• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : التاريخية منهجاً للتفسير .
                          • رقم العدد : العدد السابع والعشرون .

التاريخية منهجاً للتفسير

 التاريخية منهجاً للتفسير

 

ألف: التاريخية والتاريخانية التقليدية:

يتجاوز تداول كلمة التاريخ المعنى الشائع والعرفي بأنه علم يبحث في الوقائع والحوادث الماضية إلى رؤية فلسفية وإحالة في التفسير.

فالتاريخانية أو النزعة التأريخية، أو المذهب التاريخي تعبيرات مرادفة لاعتبار التاريخ مبدأً وحيداً لتفسير الفاعلية البشرية وسيرورة الأحداث. أي تفسير كل الظواهر المرتبطة بالإنسان عن طريق شروطها التأريخية، فالتاريخ يكفي نفسه بنفسه، ولا علاقة له بأي مبدأ آخر للتفسير:

أ: التاريخانية تنفي كلّ المبادئ الأخرى كالغيب، فالتاريخانية ليست مجرّد منهج بل هي مذهب يرى أنّ كلّ حقيقة -مهما كانت- نتيجة للشروط التاريخية.

ب: التاريخانية شيء والاعتماد على التاريخ في تفسير بعض الظواهر الاقتصادية والسياسية شيء آخر، فالإحالة التاريخية فهم السياق التاريخي للواقعة، وعدم اقتطاع الحدث من المنظومة التي ينتمي إليها إلى منظومة أخرى وإدراج الوقائع والأحداث في رؤية شاملة تفسر ولا تفرض.

 وبعبارة: إن التفسير الذي يلحظ السياق التاريخي حين ينكر مثلاً الغيب فإنكاره قد يرجع لنزوعه المادي لا التاريخانية، وقد يرجع أيضاً لعدم وجود دلائله في ذلك السياق مع الإيمان بالغيب مبدأً عامًّا.

ومن هنا فإن الاستشراق الكلاسيكي في القرن التاسع عشر وهو يفسر القرآن في إطار التوالد من البيئة الثقافية آنذاك فإنما ينطلق من نزوعه المادي ونفيه للبعد الإلهي لخصوص القرآن على أقل تقدير، ولا يرجع للتاريخانية.

 

 

باء: التاريخية الجديدة[37]:

تعد تسمية التاريخانية الجديدة تمييزاً لها عن التاريخانية التقليدية التي ظهرت في القرن التاسع عشر.. وتلتقي التاريخانية الجديدة مع التاريخانية التقليدية على مفهوم روح العصر، جدلية الواقع والفكر. حيث تؤمن المدرستان بأن الأدب هو جزء من السياق التاريخي العام للمجتمع. لكن لنتوقف قليلاً عندها:

فالخطاب -في التاريخية الجديدة -ليس مغلقاً أو مستقلاً عن بيئته، وإنما هو وسيلة لقوة تتبناه جماعة يتمتعون بأهداف ومصالح مشتركة ويمثلون نسيجاً اجتماعيًّا وثقافيًّا متميزاً داخل المجتمع الإنساني في لحظة تاريخية محددة.

وهنا نفهم كيف يكتسب الخطاب قوته من خلال قوة وهيمنة الطبقة الاجتماعية أو الشريحة التي تتبنى ذلك الخطاب وتماسكه وتطرحه وتكرسه.

وهذا هو بداية التأسيس للبعد التاريخي عند فوكو على مفهوم الخطاب ويجعله المرجعية المعرفية الرئيسة التي تقوم بتنظيم وترتيب الممارسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية لمجتمع معين داخل حقبة تاريخية محددة.

لكن التاريخية تتجاوز المرجعية إلى انحصار كلي فيه، من ثم يرفض فوكو إمكانية وجود معرفة موضوعية بالتاريخ، كما أنه يرفض وجود حقيقة موضوعية ذات طابع عقلاني. فهو يرى أن الاختلاف بين الخطابات لا يمكن في مدى تمثل أحدها للحقيقة الموضوع الموضوعية، وإنما في الخطابات التي يتمتع بها الخطاب داخل الفضاء الاجتماعي والثقافي. وفوكو بمقولاته حول الانقطاعات المعرفية ينقض إمكانية وجود مثل تلك البنية الإدراكية الشمولية خارج التاريخ ويقطع استمراريتها. إنه لا يتحدث عن معرفة شمولية عالمية بل عن حقب سادتها معرفة بعينها. ووفقاً لفوكو فإن كل حقبة في تاريخ الثقافة الإنسانية تنتج منظومتها القيمية والمعيارية والمفاهيمية الخاصة، أي بعبارة أخرى: تنتج خطابها المعرفي الخاص الذي يحدد جميع الممارسات والفعاليات داخل ذلك المجتمع. ويتم على أساس ذلك الخطاب تقييم ما هو مقبول اجتماعيًّا وما هو غير مقبول داخل تلك الحقبة الاجتماعية التاريخية.

وقد كان لمفهوم الخطاب عند فوكو ومقولاته حول الحقب الإبستمولوجية والانقطاعات المعرفية أثراً كبيراً في ظهور التاريخانية الجديدة في منتصف الثمانينات من القرن الماضي في أمريكا.

والتاريخانية الجديدة تتمايز بـ:

1- أن التاريخانية الجديدة لا تنظر للتاريخ على أنه كيان موحد ومتجانس يتمتع بخاصية التطور الجدلي التاريخي، إن تطور الحقيقة التاريخية الجدلية هو بداية التمايز بينهما. وهذه المدرسة تتبنى مقولة فوكو بخصوص الحقب الإبتسمولوجية والانقطاعات المعرفية. وتتجاوز أوحدية المبدأ التفسيري كالاقتصاد في التاريخانية الماركسية وجبرية التاريخ.. نعم في المحصلة يلتقيان في نسبية المعرفة المرتهنة للتاريخ.

3- مثلما لا توجد حقيقة تاريخية موضوعية ويقينية، لا توجد كذلك قراءة بريئة وموضوعية للتاريخ؛ لأننا أنفسنا واقعون تحت تأثير خطاب ثقافتنا السائد، ولابد أن تكون قراءتنا انتقائية ومتحيزة، تلتقط بعض الخطابات وتتجاوز خطابات أخرى لا تتلائم ومعتقداتنا. وبعبارة:

أ: النص الأدبي ليس كياناً جماليًّا مستقلاً عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ب: أن «معنى النص» ليس ثابتاً بل يتغير بتغير ظروف التلقي.

ت: ليست هناك طبيعة إنسانية جوهرية خالدة لا تتغير، كما أن مؤلف النص ليس كائناً مستقلاً موضوعيًّا مفرغاً من الدافعية والأيديولوجيا.

4- تؤكد التاريخانية الجديدة على الانفتاح على جميع أشكال النصوص داخل الثقافة دون إعطاء صفة التفوق للنصوص الأدبية الإبداعية، فكتابات المحامون والصحف اليومية والأطباء والأدب الشعبي كلها تشكِّل جزءاً من سياق تاريخي واحد خاضع لسلطة الخطاب الاجتماعي والسياسي والديني نفسه.

5- لإن التاريخانية الجديدة في الوقت الذي تُعيد الاهتمام بالسياق الثقافي والتاريخي لا تتجاوز النص الأدبي، ولا تتعامل معه بوصفه وثيقةً تاريخيةً مثلما تفعل بعض مدراس تاريخ الأدب. حيث إن السياق لا يؤثر فقط في طبيعة المضمون، وإنما يحدد بشكل حاسم البنية الشكلية للنص الأدبي، ونمط التشكُّل اللغوي والدلالي، وآليات القراءة والتأويل. كذلك إن الناقد المنتمي إلى هذه المدرسة لم يعد يكتفِ بالمقارنة السطحية لظاهر النص، بل يفكك بنية النص سعياً وراء ما يحاول النص إخفاءه والسكوت عنه؛ محاولاً رسم صورة تخطيطية لنمط الخطاب الذي يمثل سياق النص قيد البحث. وبذلك تستفيد التاريخانية الجديدة من العمليات الإجرائية والتحليلية والتفكيكية التي طرحتها العديد من المدارس النقدية ضمن فضاء النظرية الأدبية مثل البنيوية وما بعد البنيوية ومدرسة استجابة القارئ والتاويل.

وخاتمة الإجالة الموجزة؛ إن ملاحظة السياق التاريخي في إطار المنهج هو مائز أساس عن التفسير المذهبي الفلسفي للحراك التاريخي. ومع هذا فإن «التاريخية» تستعمل بالمعنى المذهبي الفلسفي خصوصاً في مثل «المادية التاريخية» للإشارة للماركسية، وإذا تماشينا مع تطور الاستعمال في كتابات الحداثة سيكون التعبير الأنسب هو «التاريخانية». نعم يفضل آخرون تمييزاً بين التاريخية الجديدة والتقليدية بوصف الثانية فقط بالتاريخانية؛ نظراً للاختلاف بينهما، في أن المهم لدينا هاهنا هو التقاؤهما في النسبية المعرفية المرتهنة للتاريخ.

ثالثاً: التاريخية والنص الديني:

ويتضح لمتابع كتابات الحداثة العربية نزوعهم نحو التاريخية الجديد. وفي بحثه عن مدلول التاريخية وتطوره، يقول محمد أركون: «إن مصطلح التاريخية يتعلق بصياغة علمية مستخدمة، خصوصاً من قبل الفلاسفة الوجوديين للتحدث عن الامتياز الخاص الذي يمتلكه الإنسان في إنتاج سلسلة من الأحداث والمؤسسات والأشياء الثقافية التي تشكل بمجموعها مصير البشرية»، ويعرفها آلان تورين بصفتها «المقدرة التي يتمتع بها كل مجتمع في إنتاج حقله الاجتماعي والثقافي الخاص به ووسطه التاريخي الخاص به أيضاً»[38].

في هذا الإطار فإن الاقتراب التاريخي في التعامل مع النص يعني أن النص إنما هو نتاج وتعبير عن المجتمع والثقافة التي نشأ في ظلها، ويترتب على هذا بالضرورة أن نطاق صلاحيته وملاءمته إنما يكون محدوداً بالإطار التاريخي والاجتماعي الثقافي لهذا المجتمع، في حين تكون للمجتمعات التاريخية الأخرى تعبيراتها التاريخية المتباينة.

وبعبارة موجزة: إن التاريخية المفترضة للقرآن تتجاوز المعنى العرفي أي التحقق إلى جملة من المستويات:

1- تفاعل النص والسياق التاريخي الاجتماعي:

فالقرآن نص متفاعل مع زمانه، ومن ذلك ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾[39]. وهذه التفاعلية أنتجت بحوث تتعلق بـ«أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ» و«المكي والمدني» و «ترتيب النزول»... هذا الوجود التاريخي التفاعلي للنص القرآني تفصله روايات المفسرين في «علوم القرآن».

والارتباط التفاعلي هو بوابة البحث التاريخي عبر تلك العناوين للمستوى الثاني.

2- التاريخانية، وانتماء القرآن التاريخي:

فـ«تاريخية النص» تعني ربط القرآن بسياق نزوله الزمني اجتماعيًّا وثقافيًّا ربطاً يتضمن معنى النسبية والتأطر بذلك السياق الزمني[40].

وبعبارة نفصلها في الآتي:

أولاً: نزع صفة الخلود والصلاحية لكل زمان ومكان عن القرآن باعتباره نصًّا تاريخيًّا محكوماً بشروط تاريخية وظرفية يزول بزوالها. أي ربط القرآن بسياقات تنزله من خلال «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ» و«المكي والمدني»... وهنا سنجد تشابهاً مع أعمال الدراسات الاستشراقية.

نعم دأب المستشرقون على تسليط الضوء على بشرية القرآن، في حين أغفل الحداثيون المشرقيون هذه النقطة، مركِّزين الجهد على دراسة تاريخانية تسكت عن ارتباط النص بأصله الإلهي أو البشري وتنشغل بالفهم والتحليل للنص من خلال منهجية تُحيله لسياق نزوله.

هذا السكوت مراوغ وفاعل لا يتصف بالسلبية، وإنما هو يعني فيما يعنيه:

ألف: نزع القداسة والتعالي عن النص، وإحالته لسياقه الزمني كما يقول محمد أركون:

«استخدمت هنا مصطلح الظاهرة القرآنية، ولم أستخدم مصطلح القرآن عن قصد، لماذا؟، لأن كلمة قرآن مثقلة بالشحنات والمضامين اللاهوتية. وبالتالي فلا يمكن استخدامها كمصطلح فعّال من أجل القيام بمراجعة نقدية جذرية لكل التراث الإسلامي وإعادة تحديده أو فهمه بطريقة مستقبلية استكشافية، فأنا هنا أتحدث عن الظاهرة القرآنية كما يتحدث علماء البيولوجيا عن الظاهرة البيولوجية أو الظاهرة التاريخية، وأهدف من وراء ذلك إلى وضع كل التركيبات العقائدية والإسلامية وكل التحديدات اللاهوتية والتشريعية والأدبية والبلاغية والتفسيرية... إلخ.. على مسافة نقدية كافية مني كباحث علمي»[41].

وخلخلة قداسة هذا النص الكريم نلحظها في مدَّعيات مختلفة؛ إذ هو آرامي وعبراني أو سرياني المنشأ. فيذكر محمد أركون[42] تأكيداً حاسماً لتوصيف لا عربية النص الديني، فكتب معبِّراً عن مرجعيته الواحدية والنهائية: ويرى المستشرقون المتخصصون بفقه اللغة أن كلمة «قرآن» ذات أصل سرياني أو عبري. وأيضاً؛ هو نص أسطوري[43] قابلاً للدراسة والأخذ والرد.

باء: احتفاظ بمستوى ديني محدود يتمثل في رؤية مفادها أن الدين روحاً سامية وأهدافاً نبيلة ينبغي الحفاظ عليها في جوهرها الذاتي، الغايات، في حين أن الشكل، العرض الطقوس هي محققات مرتبطة بسياقات تاريخية لا ينبغي التوقف عندها. فالمرتبط بالسياق الزمني هو شعائر وأحكام الدين دون غاياته.

 

 

ثانياً: الشك في موثوقية النص القرآني:

يقول أركون: «ويمكنني أن أقول بأن المقدس الذي نعيش عليه أو معه اليوم لا علاقة له بالمقدس الذي كان للعرب في الكعبة قبل الإسلام، ولا حتى بالمقدس الذي كان سائداً أيام النبي»[44].. وبناء على ذلك فهو يشكك في الرواية الإسلامية لقصة جمع القرآن، حيث يقول: «راح الخليفة الثالث عثمان.. يتخذ قراراً نهائيًّا بتجميع مختلف الأجزاء المكتوبة سابقاً والشهادات الشفهية التي أمكن التقاطها من أفواه الصحابة الأُوَل. أدى هذا التجميع عام 656م إلى تشكيل نص متكامل فُرض نهائيًّا بصفته المصحف الحقيقي لكل كلام الله كما قد أوحي إلى محمد. رفض الخلفاء اللاحقون كل الشهادات الأخرى التي ترى تأكيد نفسها مصداقيتها؛ مما أدى إلى استحالة أي تعديل ممكن للنص المشكل في ظل عثمان»[45].

ويقول أركون أيضاً: لننتقل الآن إلى ما يدعوه الناس عموماً بالقرآن. إن هذه الكلمة مشحونة إلى أقصى حد بالعمل اللاهوتي والممارسة الطقسية الشعائرية الإسلامية المستمرة منذ مئات السنين، إلى درجة أنه يصعب استخدامها كما هي. فهي تحتاج إلى تفكيك مسبق من أجل الكشف عن مستويات من المعنى والدلالة كانت طُمست وكُتبت ونُسيت من قبل التراث التقويّ الورع... وهذه الحالة لا تزال مستمرة منذ زمن طويل: أي منذ أن تم الانتقال من المرحلة الشفهية إلى المرحلة الكتابية ونشر مخطوطة المصحف بنساخة اليد أولاً ثم طباعة الكتاب ثانية. وهذه العمليات حبّذت صعود طبقة رجال الدين وازدياد أهميتهم على مستوى السلطة الفكرية والسياسية. وهذه الحالة تتناقض مع الظروف الاجتماعية والثقافية الأولية لانبثاق وتوسّع ما يدعوه الخطاب القرآني الأولي بالقرآن أو الكتاب السماوي: أو الكتاب بكل بساطة. وهو القرآن المتلو بكل دقة وأمانة وبصوت عالٍ أمام حفل أو مستمعين معينين. لنُسَمِّ هذ القرآن إذن بالخطاب النبوي[46]. وقال أيضاً: إليكم الآن المعيار الأساسي والحاسم: إن موضوع البحث هو عبارة عن مجموعة من العبارات الشفهية في البداية. ولكنها دُوِّنت كتابة ضمن ظروف تاريخية لم توضّح حتى الآن أو لم يُكشف عنها النقاب. ثم رُفعت هذه المدونة إلى مستوى الكتاب المقدس بواسطة العمل الجبار والمتواصل لأجيال من الفاعلين التاريخيين[47].

فالقرآن لم يصلنا بـسند مقطوع الصحة؛ لأن القرآن -كما يقول- لم يُكتب كله في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بل كُتبت بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن فيما بعدُ، ويزعم أن المبررات السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون فقط على قرآن واحد ويتركون ما عداه[48].

ومن أجل أن يمهد لما يريد من إنكار القرآن سنداً في أول الأمـر يدخل بعد ذلك إلى نصوص القرآن فيشكك في القصص والأخبار، ويرى أن التاريخ الواقعي المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة!

ولنقرأ له هذا النص الذي يجد القارئ في كتبه كثيراً مثله، يقول: «ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي المحسوس»[49]. فإذن؛ القرآن محتاج إلى إعادة تحقيق.. يقول أركون: هكذا نجد أن المعركة التي جرت من أجل تقديم طبعة نقدية محقّقة عن النص القرآني لم يعد الباحثون يواصلونها اليوم بنفس الجرأة كما كان عليه الحال في زمن نولدكه الألماني أو بلاشير الفرنسي. لم يعودوا يتجرؤون عليها أو على أمثالها خوفاً من رد فعل الأصولية الإسلامية المتشددة. وهذه الطبعة النقدية تتضمن بشكل خاص إنجاز تصنيف كرونولوجي أي زمني للسور والآيات من أجل العثور على الوحدات اللغوية الأولى للنص الشفهي. ولكن المعركة من أجل تحقيق القرآن لم تفقد اليوم أهميتها على الإطلاق. وذلك لأنها هي التي تتحكم بمدى قدرتنا على التوصل إلى قراءة تاريخية أكثر مصداقية لهذا النص... يبدو لي أنه من الأفضل أن نستخلص الدروس والعبر من الحالة اللامرجوع عنها والتي نتجت عن التدمير المنتظم لكل الوثائق الثمينة الخاصة بالقرآن، اللهم إلا إذا عثرنا على مخطوطات جديدة توضح لنا تاريخ النص وكيفية تشكله بشكل أفضل[50].

ويتأسف أركون لأن الديانتين السابقتين قد شُكِّك في كتابيهما «أما الإسلام، ومن ثم القرآن، فقد بقي في منأى عن انقلابات الحداثة وشكوكها»[51].

ثالثا: في ترتيب القرآن:

ترتيب القرآن الكريم فوضوي. حيث يقول أركون: نحن نعلم أنّ نظام ترتيب السور والآيات في المصحف لا يخضع لأي ترتيب زمني حقيقي، ولا لأي معيار عقلاني أو منطقي. وبالنسبة لعقولنا الحديثة المعتادة على منهجية معينة في التأليف والإنشاء والعرض القائم على المحاجّة المنطقية، فإن نصّ المصحف وطريقة ترتيبه تدهشنا بفوضاها[52].

وإذا كان لنا أن نختم الاستشهادات فهو بعبارة تحيل على الاستشراق؛ حيث يقول: جميع أنماط القراءة التي استعرضناها حتى الآن تقود إلى نفس النتائج والملاحظات: وهي أن تقدم الدراسات القرآنية قد تم بفضل التبحّر الأكاديمي الاستشراقي منذ القرن التاسع عشر[53].

تأثير الزمان في التاريخانية

إن الخطاب القرآني حين يخاطب الناس أو المؤمنين بـ«يا أيها» فإن المقصود بالناس هنا الجماعة الأولى التي كانت تحيط بالنبي، والتي سمعت القرآن من فمه أول مرة[54].

وتوضيح المراد؛ فإن أحكام العقوبات مثلاً الواردة في القرآن الكريم إنما أملتها ظروف الحياة القاسية وطبيعة ثقافاتهم وعوائدهم العنيفة، فتكون العقوبات القاسية أهون الضررين وملائمة لتلك الحياة القاسية، وإذا ما تغيَّرت الأحوال والثقافات فإن «آلية السجن» نظاماً للعقوبة بما أنه يوفر علاجاً للجريمة هو أفضل من تلك لقسوتها.

أما الإلزام هو رهن ملائمة الظروف الاجتماعية الثقافية، فللمسلمين في كل عصر أن يفهموا القرآن بصورة تتلائم مع متطلباتهم. ويمكن أن يؤتى بـ«المكي والمدني» شاهداً على رعاية القرآن لظروف المخاطبين.

 

تاريخانية حامد أبو زيد

يؤسس أبو زيد التاريخية بتوضيح أن البعد التاريخي للنصوص «لا ينصرف فحسب إلى ما تشير إليه كتابات السلف من تفاعل للنص مع الواقع عبر نقاط تماس، مثل: أسباب النزول، أو علم الناسخ والمنسوخ، وإنما عبر وعاء ضخم هو اللغة ومفاهيمها»، إن النصوص الدينية ليست في التحليل الأخير سوى نصوص لغوية، بمعنى أنها تنتمي إلى بنية ثقافية محددة تم إنتاجها طبقاً لقوانين تلك الثقافة التي تعد اللغة نظامها الدلالي المركزي»[55].

«فالقرآن وهو نص ديني ثابت من حيث منطوقه، لكنه من حيث أنه يتعرض له العقل الإنساني يصبح مفهوماً يفقد صفة الثبات، وتتعدد دلالاته، إن الثبات من صفات المطلق والمقدس، أما الإنساني فهو نسبي متغير. والقرآن مقدس من ناحية منطوقه، لكنه يصبح مفهوماً بالنسبي والمتغير، أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص إنساني يتأنسن»[65]. وهذه «الأنسنة» تتداعى بصورة فجة.. فنلاحظ اعتبار السنة تأويلاً زمنيًّا[66]، ونلاحظ مثل مسايرة القرآن للثقافة العربية فيما يتعلق بالجن[56]..

ويعرض منهجه في تحليل النص القرآني في التأويل التاريخاني، «بمعنى أن دلالتها لا تنفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي تعد جزءاً منه يجعل من اللغة ومحيطها الثقافي مرجع التفسير والتأويل»[57].

ويحدد منهجه فيما أسماه «منهج القراءة السياقية» في كتابه «دوائر الخوف»[58]، وخلاصته: التمييز بين «المعاني» والدلالات التاريخية المستنبطة من السياق من ناحية، وبين «المغزى» الذي يدل عليه المعنى في السياق التاريخي - الاجتماعي للتفسير، أي في زمن المفسر من ناحية أخرى.

ويقول أبو زيد: «إن البحث عن المقصد من خلال العرضي والمتغير هو الكفيل بتقديم قراءة مشروعة للنصوص الدينية، قراءة موضوعية بالمعنى النسبي التاريخي، ذلك أنه مع تغيّر الظروف والملابسات والأحوال... نحتاج إلى قراءة جديدة تنطلق من أساس ثابت هو المقصد الجوهري للشريعة»[59].

حقوق المرأة في التاريخانية

والمثال التطبيقي الشائع[60] في التاريخانية الإرث ونصيب البنت كما هو في الآية ﴿يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾[61].

ويمر هذا التحليل التاريخاني بمحطتين؛ أولاهما تحليل الظرف الاجتماعي المرافق لولادة الحكم[62]، والثاني الغوص في غاية الحكم والاحتكام إليها فيما يستجد من ظروف. وهذا يقتضي أن يكون القرآن حين نزوله معالجاً أوضاع الناس، فإذا ما تغيرت تلك الأوضاع والأحوال فالمؤمن في حل من تلك الفروض القرآنية، فهي لا تعنيه ولا تشمله!.

واستخدم أبو زيد منهجه القراءة السياقية في تحليل النصوص المتعلقة بالمرأة وحقوقها، وانتهى إلى أن كثيراً من الأحكام التي يستند إليها «المهاجمون للإسلام والثقافة العربية والإسلامية» في مسألة حقوق المرأة لم تكن تاريخيًّا من التشريعات التي أتى بها القرآن[63].

 

·     الموضوع مقتبس من مقال للسيد جعفر العلوي اقتصرنا على نقل بعضه مع تصرف  .

 

هوامش

[37] راجع: ميشيل فوكو بين التاريخية الجديدة والمادية الثقافية.. معن الطائي. موقع الكتروني: www.ahewar.org

وقراءات في ضوء التاريخية الجديدة... د. بهاء الدين محمد مزيد. موقع الكتروني:

www.ofouq.com

[38] أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص 116.

[39] سورة الإسراء: 106.

[40] انظر: اركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية؛ ص20. أبو زيد، النص السلطة الحقيقة.. إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة؛ المركز الثقافي العربي، ص139.

[41] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، نحو تاريخ أفضل للفكر الإسلامي: 199.

[42] الفكر الإسلامي.. نقد واجتهاد، دار الساقي للطباعة والنشر 1998، ص77.

[43] محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص22 وما بعدها.

[44] مجلة مواقف: ع 59/ 60، ص 20.

[45] تاريخية الفكر الإسلامي، المركز الثقافي العربي 1998، ص 288. وانظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل؛ ص41 - 135 - 284.

[46] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص29 - 30.

[47] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص41.

[48] محمد أركون الفكر، الإسلامي نقد واجتهاد، ص85 - 86.

[49] أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص23.

[50] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. ص44 - 45

[51] الفكر الإسلامي: قراءة علمية، ص 278.

[52] الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، ص90

[53] الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص70.

[54] أركون: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص30.

 

 

 

[55] أبو زيد، مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1990. ص 193.

[56] أبو زيد، نقد الخطاب الديني، القاهرة: دار سينا للنشر، 1992، ص 93.

[57] حامد نصر أبو زيد؛ نقد الخطاب الديني، مكتبة مدبولي 2003، ص206.

[58] نقد الخطاب الديني، ص35.

[59] أبو زيد، الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، القاهرة: دار سينا للنشر، ط 1، 1992، ص 198.

[60] أبو زيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط4، 2004، ص202 ــ ص 218.

[61] دوائر الخوف، المركز الثقافي العربي، ص69.

[62] قارن؛ التراث والحداثة، د. الجابري، 54. مركز دراسات الوحدة، ط1 - 1991.

[63] سورة النساء، الآية 11.

[73] ومثال آخر في حجب البنت عن ميراث الأرض؛ إن المجتمع العربي قبلي، وإحدى نزاعاته هي حول المراعي. والملاحظة الثانية؛ أن المجتمع العربي يفضل التباعد في الزواج وسيلةً لإنشاء التحالفات، فتوريث البنات يخلق توترات على حقوق الرعي، ومع ملاحظة عادة تعدد الزوجات فهذه توفر مناخاً لتركيز الثروة عبر النساء، لأن المجتمع العربي ذكوري فما تملكه المرأة يؤول بطريقة أو بأخرى للزوج.

[74] أبو زيد، دوائر الخوف، ص 206 - ص 214.

 

 


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=569
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28