• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : فكر .
                    • الموضوع : تجلّيات العبادة في نطاق السلوك السياسي .
                          • رقم العدد : العدد السابع والعشرون .

تجلّيات العبادة في نطاق السلوك السياسي

 تجلّيات العبادة في نطاق السلوك السياسي

(الإمام الخميني نموذجا)

الشيخ حسن  بدران

ثمّة تساؤل يُطرح حول مبرّر الخوض في مفهوم السياسة، وموضوعة الفصل بين الدين والسياسة، وما لهذه القضايا من علاقة وارتباط بمادّة العبادة. إنّ أي إجابة يمكن أن تتّسم بالصفة الموضوعيّة، لا بدّ من أن تنطوي على نسق ما، يفسّر لنا كيفيّة انبثاق هذه الجزئيّة محلّ البحث عن بيئتها الأم المتمثلة بالرؤية الكليّة لنهج الإمام الخميني(ره). ذلك أنّ مَن يقف على مقوّمات شخصيّة الإمام(ره) يجد أنّ المسارات الفلسفيّة والعرفانيّة والفقهيّة فيها تشكّل بأجمعها كلاّ مترابطا، تقوم الفلسفة فيه بدور الإضاءة على الهدف، ويقوم الفقه بدور القوننة وضبط معالم الطريق، ويقوم العرفان بدور الدافعيّة والمحركيّة في ذلك الاتّجاه. وبالتالي، علينا أن نبحث عن الإجابة في ذلك الترابط الصميمي لنرى من خلاله كيف أنّ النهج الذي اتّبعه الإمام(ره) في سلوكه السياسي نابع - في جانب من أهم جوانب مكوّنات شخصيّته - من تكوينه العرفاني المعنوي، وبالتالي يتحتّم علينا أن لا نغفل ونحن نتلمّس منهج الإمام(ره) في السياسة، أنّ السياسة والإدارة بنظره لا ينفصلان عن الذوق العرفاني والمشرب المعنوي. على أنّه ثمّة إشارة مهمّة في هذا المجال، تنمّ عن وجود حالة توازن وتوازٍ في المسارين المعنوي والسياسي في نهج الإمام(ره)، وأنّ المنهج المتّبع على صعيد الأخلاق وبِناء النفس يتماهى والمنهج المعتمد على صعيد استنهاض الأمّة وبناء المجتمع؛ إذ ثمّة خيط رفيع يقودنا إلى استشفاف وحدة المنهج المعتمد على كافّة الأصعدة الإنسانية؛ النفسيّة منها، والسياسيّة، والاجتماعيّة، والثقافيّة. يقول سماحة السيّد حسن نصر الله(حفظه الله) في هذا الصدد: «هناك في موضوع النهضة إضافة مميّزة من الإمام بصفته عارفا شامخا؛ إذ إنّني أظنّ ولا أجزم أنّ الإمام طبّق وأجرى في حركته الجهاديّة والنهضويّة في مواجهة الشاه والاستكبار منهجه نفسه في السير والسلوك العرفاني إلى الله - تعالى - أو اقتبس منه الكثير، فنجد الإمام يدعو الشعب مثلا إلى اليقظة، والابتعاد عن الغفلة، والتفكّر بحالته، وبما فعله الشاه وأسياده في إيران، كأوّل شرط للنهوض. وهذه التعابير والمضامين نفسها يعتبرها الإمام في دروسه الأخلاقيّة أوّل شرط للسير باتّجاه الحقّ - تعالى - ومجاهدة النفس. ثمّ يدعو الشعب إلى أن يتسلّح كشرط ثان بالعزم والإرادة، ويتّخذ قراره بحسم المعرفة، وهذا العزم يعتبره الإمام شرطا للسير إلى الله - تعالى - في جميع المراحل والمقامات على اختلافها، وهكذا أقول إنّي أظنّ، وهذه نقطة جديرة بالتأمّل»[1]. وحتّى على مستوى اللغة ومفرداتها، نجد أنّ الإمام يصوّر الصراع بين قوى النفس كما لو كان صراعا بين الجنود الرحمانيّة والجنود الشيطانيّة، جنود العقل والجهل، ويصوّر النفس وجوارحها بالمملكة وأقاليمها. إنّ هذا يثير إيحاءات ودلالات غنيّة ذات صلة، تقودنا إلى التساؤل عن مدى ارتباط الحقيقة الأخلاقيّة النفسيّة بالحقائق الاجتماعيّة والسياسيّة والإنسانيّة عموما. ثمّة إضاءة في هذا الجانب، أوردتها السيّدة فاطمة طباطبائي في كلمة عن الإمام(ره)، تعرّضت فيها إلى ذلك التماسك والالتقاء بين البعد المعنوي الأخلاقي والبعد العملي السياسي، تقول: «إنّ إدخال السياسة المعنويّة في مجال السياسة يعتبر من جملة تنظيرات الإمام التي سمّيتها بالسياسة المعنويّة.. وفي هذه الرؤية يمضي العرفان قدما ليتخلّص في خطوة أولى من الأنانيّات والأهواء النفسيّة (التنزّه). ثمّ في خطوة ثانية يتحلّى بالصفات والكمالات الإلهيّة (التجمّل). ومن خلال هذا، يتّضح أنّ العرفان النظري والعملي في فكر الإمام لا يقبل التجزئة؛ إذ يتبنّى الإمام العمل القائم على الفكر والوعي، وكذا يتبنّى الفكر والوعي الذي يؤدّي للعمل والتطبيق، لذلك يوصي الإمام بطلب العلم ويرى من الضروري تطبيق ما يتعلّمه المرء طوال الحياة، ويصرّح أنّ السلوك العلمي ينبغي أن يكون مقدّمة للسلوك العملي. وهكذا فإنّ ما كان يؤمن به الإمام من جهة نظريّة باعتباره رجل سياسة، وعالم دين، ومفكّرا، كان يتجسّد في أعماله وسلوكه. فقد كان يؤمن في الجانب النظري بحقيقة (ألاّ مؤثر في الوجود إلاّ الله)، و(لا حول ولا قوّة إلاّ بالله). وقد تجلّت هذه المعرفة الراسخة في حياته بحيث إنّه لم يكن يخشى أيّ قوّة، ولذلك كان يوصي أتباعه أن لا يتّكلوا إلاّ على القادر الأزلي»[2]. ويمكن تلمّس جذور المنهج العرفاني والذي كان له  تأثير واضح في تكوين شخصيّة الإمام(ره) على أكثر من صعيد، بوصفه المنهج الذي يؤسّس لنهج الإمام(ره) السلوكي في المجالات المختلفة العامّة؛ فقد أحكم الإمام(ره) ذلك الربط في سلوكه بين الأبعاد الروحيّة والفكريّة من جهة، والبعد العملي المتمثّل - في أحد أهمّ تجلّياته - بالنهج السياسي من جهة أخرى. وهذا المعطى يقودنا إلى مشارف الحقيقة التالية: وهي أنّ السلوك العلمي في حياة الإمام(ره) ما هو إلاّ مقدّمة للسلوك العملي؛ وأنّ المسالك العلميّة المتشعبة لا تتوفّر على شرط الإنتاجيّة والجدوائيّة ما لم تتجسّد في شكل سلوك وعمل. وأكثر من ذلك، يعتبر الإمام أنّ «كلّ العلوم عمليّة، وهو بالتالي لم يفصل بين العلوم، بل رفض كلّ الثنائيات وصولا إلى توحيد الوجود»[3]. وكما أنّ لهذا الربط خلفيّته الفكريّة والثقافيّة، كذلك له نتائجه على مستوى الرؤية والهدف؛ فهو يقوم على الإيمان بأنّ العبادات في الإسلام كلّها سياسة، وأنّ السلوك السياسي ما هو إلاّ ترجمة دقيقة للسلوك العرفاني في نطاق الشأن العام. وعلى هذا، فإن قضيّة الفصل بين الديني والسياسي لن تعدو أن تكون حلقة من حلقات ذلك الصراع القديم المتجدّد بين النزعتين الماديّة والإلهيّة، صراع القيم الحضاريّة بين شعلة الروح وارتكاسة البدن، وحين يتحوّل «أسلوب الخداع» الذي يتسالم الكلّ على ذمّه (دينيّا) إلى أسلوب ذكي ومطلوب في السياسة (دنيويا)، ندرك حينئذ خطورة التقنين التاريخي في بناء المفهوم وترسيخه في الأذهان، ذلك المفهوم المكيافلّلي الذي يبرّر للوسيلة بالغاية، وتاليا، يدفع بقوّة إلى إقصاء مسحة الدين الحنيفيّة عن كافّة جوانب الحياة. من هذا المنطلق، أعلن الإمام(ره) عن رفضه القاطع لممارسة الخداع السياسي، والذي جاء على لسان أحد أتباع السلطة بصورة النصيحة للإمام(ره): أيّها السيّد إنّ السياسة كذب وخداع وغش ونفاق. فدعوا ذلك لنا نحن. فأجابه الإمام(ره): نحن منذ البداية لم نتدخّل في هذه السياسة التي تتكلّم عنها. فيرى الإمام(ره) أنّ للسياسة - الشائعة في البلدان - صورة ناقصة عن السياسة التي أثبتها الإسلام للأنبياء والأولياء. فالأنبياء والأولياء سعوا لهداية الأمّة، أرادوا أن يسلكوا طريقا يستوعب المنافع المتصوّرة للإنسان والمجتمع كافة. فالسياسة تعني توجيه المجتمع وهدايته، وأن يؤخذ بيده لما فيه خيره ومنافعه، وأن ينظر فيها إلى أبعاد الإنسان والمجتمع كافة، وأن توجّه الوجهة التي فيها صلاح الأمّة والأفراد. ومثل هذا منحصر بالأنبياء وحدهم، وليس بإمكان الآخرين أن يحقّقوا ذلك. وهذا المفهوم الإسلامي يصطدم مع المفهوم الغربي، والذي ينظر إلى السياسة على أنّها علم القدرة، والتسلّط، وحمل الأفراد على الطاعة. وهو معنى يلتقي مع السياسات الشيطانيّة التي يلازمها الخداع والتحايل ونحوها من مفردات. وفي المقابل تهدف السياسة المعنويّة التي دعا إليها الإمام(ره) إلى قيادة الإنسان نحو صلاحه وكماله المنشود في مختلف شؤونه الدنيويّة والأخرويّة؛ وبهذا تلتقي السياسة في أهدافها وغاياتها مع الدين في كلّ مترابط لا يتجزأ؛ إنّ السياسة في الإسلام لا تنفصل عن الأخلاق، فلا قيمة لأيّة حركة ثقافيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو سياسيّة لا تحمل مضمونا روحيّا أخلاقيّا. والسياسة ليست مجرّد إدارة لشؤون الحياة والجماعة والدولة وحراسة لها، وإنّما هي بالدرجة الأولى «تربية وتغيير وتكامل»[4]. والفارق كبير بين أن تكون هاديا ومربّيا، وبين أن تكون إداريّا وحارسا؛ ففي المدلول الأوّل ثمّة رساليّة تبدأ من «تحت»، بينما في المدلول الثاني سلطة واقتياد وسيطرة تبدأ من «فوق»[5]. وتتميّز «السياسة المعنويّة» عن سائر السياسات المتداولة بالاستقامة والأخلاقيّة والروحيّة. ووفق هذه السياسة تمتزج الأخلاق والروحانيّة بالعمل والسلوك، وتتحوّل الدولة إلى وسيلة وطريق معبّدة وبراق عروج يقود البشريّة إلى العبوديّة الجماعيّة لله الواحد القهار، حيث سعادتها واستقرارها. وهكذا تغدو السياسة في العالم الأدنى مظهرا من مظاهر الحقائق العرفانيّة في العالم الأعلى. ويرى الإمام(ره) أنّ الحكومة والدولة والبنى الاجتماعيّة والسياسيّة لا قيمة لها في نفسها ما لم تتحوّل إلى وسائل للتربية والتكامل والتغيير نحو الأفضل، يقول(ره): «السبب في أنّ الأنبياء أرادوا تحقيق الحكومة العادلة في الدنيا هو أنّ هذه الحكومة العادلة - ذات الأهداف الإلهيّة والأخلاق والقيم المعنويّة - يمكنها فيما لو تحقّقت أن تكبح جماح المجتمع، وتصلحه إلى حدّ كبير. طالما كانت الحكومات بيد الجبابرة والمنحرفين، وبيد الذين يرون القيم في آمالهم النفسيّة، ويعتبرون أنّ القيم الإنسانيّة تكمن في التسلّط وفي الشهوات، فإنّ الإنسانيّة ستسير نحو الانحطاط. لو تحقّقت آمال الأنبياء في دولة معينة - ولو بعضها - فإنّ تلك الدولة ستسير نحو الإصلاح»[6].

 

فلسفة السياسة المعنويّة

تبتنى السياسة المعنويّة في الإسلام على محوريّة التوحيد في النظرة إلى الكون والإنسان، وهو الأصل الذي تنبثق منه كافّة الرؤى، ولهذا يرتبط رفض الإمام(ره) للفصل المزعوم بين الشأن الديني والشأن السياسي بالفهم الدقيق للمفهوم التوحيدي في الإسلام، وهو يصرح بدحض مقولة الفصل في أكثر من موضع في كتبه ومؤلفاته وخطاباته، ويتعرّض لها حتّى في رسائله العرفانيّة، فيقول في إحدى رسائله: «سيرة الأنبياء العظام(ص) والأئمة الأطهار(ع) الذين هم صفوة  العارفين بالله، والمتحرّرين من كل قيد وغلّ، والمتعلّقين بالساحة الإلهيّة، هي القيام بكل قوّة ضد الحكومات الطاغوتيّة فراعنة الزمان. وقد تجرّعوا كؤوس الآلام من أجل إجراء العدالة في العالم، وبذلوا الجهود التي تلقّننا الدروس. وإذا كانت لنا عين بصيرة وأذن سميعة فسنجد فيها ما يفتح أمامنا الطريق: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين، فليس بمسلم»[7]،[8]. والملاحظ في هذا النص تركيز الإمام في رفضه لمقولة الفصل على السيرة الروحيّة لهؤلاء العظماء: «الذين هم صفوة العارفين بالله، والمتحرّرين من كل قيد وغلّ، والمتعلّقين بالساحة الإلهيّة». وفي ذلك إشارة واضحة إلى المرتكز الأساس في الفهم الصحيح لمقاصد الدين الإسلامي على كافّة المستويات بما فيها المستوى السياسي والشأن العام، وهو التوحيد في أدقّ معانيه وأعمقها دلالة. إنّ مقاربة هذا المنحى التوحيدي يتمّ على أكثر من صعيد، وسوف نختار المقاربة التي تنسجم مع منهج العرفان النظري، وهو المجال الذي استعرض فيه الإمام الخميني(ره) فكرته عن الأسفار الأربعة، وتحديدا في كتابه «مصباح الهداية». وحيث إنّ غرضنا من هذه الأسفار يتعلّق بالحديث عن الأسفار الثلاثة الأولى فقط، سوف نقتصر على المقدار المطلوب دون الخوض في شرح هذه الأسفار إلاّ بمقدار الحاجة. ففي السفر الأوّل المسمّى بالسفر من الخلق إلى الحقّ، يتجاوز السالك عالم الكثرة إلى عالم الوحدة. ويقصد بالوحدة وحدة الشهود لا وحدة الوجود. ووحدة الشهود هي أن تغلب على السالك أحكام الوحدة؛ فالملك لله الواحد القهار، وليس في الوجود غيره - تعالى -. وفي السفر الثاني المسمّى بالسفر في الحقّ (بالحقّ)، يتخلّق السالك بأخلاق الله، ويتحقّق بأسمائه حتّى يحصل له التمكّن. فهذا السفر هو سفر من اسم مقيّد إلى اسم مطلق، حتّى يقف السالك على حقائق عالم الأسماء والصفات. والحقّ هنا هو الأسماء الإلهيّة، وإلاّ فلا سبيل للسالك إلى الذات الإلهيّة. وفي السفر الثالث المسمّى بالسفر من الحقّ إلى الخلق (بالحقّ)، يعود السالك إلى عالم الكثرة التي كان قد ذهل عنها بعد أن استغرق في شهود الوحدة. ويعبّر أهل المعرفة عن هذا بالصحو بعد المحو، وبالبقاء بعد الفناء. ويقف السالك هنا على حقائق عالم الإنسان، ويدرك حقائق الأشياء والأفعال، وحقيقة كل شيء هي عين الربط بالله- سبحانه -. نلاحظ في السفر الأوّل عزوف عن الكثرة، بينما في السفر الثالث رجوع إلى الكثرة، يتخلّلهما استغراق في عالم الوحدة. ولا بدّ من ملاحظة أنّ الكثرة في السفر الثالث غير الكثرة في السفر الأوّل؛ إذ الكثرة في السفر الأوّل تغيّب الوحدة وتحجبها، بينما هي في السفر الثالث لا تحجب عن الوحدة وإنّما تنسجم معها على قاعدة: ما رأيت شيئا إلاّ ورأيت الله معه وقبله وبعده وفيه. ولعلّ هذا يلقي الضوء بصورة أوضح على اختلاف النظرة في الموقف من تدخّل العارف الربّاني في الشأن العام، سواء في ذلك الشأن الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي. فالعارف الذي يختار العزلة ويجتنب التدخّل في الشأن العام، يرى أنّ ذلك من الصوارف التي تحول دون عمليّة السلوك. وهذا السلوك منه ينسجم مع السلوك في السفر الأوّل حيث تكون الكثرة حاجبة للوحدة، وتكون كل همّة السالك في العزوف عن الكثرة. أما العارف الذي يرفض العزلة ويرى أنّ التدخّل في الشأن العام من صميم الدين، فإنّ سلوكه هذا ينسجم مع السلوك في السفر الثالث، إذ لا تكون الكثرة حاجبة للوحدة كي يجتنبها، وإنّما تكون الكثرة من مظاهر الوحدة التي تكشف له عن جمال الله وجلاله. وحيث إنّ السالك في السفر الثالث لا يرى فرقا بين الكثرة والوحدة، بل يرى بينهما تمام الالتئام والانسجام، لذلك هو يرفض الفصل بينهما، بل لا يرى بينهما أيّة ثنائيّة أصلا. فكما يتوجّه إلى الله - تعالى - من خلال الأعمال العباديّة الفرديّة، فهو يتوجّه إليه - تعالى - أيضا من خلال الأعمال الاجتماعيّة والسياسيّة بنفس المستوى إن لم يكن بمستوى أرقى وأسمى. ولذلك فهو يوحّد بين المسارات المختلفة ظاهريّا في سيره وسلوكه إلى الله - تعالى -. ويرى في خدمة الخلق خدمة المولى - سبحانه وتعالى -، وكلّما اتّسعت دائرة الخدمة هذه كلّما كان عمله أقرب إلى القبول والرضا الإلهي. وتتجلّى دلالة التوحيد في جانبها العملي في عنصر العبوديّة لله، تلك العبوديّة التي تشكّل حجر الزاوية في نظام تفكير الإمام(ره) وبناء تصوّراته ونظرته وسلوكه وتعامله مع نفسه ومع الغير. وهو الذي جسّد في سلوكه معاني التسليم والسجود والخضوع لله وحقيقة العبوديّة الجارية على كل مخلوقات الله – تعالى -، فالكلّ يسلّم لأمره ويخشع له ويسجد لجبروته وكبريائه، ويتّجه بفطرته وتكوينه بحسب مشيئة الله وإرادته، لا يشذّ عن هذه الحقيقة مخلوق سواء في عالم المادّة والجماد أو في عالم الروح والأحياء. وفي نطاق العبوديّة لن نجد تمييزا بين سلوك فردي أو سلوك اجتماعي أو سلوك سياسي، بل تتّحد المسالك كلّها في هدف واحد وتوجّه واحد هو أن يكون الأمر كلّه لله - تعالى - لا غير. وإذا كان الأنبياء قد أقاموا الحكومات وتعرّضوا للشأن العام بدافع بسط العدالة الاجتماعيّة، فما ذلك إلاّ لأنّ هذا الدافع يتّصف بالصبغة الإلهيّة بحيث يصدر عن جنبة الإخلاص لله - تعالى - في النيّة، والتجرّد عن الهوى والنوازع المشتتّة، واتّباع ما تمليه المصلحة العامّة على مستوى حياة الإنسان الدنيويّة ومصيره الأخروي. هكذا ينعكس الجانب الروحي - كما نجده في سلوك الإمام إزاء الشأن العام - على واقع الحياة كلّها؛ فلا ينسحب الجانب الروحي إلى إطار من العزلة الضيّقة في الممارسة بعيدا عن المشاركة في الشأن العام، كما لا تطغى معياريّة المشاركة في الشأن العام على الجانب الروحي وتختزله ضمنها، بل إنّ المعيار في كليهما مآله واحد؛ وهو الدافع الإلهي الذي هو المرتكز في ميزان الأعمال: «لا الاعتزال الصوفي دليل الارتباط بالحقّ، ولا الدخول في المجتمع وتشكيل الحكومة شاهد الانفصال عن الحقّ، الميزان في الأعمال هو دوافعها»[9]. وطالما أنّ الميزان في السلوك هو الدافع، فلن يعود ثمّة فرق بين أن يكون السلوك فرديّا أو عامّا: «فكثيرا ما يكون العابد والزاهد مبتلى بشَرَك إبليس وهو يوسّع ذلك الشَّرَك بما يناسبه من الأنانيّة والغرور والعجب والتكبر وتحقير خلق الله والشرك الخفي وأمثال ذلك مما يبعده عن الحقّ ويؤدّي به إلى الشِّرك. وكثيرا ما يكون المتصدّي لشؤون الحكومة ذا دافع إلهي فيحظى بمعدن قرب الحقّ كداود النبي(ع) وسليمان النبي(ع). وأعلى منهما وأسمى كالنبي الأكرم(ص) وخليفته بالحق على بن أبي طالب(ع)، وكحضرة المهدي - أرواحنا لمقدمه الفداء - في عصر حكومته العالميّة»[10]. من هنا يختلف العمل باختلاف قوّة الدافع وفاعليّته: «ميزان العرفان والحرمان هو الدافع؛ كلّما كانت الدوافع أقرب إلى نور الفطرة، وأكثر تحرّرا من الحجب حتّى حجب النور، تكون أكثر ارتباطا بمبدأ النور إلى حيث يصبح الكلام عن الارتباط كفرا»[11]. وإنّه لمن اللافت أن يركّز الإمام وبشكل واضح إلى أهميّة المشاركة في الأمور السياسيّة وخدمة الخلق في ضمن وصاياه العرفانيّة، وليس فقط في كتاباته الفقهيّة أو خطاباته العامّة. فيقول في وصيّته العرفانيّة لابنه السيّد أحمد: «إنّ المشاركة في أمور السياسة السليمة والاجتماع، هي تكليف في هذه الحكومة الإسلاميّة»[12]. بهذه الروحيّة سعى الإمام(ره) إلى بناء الروح الاجتماعيّة التي تمّد جسور التواصل الإنساني في المجتمع، ولا ترى لنفسها أفضليّة أو تميّزا على خلق الله. وهي الروح التي تسعى لخدمة البشريّة والتخفيف من معاناتها ولا تنحبس في إطار الذات، بل تتفاعل إيجابا مع المحيط، وتعيش هاجس الانفتاح البنّاء على الآخر: «لا تلقِ عن كاهلك حمل المسؤوليّة الإنسانيّة التي هي خدمة الحقّ في صورة خدمة الخلق؛ فإنّ جولات الشيطان وصولاته في هذا الميدان ليست بأقلّ من جولاته وصولاته بين المسؤولين والمتصدّين للأمور (العامّة). ولا تتعب نفسك للحصول على مقام مهما كان - سواء المقام المعنوي أم المادي - متذرعا بأني أريد أن أقترب من المعارف الإلهيّة أكثر، أو أنّي أريد أن أخدم عباد الله، فإنّ التوجّه إلى ذلك من الشيطان. فضلا عن بذل الجهد للحصول عليه. الميزان في أوّل السير هو القيام لله، إنْ في الأعمال الشخصيّة والفرديّة أو في النشاطات الاجتماعيّة»[13]. يقول السيّد القائد الخامنئي(حفظه الله): «من وجهة نظر الإمام فإنّ السياسة والعرفان والقوّة والأخلاق متداخلة في بعضها البعض، وهذه المعايير كانت وما زالت في مقابل السياسة الغربيّة المبنيّة على فرضيّة فصل الدين عن السياسة، والقوّة عن الأخلاق والمعنويات. إنّ الإمام كان يعتبر العمل بالواجب الإلهي رمز السعادة، ومن هذا المنطلق لم يكن يائسا أو متردّدا طيلة حياته بل كان يثابر من أجل الوصول للنجاح على كافّة الصعد»[14]. وعلى أساس هذا الدافع الإلهي ينبغي أن نعي الأساس والمرتكز الذي تنهض عليه رؤية الإمام(ره) الشاملة لكل مرافق الحياة بما فيها الشأن السياسي العام، وهي رؤية لا تقتصر على العقل في جانبيه النظري والعملي، القانوني والإجرائي، وإنّما تمتد إلى عالم الروح والقلب الذي ينبض بالحبّ والرحمة لكافّة المخلوقات؛ كونها مجبولة بيد العشق الأزلي، وكل موجود مرحوم: «فقد اختطّ الإمام لنفسه طريقا يلازم صراط الدين المستقيم، وعبادة الحقّ، ونبذ الذات، للوصول إلى أنوار الله العلي القدير. لقد هجر سماحته سجن النفس المظلم وقفص الطبيعة الضيّق، باتّجاه الله ورسوله. وعمل على تهذيب نفسه، حتّى بات قلبه يبصر بنور الإيمان ويعشق الخالق - عزّ وجلّ -، وأفرغ قلبه من الذات وكل ما يتعلّق بها، وأوكل شؤون البيت إلى صاحب البيت. وبذل ما في وسعه وجاهد نفسه للوصول إلى ذلك المقام المعنوي الرفيع، حيث باتت كل حركاته وسكناته، كلماته وسكوته، لحظات نشوته ولحظات تألمّه، محبّته وكراهيّته، وبالتالي حياته وموته، من أجل الله وفي اتّجاه الله - عزّ وجلّ -. إنّ العاطفة والمحبّة هي في الأساس إحساسات غرائزيّة تنشأ من الذات وتصبّ في الذات. إلاّ أنّه إذا أخذنا السير التكاملي الذي يؤدّي بالإنسان إلى الله - عزّ وجلّ - بعين الاعتبار، عندها تكتسب ظاهرتي العاطفة والمحبّة، شكل صفة مكتسبة متعالية. صفة تنبع من الذات الإلهيّة، وتسير في الخطّ الذي ينتهي إليه - سبحانه وتعالى -. عندما تلتصق المحبّة الحقيقة - التي هي إحدى تجلّيات الانجذاب إلى الكمال والجمال - بالمركز الأساسي وبمبدأ الجمال والكمال، تصل إلى أقصى درجات سموّها وأبهى قلل شمولها، أي إلى درجة: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِّلَّهِ ﴾[15]، وهكذا تشمل آفاق هذه المحبّة العالم بأسره والمخلوقات على تنوّعها. لقد نظر الإمام بعين المحبّة والرحمة والألفة إلى كل ظواهر هذا العالم ومخلوقاته وخاصّة الإنسان، على أساس أنّها آيات وتجلّيات وإيحاءات من الله المحبوب الرحيم. وذلك انطلاقا من النظرة التي أشرنا إليها للتوّ، خلافا لدعايات العالم المستكبر، المغرّضة، التي أرادت بوحي من أغراضها الشيطانيّة وطبيعتها العدوانيّة، أن تصوّره على أنّه إنسان حادّ الطباع، خشن المسلك وغير عاطفي. إنّ اندماج الإمام في تلك الواحة الفكريّة والتربويّة الإلهيّة، وتمتّعه بالروح المتعالية، جعلاه يشعر بنوع من الشفقة حتّى تجاه ألدّ أعدائه وأشدّ مناوئيه مثل نصيري، الشاه، صدام، وريغان؛ إذ إنّ مشاعر العداوة والبغضاء التي بادل بها هؤلاء الأشخاص، لم تكن ذات دوافع شخصيّة كما حاول الأعداء تصويرها، بل بسبب العصيان الذي أبدوه تجاه الحقّ والظلم الذي مارسوه ضد شعوبهم. عندما كان سماحته يدعو الله - عزّ وجلّ - بأن يعجل في موت أحدهم على سبيل المثال، لم يكن يعتبر ذلك الرجاء دعوة شر بحقّه، بل نوع من أنواع الدعاء بالخير والرحمة؛ الخير الذي يتمثّل بتخلّص الشعب من ظلمه من جهة، وبالحدّ من تزايد الإثم في سجلّ عمله من جهة أخرى. وإذا كان سماحته قد انبرى لمجاهدة حكم الشاه والقضاء عليه، فلم يكن ذلك نابعا من عداوة شخصيّة أو ثأر أو انتقام، أو للقضاء عليه للحلول مكانه في السلطة. فلو افترضنا أنّ الشاه قد تبدّل قبل إيغاله في الإجرام رأسا على عقب، وتحوّل إلى إنسان متديّن متعبّد ملتزم بأحكام الله – تعالى -، وبدأ بتطبيق الأوامر والنواهي الدينيّة في المجتمع كما أمره سماحته، لكان الإمام انبرى لحمايته ودعمه، وبذل ما في وسعه في سبيل تقوية حكمه وبسط سلطته. وعليه، نلاحظ أنّ الإمام(ره) لم يعتبر ذاته مؤشرا يحدّد الأشخاص الذين يشعر حيالهم بالعداوة والبغضاء، بل جعل الله - عزّ وجلّ - ذلك المؤشر؛ إذ إنّه لم يعادِ أحدا في حياته لسبب نابع من الذات، بل كان يعمد دوما إلى غضّ النظر عن أيّة حالة تمسّه شخصيّا، كما أنّه كان يسامح كل الأشخاص الذين بادروه بالإساءة والظلم. وحتّى أنّه عمد إلى الدعاء لبعضهم بالخير وحسن العاقبة، وإلى تفقّد أحوالهم وتتبّع أخبارهم»[16].

 



[1] مؤتمر الجهاد والنهضة في فكر الإمام الخميني على ضوء التحديات المعاصرة: كلمة السيّد حسن نصر الله(حفظه الله) بتاريخ 23 تشرين الثاني 1999م. ص42.

[2] السيدة فاطمة طباطبائي، محاضرة بعنوان: الحداثة والتجدد في فكر الإمام الخميني، موقع: دار الولاية للثقافة والإعلام على الانترنيت، تاريخ الدخول الى الموقع 5/7/2007.

[3] جلال الدين الاشتياني ومحمد صادق فضل الله، مقدمتان على شرح مصباح الهداية، سلسلة المعارف الفكرية بإشراف المعهد الإسلامي للمعارف الحكمية، ط1، 2001، ص10، هامش1.

[4] علي شريعتي، الأمة والإمامة، ترجمة وتحقيق: حسين علي شعيب، ط1، دار الأمير للثقافة والعلوم، بيروت، 2006م. ص38.

[5] المصدر نفسه، ص38.

[6] التربية والمجتمع «مظاهر عينية من فكر الإمام الخميني(ره)»، إعداد مركز الإمام الخميني الثقافي، ط1، بيروت، 2001م. ص75.

[7] جامع أحاديث الشيعة، مصدر سابق، ج16، ص172. وأيضا: أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب الاهتمام بأمور المسلمين، حديث 1،4، باختلاف يسير.

[8] الإمام الخميني(ره)، وصايا عرفانية، (بلسم الروح)، ط1، بيروت، 1998م، مركز بقية الله الأعظم(ع)، ص53.

[9] وصايا عرفانية، (بلسم الروح)، مصدر سابق، ص54.

[10] المصدر نفسه، ص54.

[11] المصدر نفسه، ص54.

[12] المصدر نفسه، (تجلّيات رحمانية)، ص40.

[13] المصدر نفسه، (بلسم الروح)، ص55.

[14] من خطاب القائد الخامنئي بمناسبة ذكرى رحيل الإمام الخميني(ره)، الموقع: (www.al-imam.org)، الخطابات والنداءات، تاريخ الخطاب 3/6/2004م. تاريخ الدخول إلى الموقع 5 / 7 / 2007.

[15] سورة البقرة، الآية 165.

[16] رحيميان، أنوار العروج، ترجمة علي شرف الدين، إعداد سفارة الجمهورية الاسلامية الايرانية - بيروت، ص83 – 85.


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=572
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 12 / 20
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29