستقبل لا يمكن أن يصيب نجاحاً في بلاد المسلمين إذا عولج الإسلام والتاريخ والتراث وقضايا المجتمع الإسلامي من خلال المنظور الغربي والأوروبي.
على أن هنالك معضلة أخرى تواجه الفكر الإسلامي الذي لم يخترق ولم يُصب بذلك التشوه المزمن، وبقي محافظاً على تواصله مع الإسلام والتراث والنمط المجتمعي الإسلامي، وهي المعضلة الناتجة عن الإنقطاع الذي حدث بسبب سيطرة الغرب وما تولد عن ذلك من وقائع تنتسب إلى سياق الحداثة الغربية، الأمر الذي طرح مجموعة من المسائل المنهجية المهمة التي تتطلب أن يأخذها هذا الفكر بعين الاعتبار وهو يواجه قضايا الراهن والمستقبل، أي لا بد له من ملاحظة أنه يعالج واقعاً يختلف تماماً عن الواقع الذي عالجه السابقون حين تصدوا لمعالجة المستجدات والمشكلات، لأنهم كانوا يواجهون واقعاً لم ينقطع سياقه التاريخي بعد. أما في راهننا المعاصر فقد اختلف الأمر، وذلك لأن سيطرة الاستعمار والاستكبار زرعت التغريب في العقول والقلوب وفي مساحة واسعة من الواقع، وصلت إلى الدولة والنمط السياسي والمدرسة والعادات وطريقة الحياة والذوق والسلوك، فقام الطراز التابع المتغرب، وهو ما لم يحدث في مرحلة الغزوات الصليبية. ولهذا أصبح من الضروري أن تطرح مسائل وقضايا ومعالجات تواجه التغريب الذي رسخ في أكثر من مجال رسوخاً خطيراً في واقعٍ أصبح مزدحماً بكثير من المفاهيم والآراء التي تحجب عن الإنسان الحق أو تمنعه من وضوح الرؤية، فلم تعد الطريق إلى فكره وقلبه خالية.
وهذا يعني أن المواجهة المطلوبة اليوم في مثل هذه الأجواء تُشكل في حالة صلاحها ومناسبتها شرطاً مركزياً لوصل ما انقطع بشكل ناجز، كما تشكل شرط الانطلاق من جديد فيما لو حملنا الهموم الحقيقية للإسلام، وهو ما يتطلب جهداً كبيراً في تمهيد الطريق التي يسلكها إلى حياة الإنسان الفكرية والعقيدية من حيث الأسلوب والفكرة وهذا يعني أيضاً أننا يجب أن نكون في ثورة دائمة، تهدف إلى حماية الإسلام وتحصين مجتمعه وحمله كما أنزله اللّه تعالى لتحقيق عالميته والدخول إلى عصر الولاية للإسلام العالمي.
وإن أي حل للمشاكل، والإخفاقات الكبرى التي يحتمل أن تعترض طريق هذه الثورة، يتطلب المعرفة العميقة للزمن العالمي الراهن، أي رؤيته والتعامل معه آخذين بعين الاعتبار وبأعلى درجات الوعي والدقة سمات الوضع العالمي في راهننا المعاصر، في مجالات السياسة والصراعات السياسية كما في العلوم والتقنيات والثقافة، وفي مجالات موازين القوى المادية والاقتصادية وأشكال التكتلات وألوان المواجهات وطبيعة ظروفها، وذلك لأن أي مشروع داخلي ناهيك عن المشروع الإسلامي العالمي، لا يستطيع أن يشق طريقه للدخول إلى عصر ولاية الإسلام إلا عبر الصراع والتفاعل مع عالمه المعاصر، والارتفاع إلى ما يطرحه هذا العالم من تحديات...
وطبعاً، لا نقصد هنا بمعرفة الزمن العالمي الراهن، الرضوخ لموازين قواه أو التبعية لمراكز الاستقطاب والتسلط في العالم، أو الإنحراف مع تيارات الأمركة والمشروع الصهيوني، وإنما المقصود معرفة ذلك من أجل حسن التخطيط وتوفير شروط التحدي والمواجهة، وإنجاز مراحل الممانعة مع الطاغوت مع الحفاظ على وعي العلاقات الإنسانية...
وفي هذا الإطار، نقف لبلورة مفهوم العلاقات الإنسانية المحسومة قرآنياً بقاعدة التعارف، الذي لا ينفي خصوصية التمايز لدى الأمة، وإطلاق حريتها في التفاعل والتأثير المتبادل، على نحو توظف فيه التناقضات الاجتماعية لصالح مشروع التوحيد، وقدرته على كشف الجوهر الواحد ضمن الجدل الإنساني، بوصفه حقيقة كبرى تدفعنا إلى عالمية لا تستهين بخصائص الأمم والشعوب، ولا تنكر ضرورة التنوع وحق الاختلاف «فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»(2)، ودون أن تقطع الطريق على الآخر، ذلك أن مساحة النهضة الفكرية والثقافية تتسع للجميع، ما دامت محكومة لمسؤولية الحوار والجدال بالتي هي أحسن، فالأساس القرآني لوعي هذا الجدل يقوم على احترام العقل، وشرعية دوره في عمارة الأرض وبناء الدنيا، في حركة الكدح الذي ينشد الكمال والحياة، وتلك هي حجة اللّه المكتملة في حجة الرسل «قل فللّه الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين»(3)، كما يقوم على مبدأ الكرامة الإنسانية وحق الدفاع عن النفس وتحمل المسؤولية وحق المساواة...
«ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً»(4) «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين»(5) «كل نفس بما كسبت رهينة»(6).
على أن يكون المنهج في ذلك كله توحيد الرؤية إلى الكون وتجليات منظومته، ليصل الإنسان في معارج البحث عن الأسرار إلى الحقيقة المطلقة التي تحكم قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ، بما يجعل من قراءة المسيرة الإنسانية قراءة منسجمة في الخط البياني لحركة وحدة النوع، في مدارج التنافس والصراع والجهاد، وصولاً إلى تشكيلات الصيغة العالمية للتعارف والسلام(7)، وبالتالي إلى الصيغة العالمية للإسلام وعقيدة التوحيد.
ولذلك كان الإسلام والاستعباد على طرفي نقيض لا يجتمعان، فليس لمسلم أن يستعبد غيره، وليس للدولة الإسلامية أن تطغى في التحكم في رقاب الناس، ولكن لها الصلاحية أن تحكم بالحق والعدل على المفسدين في الأرض ممن يتجاوز حدود اللّه، أو يتنكب جادة الصراط المستقيم، والأساس في ذلك كله سيادة الإنسان بمفهوم الخلافة الربانية، وحرمة ما له ودمه، ويتضح ذلك من قول الرسول (ص) حينما وقف تجاه الكعبة وأخذ يخاطبها بقوله: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لَحُرمَةُ المؤمن عند اللّه أعظم من حرمتك: ماله ودمه» إن الإنسان المؤمن والملتزم بإسلامه يواجه في هذا العصر مشكلة التوفيق بين مفهوم حرية المعتقد على ضوء ما يدعو إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»(8)، وقوله تعالى: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»(9)، وبين مفهوم الصراع بأشكاله الفكرية والسياسية والعسكرية على ضوء قوله تعالى: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم اللّه يعلمهم»(10).
فالإنسان المؤمن إذ يواجه هذه المشكلة ومخاطرها على مشروعه العالمي للحضارة، يجد نفسه محاصراً بالغزو الثقافي الحديث، فقد عمدت الحضارة الغربية على تصدير أفكارها وفلسفاتها القائمة على بذر روح التعصب والعنصرية والقومية، وأشاعت في العالم لغة النزاع والصراع بمنطق القوة والغلبة، على أساس أن الغالب والمسيطر هو الأصلح للعيش والأصلح للبقاء، وقد واجه القرآن الكريم هذا المنطق بلغته الإنسانية، فاعتبر أن العلاقة بين الناس في دستور القرآن هي علاقة سلم حتى يضطروا إلى الحرب دفاعاً عن أنفسهم أو اتقاءً لهجوم تكون المبادرة فيه ضباً من الدفاع، فالحرب يومئذٍ واجبة على المسلم وجوباً لا هوادة فيه، وهو مع وجوبها مأمور بأن يكتفي من الحرب بالقدر الذي يكفل له دفع الأذى، ومأمور بتأخيرها ما بقيت له وسيلة إلى الصبر والمسالمة.
ومن أجل ذلك، لا تزال الهداية الإسلامية الآخذة في شق طريقها إلى عالمية الهدى والاستقامة، صابرة على وحشة الطريق وآلامه، تقاوم الضلالة وتصار


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=25
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2007 / 04 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18