وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً
هذه الآية وما يليها بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية التي غفل عنها جميع من قصر نظره على المادة و الماديات و اعرض عن الواقع و الحقيقة، و لأجل اهمية المضمون تحقق الالتفات في الآية المباركة عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فكأن هذه الحقيقة لا يمكن دركها بسهولة و لا يتقبلها عقول سائر الناس المأنوسة بالماديات إلا من كان متصلا بالفيض الربوبي و متربيا بالتربية الإلهية و مهتديا بهدى اللّه تعالى
و الآية المباركة رد لجميع مزاعم المنافقين و الكافرين و كل متوهم يتوهم ان الموت هو سبب لصيرورة الميت كالجماد روحا و بدنا و انعدام كل منهما فلا حياة بعد ذلك وراء هذه الحياة الدنيا و لا بعث. و التعبير بالحسبان للاعلان ببطلان هذا الزعم و فساده
و المراد بسبيل اللّه كل سبيل شرع لإقامة الحق و إزاحة الباطل و قمعه سواء كان من الجهاد الأكبر أو الجهاد الأصغر، و تعلم المعارف الربوبية و الاحكام الشرعية، و تهذيب النفس بما يرتضيه اللّه تعالى، بل و يشمل السعي في قضاء حوائج المؤمنين تقربا إلى اللّه تعالى فكل من قتل في سبيل تلك تشمله الآية الشريفة
كما ان المراد بالموت هنا هو الموت الظاهري و سقوط الإدراك لأجل مفارقة تلك الحياة الحيوانية المعروفة
و الحياة الثانية هي الحياة الواقعية المعنوية، فالشهيد بالحق و في الحق تصعد روحه الى الجنة و تعيش في المقامات المعدة لها، فتكون أرواح الشهداء من مظاهر تجليات الحق بالحق و من شوارق اشعة الذات غير المحدودة بحد أبدا.
فالآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية و هي الحياة بعد الموت و ان الإنسان بروحه لا بجسده فحسب فهي التي تشقى أو تسعد و المنافقون و غيرهم غفلوا عن هذه الحقيقة و اقتصروا على ما هو المحسوس و كان قصدهم من ذلك تثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل اللّه تعالى و تقنيطهم عن مأمولهم و ما كانوا يرجونه في جهادهم و قتلهم في سبيل اللّه تعالى لكن الوجدان الانساني يعلن بطلان أقوالهم و يحكم عليهم بالخزي و العار و ان نصيبهم من ذلك الحرمان و الشقاء.
فالآية المباركة ترشد إلى أمر وجداني يذعن الإنسان به بعد أدنى تفكر و روية، و لعل ذلك كله هو الوجه في تأكيد هذه الحقيقة في القرآن الكريم و تكرارها في مواضع متعددة منه و قد تقدم في قوله تعالى وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ» البقرة- 154 فقد نفى عز و جل عنهم الشعور لكثرة انسهم بالماديات و غفلتهم عن الحقائق و المعنويات و بعد التفكير و عدم الاقتصار على الجانب المادي فقط في هذه الحياة تنكشف الحقيقة بوضوح هذا و للإذعان بهذه الحقيقة فوائد كثيرة فانه يوجب الاعتقاد ببقاء الروح و انها تنتقل من عالم الى عالم آخر، كما انه يقتضي زوال كثير من الهموم و الغموم التي تصيب الإنسان في الحياة الدنيا و شدة الاقدام و المثابرة في تحمل المكاره للعلم بأنها إذا كانت في سبيل اللّه تعالى فان لها الجزاء الأوفى و هي توجب السعادة و العيش الهنيء في العقبى
و لذا نرى ان هذه الحقيقة انما تذكر بعد آيات الجهاد و القتال في سبيل اللّه لما لها الأثر الكبير على الصبر في ميدان القتال و المثابرة عند النزال
كما ان الاعتقاد بهذه الحقيقة يكون من اسباب استكمال الإنسان و اعداد نفسه لحياة اخرى بوجه أتم و أكمل كما تدل عليه ذيل الآية الشريفة و آيات اخرى في مواضع متعددة، يضاف إلى ذلك ان لها الأثر الكبير في النفس فتجعلها مطمئنة راضية بما قسمه اللّه تعالى و ما ينزل عليها من المصائب
قوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
إبطال لما زعموه في المقتولين في سبيل اللّه تعالى بأنهم أموات قد انتهت حياتهم بل هم احياء بحياة خاصة و مقربون عند ربهم يتغمون بأنواع الرزق في تلك الحياة الكريمة و سعداء في ذلك العالم الحميد، و قد كرمهم عز و جل بذكر (عند) و الربوبية و اضافتها إلى ضمير هم) و فيه غاية التكريم و التبجيل و قد تقدم في آية (154) من سورة البقرة بعض الكلام فراجع
قوله تعالى: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
الفرح: السرور و هو ضد الحزن اي: انهم مسرورون بما وجدوه من فضل اللّه الذي كان حاضرا مشهودا عندهم، و الفضل هذا يكون زائدا على الرزق فانه ما كان من غير مقابلة قال تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ» فاطر- 30.
و هذه الآية الشريفة تثبت الحياة الكاملة لهم بعد قتلهم، و تبين نهاية السعادة و رفعة الدرجات
قوله تعالى: وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ.
مزيد بيان لتلك الحياة فإنهم في تنعمهم في فضل اللّه تعالى يفرحون بأخبار خيار المؤمنين الباقين في الحياة الدنيا و يستبشرون بسعادتهم و صلاحهم في الآخرة. و انما عبر تعالى: «مِنْ خَلْفِهِمْ» لبيان انهم على طريقة الشهداء و يقتفون أثرهم.
قوله تعالى: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ
بيان لصلاحهم في الآخرة اي: انهم يستبشرون بمن خلفهم بأنهم لا خوف عليهم من المتوقع و لا هم يحزنون من الواقع و انما كان ذلك منهم مشاهدة و إرشادا للمؤمنين بأن لا يخافوا مما يصيبهم و لا يحزنوا مقابل تلك المقامات العالية
و الآيات الشريفة المتقدمة من أجل الآيات التي وردت في اثبات الحياة للروح بعد الموت و اثبات عالم البرزخ و تنعم أرواح الشهداء و ابطال مزاعم الكفار و المنافقين في هذا المجال و هي في غاية الفصاحة و البلاغة بأسلوب جذاب لطيف في منتهى الجمال و الروعة و قد ذكر عز و جل فيها من الدقائق و الرموز التي لا يمكن ان يدركها عقول سائر الناس إلا بواسطة الوحي المبين و ارشاد واسطة الفيض الربوبي و هي تدل على امور نحن نذكر جملة منها في المقام
منها: انه عز و جل ذكر ابتداء الأمر بطلان كل ما قيل من السوء أو يقال في هذا المجال و بين فساد مزاعم المنافقين في أرواح الشهداء و المؤمنين و أدرج جميع ذلك في قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» و يستفاد من ذلك ان الاعتقاد بخلاف ما ذكره عز و جل من مجرد الحسبان الذي لا واقع له.
و منها: ثبوت الحياة الكاملة لأرواح الشهداء التي شرّفها عز و جل و انها حاظت مقام القرب لديه الذي هو من أجل المقامات ولا يعقل محمدة فوق هذه المحمدة لان الشهداء بذلوا أعز الأشياء عندهم و هي الروح فإذا فدّى الإنسان ما هو أعز الأشياء لديه في سبيله جلت عظمته كان الجزاء عظيما و ينال ذلك المقام العظيم و هو مقام القرب و لذا ورد في الحديث انه «فوق كل بر بر إلا القتل في سبيل اللّه فليس فوقه بر» و العندية المذكورة في الآية المباركة ليس المراد بها العندية الظاهرية بل العندية الواقعية الحقيقية التي لا يعقل لها حد. و ليس لجلالها و لا لكمالها غاية فهي خارجة عن الحدود الامكانية و إدراكات العقول و رزقنا اللّه تعالى لمحة من لمحاتها و شارقة من شوارقها
و منها: انها تتنعم في تلك الحياة بأنواع الرزق الظاهرية و المعنوية بجميع مراتبها فلا ينقص من تلك الحياة شيء من اسباب العيش الهنيء و قد منحهم عز و جل ذلك الرزق العظيم لأنهم حرموا في هذه الحياة المحدودة الفانية عن تلك الأرزاق ببذل أعز شيء عندهم في سبيل اللّه تعالى و كانوا في جهاد مستمر مع النفس الأمارة و اعداء اللّه تعالى.
و منها: انهم فرحون بما أتاهم اللّه تعالى من فضله لأنهم وجدوا جزاء أعمالهم تاما كاملا قد منحهم اللّه تعالى الفضل الكبير، و هذا الفرح مما يزيد في بهجة تلك الحياة، و انما كانوا فرحين فيها لأنهم كانوا محزونون في الحياة الدنيا بسبب افعال الكافرين و المنافقين و أقوالهم و ما كان يصيبهم من شدة البلاء و المثابرة في سبيل اللّه تعالى.
و منها: ان المقتولين في سبيل اللّه تعالى لما كانوا يحيون حياة كاملة و يتنعمون فيها بأنواع الرزق و هم فرحون فيها لا يحزنهم شيء مما كان يحزنهم في هذه الحياة الفانية قد أتم اللّه تعالى عليهم النعمة و انهم في اتصال مع خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا يستخبرون عن أحوالهم و يصل إليهم اخبارهم و يسألون عن شؤونهم و يسرون بصلاحهم، و يفرحون بنجاتهم عن سوء العقاب
و منها: انهم بمشاهدتهم جزاء أعمالهم و اعمال المؤمنين فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و بذلك كملت حياتهم لان الحياة التي اشتملت على جميع اللذات و اسباب الفرح و خلصت من جميع ما يوجب الحزن و الخوف لا يعقل فوقها كمال و إذا كان ذلك على وجه الدوام و الخلود و لم يكن في معرض الزوال فلا نقمة من هذه الجهة ايضا، فهذه هي السعادة العظمى، و لذا نرى ان اللّه تعالى يؤكد على هذا الجانب في آيات اخرى قال تعالى: «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى» القصص- 60 و قال تعالى: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ» النحل- 96
و منها: انهم في ولاية اللّه تعالى يرعى شؤونهم و يفيض عليهم ما يوجب استبشارهم في كل آن لأنهم رأوا جزاء ما عملوا حاضرا قد زانه الفضل من اللّه تعالى و بعد اجتماع تلك الخصوصيات في هذه الحياة لا يعقل حياة و لا سعادة فوقها
المصدر : مواهب الرحمان في تفسير القرآن، ج7، ص: 67 _ 61 (بتصرف) |