• الموقع : هيئة علماء بيروت .
        • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .
              • القسم الفرعي : قرانيات .
                    • الموضوع : سورة التوبة .... نظرة اجمالية 1 .
                          • رقم العدد : العدد الثامن والعشرون .

سورة التوبة .... نظرة اجمالية 1

 سورة التوبة  .... نظرة اجمالية   1

 

إعداد : الشيخ سمير رحال

 

سورة التوبة سورة مدنيّة و عدد آياتها مائة و تسع وعشرون آية  وهي السورة التاسعة في الترتيب المصحفي ، وقد نزلت في أواخر السنة التاسعة، والسنة التاسعة هي السنة التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين إلى تبوك بقصد غزو الروم .

وقد روي أن سورة التوبة، قد نزلت بتمامها دفعة واحدة .

فعن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: ما نزل عليّ القرآن إلا آية، آية، وحرفاً حرفاً، خلا سورة البراءة، وقل هو الله أحد ؛ فإنهما نزلتا علي، ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة، كل يقول: استوص بنسبة الله خيراً (مجمع البيان ج5 ص1/2 عن الثعلبي).

لكن يرد على هذه الرواية أن هناك نصوصا في نزول سورة الأنعام والمائدة، والمرسلات وكثير غيرها دفعة واحدة أيضاً.. إلا أن يكون المراد: أن الفرق بين سورتي التوبة، والإخلاص، وبين غيرهما من سور القرآن، هو في نزول سبعين ألف صف من الملائكة، لا غير.

كما يرد على هذه الرواية  قولهم وَقَدْ نَزَلَ مُعْظَمُهَا بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله ـ وَفِي حَالِ الِاسْتِعْدَادِ لَهَا فِي زَمَنِ الْعُسْرَةِ ...فانه يدل على نزول الباقي في فترة اخرى وليس دفعة واحدة ولا تامة

ويؤيد ذلك انهم قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَوَّلَهَا نَزَلَ سَنَةَ تِسْعٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِيَقْرَأَهَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَوْسِمِ .

كما يؤيد ذلك قولهم انه نزل قسم منها قبل معركة تبوك، وقسم  منها نزل عند الاستعداد للمعركة أو «الغزوة»، وقسم  منها نزل بعد الرجوع من المعركة والفراغ منها . ومن بداية السورة حتى الآية (28) نزل قبيل موسم الحج  والتي تتعلق بمن بقي من المشركين بلّغها  أمير المؤمنين عليه السلام في موسم الحج

واما ما وَرَدَ فِي أَسْبَابِ نُزُولِ بَعْضِ الْآيَاتِ ،فيردّ  بِأَنَّ أَكْثَرَ مَا رُوِيَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ كَانَ يُرَادُ بِهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حُكْمِ كَذَا  اي أَنَّ الرُّوَاةَ كَانُوا يَذْكُرُونَهَا كَثِيرًا فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى نُزُولِهَا وَحْدَهَا ، وَلَا عَلَى كَوْنِ النُّزُولِ كَانَ عِنْدَ حُدُوثِ مَا اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَيْهِ .

 

هل كل السورة مدنية ام ان هناك آيات مستثناة ؟

تعرّض الأوائل لاستثناء آيات من سوَر تُخالفها في النزول ، فربّ سورة مكّية فيها آيات مدَنية أو بالعكس ، واستقصى ذلك جلال الدين السيوطي في ( الإتقان ) مستوعباً ، غير أنّه اعتمد في الأكثر على روايات ونقول ضعيفة ، وغالبية القائلين بهذه الاستثناءات قالوا بها عن حدَس أو اجتهادٍ في الرأي ، من غير أن يستندوا إلى نصٍّ صحيح مأثور

لا شكّ أنّ الآيات كانت تُسجّل تِباعاً في كلّ سورة بعد نزول بسمَلتِها ـ واحدة تلو الأخرى ـ ترتيباً طبيعياً حسب النزول ، أمّا أن تبقى آية مكّية غير مسجّلة في سورة حتّى تنزل سورة بالمدينة ثمّ تسجّل فيها ، فهذا أمر غريب خارج عن طريقة الثبْت المعروف ، كما أنّ آية مدنية تسجّل في سورة مكّية بحاجة إلى نصّ صريح خاصّ ، وليس بالأمر الذي يتدخّل فيه الحدَس أو الاجتهاد النظري ! .

 

وقال بعضهم : غير آيتين ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) إلى آخر السورة

كما استثنى بعضهم من سورة التوبة المدَنية قوله تعالى : ( مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى‏ ـ إلى قوله ـ : ... إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ ) التوبة : 113 و 114 .

قالوا : نزلت بشأن أبي طالب ( عليه السلام ) عندما حضرته الوفاة ، دخل عليه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وعنده بعض أشراف قريش ، فقال النبي : أي عمّ ، قل : لا إله إلاّ الله ، أُحاجّ لك بها عند الله ، فقال بعض الحضور : أترغب عن ملّة عبد المطلب ؟ قالوا : فأبى أبو طالب أن يذكر الشهادة ، فقال النبي عند ذلك : لأستغفرنّ لك . فنزلت الآية ... فهي مكّية مستثناة من سورة مدَنية (راجع الدرّ المنثور : ج 3 ص 282 / وصحيح البخاري : ج 2 ص 119 ، وج 6 ص 87  ) .

كما قالوا : إنّها نزلت بشأن والدَي رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، أراد أن يستغفر لأبيه ، وهكذا استجاز ربّه في زيارة قبر أمّه فأجازه ، ثمّ بدا لله في ذلك ، فأنزل الله الآية ، فما رُئيَ رسول الله أكثر باكياً من يومه ذاك   جامع البيان للطبري : ج 11 ص 31 . .

لكن  ثبتَ في الصحيح : أنّ أبا طالب مات مسلماً  كما أنّ قوله تعالى : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) الشعراء : 219 . تصريح بطهارة آباء رسول الله وأمّهاته ، ففي حديث ابن عبّاس : ( لم يزَل الله ينقلُني من الأصلاب الطيّبة إلى الأرحام الطاهرة مصفّىً مهذّباً   الدرّ المنثور : ج 3 ص 294 .

وهو المروي ـ صحيحاً ـ عن الإمامين الباقر والصادق ( عليهما السلام ) قالا : ( في أصلاب النبيّين نبيّ بعد نبيّ حتّى أخرجه من صُلب أبيه ، من نكاح غير سفاح من لدُن آدم ( عليه السلام ) ).

وفي زيارة الوارث لأبي عبد الله الحسين ( عليه السلام ) : ( أشهد أنّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة ، لم تُنجّسك الجاهليةُ بأنجاسها ، ولم تُلبسك من مُدلهمّات ثيابها ...)

والصحيح في سبب نزول تلك الآية ـ على ما ذكره أبو علي الطبرسي ـ : أنّ المسلمين جاؤوا إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله ) يطلبون إليه الاستغفار لموتاهم الذين مضَوا على الكُفر أو النفاق ، قالوا : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية ؟! فنزلت الآية   مجمع البيان : ج 5 ص 76 .

(منقول بتصرف عن التمهيد في علوم القرآن راجع التفصيل في   التمهيد : ج 1 ص 229 ـ 232 .)

 

أسماء هذه السّورة

ذكر المفسّرون لهذه السّورة أسماء عديدة تبلغ العشرة، غير أنّ المشهور منها هو: سورة براءة،  وسورة التوبة، و السورة الفاضحة.

فالبراءة، لأنّها تبتدأ بإعلان براءة اللّه من المشركين، والذين ينقضون عهدهم

والتوبة، لما ورد من مزيد الكلام عن التوبة في هذه السورة

والفاضحة، لما فيها من الآيات التي تكشف النقاب عن أعمال المنافقين لتعريتهم و خزيهم وفضيحتهم

وعن ابن عباس قال : إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم ، وتنال منهم ، حتى خشينا ألا تدع أحدا  وسورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.

وقد أوصل الزمخشري في الكشاف عدد أسماء السورة إلى أربعة عشر .

 

 

فضيلة السورة 

 عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال «من قرأ براءة و الأنفال في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا، و كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام حقّا

قد ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم   أنّه قال «نزلت عليّ براءة و التوحيد في سبعين ألف صف من صفوف الملائكة، و كان كل صف منهم يوصيني بأهمية هاتين السورتين»

 

علاقة سورة التوبة بسورة الانفال التي قبلها 

يعتقد العديد من المفسرين بان الترتيب  الموجود بين السور القرآنية توقيفي وايدوا ذلك بما رأوه من انسجام بين السور في ترتيبها من حيث الموضوعات ونهاية السورة وبداية السورة التي تليها وهذا ما هو حاصل في موردنا هذا بين سورتي الانفال والتوبة .

فان سورة التوبة تعطي مع سورة الأنفال ما يشبه أن يكون صورة تاريخية مجملة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهاده  .

كما ان سورة التوبة  كالمتممة لسورة الانفال فى معظم ما فى أصول الدين و فروعه، وفى التشريع الذي جلّه فى أحكام القتال و الاستعداد له، و أسباب النصر فيه، و أحكام المعاهدات و المواثيق من حفظها و نبذها عند وجود المقتضى لذلك، و أحكام الولاية فى الحرب و غيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض، و الكافرين بعضهم مع بعض، و أحوال المؤمنين الصادقين و الكفار و المذبذبين من المنافقين و مرضى القلوب، فما بدى‏ء به فى الأولى أتم فى الثانية.

 

فسورة الأنفال  تشير إلى حالتهم قبل الهجرة " وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "

والى سبب الهجرة " وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ...

ثم تذكر غزوة بدر وما بدا من اليهود في نقض العهود " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ "

كما ان سورة التوبة " تذكر صراحة حادث الهجرة " إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا " الآية

ثم تشير إلى المراحل اللاحقة  فتذكر يوم حنين " لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ … ا

 وتذكر غزوة تبوك التي ترشد إلى واقعة مؤتة .

أمور أخرى مشتركة

(1) أَنَّ الْعُهُودَ ذُكِرَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ ، وَافْتُتِحَتْ سُورَةُ التَّوْبَةِ بِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فِيهَا  .
(2) تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَأَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا .
(3) ذُكِرَ فِي الْأُولَى صَدُّ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِهِ : إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ (8 : 34) وَجَاءَ فِي الثَّانِيَةِ : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ (9 : 17) ..

 (4) ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْأُولَى صِفَاتُ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ ، وَذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ بَعْضُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ ، ثُمَّ ذُكِرَ فِي آخِرِهَا حُكْمُ الْوِلَايَةِ بَيْنَ كُلٍّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، وَجَاءَ فِي الثَّانِيَةِ مِثْلُ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أَيْضًا .
(5) ذُكِرَ فِي الْأُولَى التَّرْغِيبُ فِي إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَجَاءَ مِثْلُ هَذَا التَّرْغِيبِ بِأَبْلَغَ مِنْ ذَلِكَ وَأَوْسَعَ فِي الثَّانِيَةِ ، وَذُكِرَتْ فِي الْأُولَى مَصَارِفُ الْغَنَائِمِ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَالِ ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ .
(6) وَرَدَ ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فِي الْأُولَى فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَفُصِّلَ فِي الثَّانِيَةِ أَوْسَعَ تَفْصِيلٍ ، حَتَّى كَانَتْ أَجْدَرَ بِأَنْ تُسَمَّى سُورَةَ " الْمُنَافِقُونَ " مِنْ سُورَةِ " 63 " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ لَوْ كَانَتْ تَسْمِيَةُ السُّوَرِ بِالرَّأْيِ .

 

  محتوى السّورة

هدفان أصليان للسورة:

 

1 الهدف الأول) الآيات 1_ 37)

قانون الإسلام في معاملة المشركين وأهل الكتاب  :

وذلك بالتصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب بإلغاء معاهداتهم، ومنعهم من الحج،

وبوضع الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في جزيرة العرب، وإباحة التعامل معهم.

وتفصيل ذلك :

 في نبذ عهود المشركين وبيان أسباب ذلك النبذ، وما يجب على المسلمين بعد إعلانهم به

( الآيات 1_ 28)

من قوله تعالى: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين " آية 1

الى قوله تعالى " يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ". آية 28

 

وفي تحديد الأساس الذي تبنى عليه علاقة المسلمين بأهل الكتاب : (الآيات 29 _ 34)

جاء قوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " الآية 29

" يأيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله الآية 34

 

 

2   كشف أسرار المنافقين وحال الناس مع النبي صلى الله عليه وآله في المدينة وفي جيش العسرة على وجه الخصوص:

في شهر رجب من سنة تسع من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وآله  إلى تبوك هذه الغزوة وصفها  في القرآن بغزوة العسرة قال الله جل وعلا :  {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة وسماها النبي صلى الله عليه  وآله غزوة تبوك

وكان الناس أقساما في إتباعهم النبي صلى الله عليه وآله  منهم المثبطون، المحبطون، الناصرون، فرق شتى فنزلت هذه السورة تبين حال المجتمع المدني   واظهرت ما كانت عليه نفوس أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما استنفرهم ودعاهم إلى غزوة العسرة في بلاد الروم، وفي هذه الدائرة تحدثت السورة عن المتثاقلين منهم والمتخلفين والمثبّطين، وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد، وما قاموا به من أساليب النفاق وألوانه. الآيات (38  _127)

من قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ " 38 ...  وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ

بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ ". 127


وختمت السورة بهاتين الآيتين: " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ".

هذان هما الهدفان الأصليان اللذان استدعيا نزول " سورة التوبة "

وقد عرضت السورة في تضاعيف الحديث عنهما إلى بيان كثير من الأحكام والإرشادات منها:  

 

 الجهاد في سبيل اللّه وأهميته ضمن نقاط متعددة : 

_ الاستعداد للتضحية ، وجعل التضحية و الشهادة في سبيل الهدف القيمة الاعلى .
_ تهيئة الوسائل المساعدة للجهاد ..

_ بيان اهداف الجهاد حتى لا يتحول الى حالة عدوانية شاذة .
عن الصدقات لعلاقتها بالجهاد في الآيات ( 58 /60)

كما أنّ قسما منه يكمل البحوث السابقة التي تناولت انحراف أهل الكتاب «اليهود والنصارى» عن حقيقة التوحيد

   حثّ للمسلمين على الاتحاد ورص الصفوف وتوبيخ للمتخاذلين المتحرّفين أو الضعاف الذين يتذرعون بذرائع واهية للتخلص من هذا الواجب، والثناء على المهاجرين السابقين إلى الهجرة، والصفوة من المؤمنين الصادقين

 _  موضوع الزكاة وتحريم تراكم الثروات واكتنازها، ووجوب طلب العلم أو التعلّم و تعليم الجهلة

 _  والأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، وأخذ الجزية من الأقليات الدينية غير الإسلامية كاليهود و النصارى، وما إلى ذلك

وعن المنافقين  ودورهم التخريبي في الصراع .. الآيات ( 61/68)

 عن المؤمنين وصفاتهم المثلى .. الآيات ( 71 / 72)

عن قتال المنافقين والكفار ، وعن النفاق بعد الايمان.. الآيات (75 / 78

  

 ذَمِّ  السورة  لِلْكَفَّارِ وَالْمشركين والمنافقين 
 وَصَفَ الْمُشْرِكِينَ بأوصاف منها َانَّهُمْ :

_ لَا يَرْقُبُونَ وَلَا يُرَاعُونَ فِي أَحَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً الْآيَاتِ (8 - 10)

_ وَأَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُعْتَدُونَ .
_  انهم نجس  قَال  تَعَالَى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ... ) (9 : 28)

نجَاسة  مَعْنَوِيَّةً  وَهِيَ الشِّرْكُ وَخُرَافَاتُهُ ، وَحِسِّيَّةً إِذَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ ، وَلَا يَدِينُونَ بِالطَّهَارَةِ مِنَ النَّجَاسَةِ .. .
_  يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا    فِي الْآيَةِ (30)  

_  يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كما فِي الْآيَةِ (34)  

 _  (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) (9 : 8)   .

 

واما ذمها للمنافقين فمنها:
 _ ذَكَرَ فِي اسْتِئْذَانِ الْمُنَافِقِينَ وَاعْتِذَارِهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ  قال فِيهِمْ : (وَاللهُ عَلِيمٌ  بِالظَّالِمِينَ) (9 : 47) وَقَوْلِهِ : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (9 : 49) (رَاجِعِ الْآيَاتِ 42 - 49) .
_  تَعْلِيلُ عَدَمِ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ فِي الْآيَةِ (53) بِفِسْقِهِمْ

_ انَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ  

 (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (9 : 67)  

  _   أَنَّهُمْ رِجْسٌ الْآيَةِ (95)

 _ انهم لَا يَفْقَهُونَ) (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ)   الْآيَةِ 127 .

وغير ذلك من اوصاف تشير الى خبث سَّرَائِرِهم  وسوء اخلاقهم واعمالهم  .

 

 الوضع التاريخي الذي نزلت في جوه سورة التوبة ومراحل الدعوة والجهاد السابقة

 

قبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة تمهد لذلك حول شأن النزول وفضاء النزول وجوّ نزول القرآن واهمية معرفة ذلك لفهم الآيات والسور والقرآن الكريم ككل :

يقول المفسّر الكبير العلامة الشيخ جوادي آملي : وفرق شأن النزول مع فضاء وجوّ النزول هو أنّ شأن النزول أو سبب النزول يتعلق بالحوادث التي وقعت في عصر النبي الأكرم‘ في نطاق الحجاز أو خارجه، وكذلك المناسبات أو الأسباب التي هيّأت الأرضية لنزول آية أو عدة آيات من القرآن الكريم.

أما (فضاء النزول) فيتعلق بمجموع السورة من حيث دراسة الأوضاع العامة ومواصفات الناس والحوادث والظروف الخاصة المحيطة بفترة نزول السورة.

أما (جو النزول) فيتعلق بجميع القرآن الكريم

العنوان الأول يتعلق بآية واحدة أو عدة آيات والثاني يتعلق بالسورة والثالث يتعلق بكل القرآن

اختلاف آخر وهو أنّ شأن النزول ناظر إلى تأثير الحوادث الخاصة من جانب واحد

ولكن في فضاء نزول السورة وكذلك في جو نزول القرآن فالكلام يجري عن التفاعل والتعامل(التأثير المتبادل من جانبين) بين الفضاء الخارجي ونزول السورة أو الجو العالمي ونزول مجموع القرآن بمعنى أنّ الفضاء الموجود والجوّ الموجود يقتضي نزول السورة وكل القرآن، وكذلك نزول السورة وتنزّل مجموع القرآن يعتبر الفضاء والجو.

إن إدراك معارف القرآن الكريم يتم إلى حد ما في ظل التعرف على شأن وفضاء وجو النزول ويمكن الاستفادة من المصادر المختلفة في التاريخ والحديث والقرآن الكريم نفسه في بحث ودراسة فضاء نزول السور وجو نزول مجموع القرآن. ( من مقدمة تفسير تسنيم _ بتصرف)

الوضع التاريخي الذي نزلت فيه سورة التوبة

 

لا شك ان نزول سورة التوبة يؤشر الى مرحلة جديدة ومختلفة اقتضت تعاطيا مختلفا واحكاما صارمة والمستهدف فيها هم المشركون واهل الكتاب والمنافقون , هذه المرحلة اقتضت اعلان البراءة وحل العهود ضمن تفصيل يأتي واعلان ما يشبه التهديد لأهل الكتاب والمنافقين والتحذير لبعض المسلمين وهذا الامر يستدعي معرفة الظرف التاريخي  وفضاء نزول هذه السورة والذي يعين على فهم المقصود منها، لذا نعرض للمراحل العملية للدعوة والجهاد من وقت بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوقت الذي نزلت فيه .( ننقله عن تفسير الشيخ شلتوت باختصار وتصرف)

الدعوة بمكة:

بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مكة بأنه رسول الله، يدعو الناس إلى الإيمان بالله واليوم الأخر، وقد تدرج في دعوته من السرية إلى الجهرية فقابله قومه بالإنكار،   ثم انتقلوا معه إلى العنف والاضطهاد، وظل بمكة ثلاث عشرة سنة يعاني فيها هو وصحبه ما يعاني من ألوان العذاب وصور التنكيل.

 

الهجرة:

وأخيرا اعتزموا قتله بطريقة تفرق دمه في القبائل، فهيأ الله سبيل الهجرة إلى المدينة التي انتقلت دعوته إليها بواسطة الوفود، حتى كونت لها من شباب المدينة أنصاراً  ، عاهدوا الرسول على الموت في سبيل نصرته، ونشر دعوته .
فهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم  إلى المدينة  ، فتلقاه أنصار بايعوه على النصرة، وعلى السمع والطاعة ".

حالة الحرب بين المسلمين والمشركين:

وبحكم هذا الوضع لا يمكن أن تكون الحالة بينه وبين مشركي العرب إلا حالة الحرب  فنشأت تحرشات واستطلاعات وتكتلات جزئية، هي أشبه في وقتنا الحاضر بالكتائب التي تبعث لأغراض خاصة.

 

غزوة بدر:

وظل الأمر كذلك حتى السنة الثانية من الهجرة فكانت غزوة بدر اولى معارك النبي (ص)  وقد نزلت في هذه الغزوة سورة الأنفال التي تلتها مباشرة في الترتيب المصحفي " سورة التوبة

 

غزوة أحد:

وبغزوة بدر استمرت رحى الحرب دائرة بين المشركين والمسلمين، وكان من أهم الوقائع بعدها غزوة أحد التي أوقد المشركون نارها في السنة الثالثة أخذاً بثأر بدر، وقد تحدثت عن هذه الغزوة سورة " آل عمران " وجاء فيها قوله تعالى: " وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَ فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " ....

غزوة الأحزاب:

ومرت السنة الرابعة وجاءت بعدها السنة الخامسة، وفيها تحالف مع قريش عدة قبائل من المشركين وبعض طوائف اليهود على حرب رسول الله، وكانت غزوة الأحزاب " أو " غزوة الخندق " وقد جاء الحديث عنها في سورة من القرآن تعرف بسورة " الأحزاب "

 ومما جاء فيها قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * .... " وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ".

 

صلح الحديبية:

ومما يروى في هذا المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في نهاية تلك الغزوة: " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا "  جاءت السنة السادسة تحمل في جوفها صلح الحديبية، وذلك حينما قصد النبي ومعه المسلمون مكة لأداء العمرة، فمنعهم المشركون من دخولها، ودارت بين الفريقين مفاوضات انتهت بالصلح على وضع الحرب بين المسلمين والمشركين عشر سنوات، وبشروط: أن يرد المسلمون إلى قريش من يجئ منهم مسلماً دون أن يلزم المشركون برد من يجيئهم من المسلمين وأن يرجع المسلمون عن دخول مكة في هذا العام إلى العام المقبل، وأن من أراد أن يدخل في عهد أحد الطرفين من العرب دخل فيه، فدخلت بهذا الشرط خزاعة في عهد الرسول، ودخلت بكر في عهد قريش، وعلى هذه الشروط رجع المسلمون  ، وأنزل عليهم في هذا الصلح " سورة الفتح " " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * ... .

ومضت السنة السابعة، وقضى المسلمون فيها العمرة وطافوا بالبيت آمنين

 

فتح مكة:

وما كادت تنتهي السنة الثامنة حتى عدا البكريون حلفاء قريش على الخزاعيين حلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واستعانوا في حربهم بأوليائهم من قريش، فأمدتهم قريش سراً بالعدة والرجال، وهنا استنجد الخزاعيون حلف رسول الله، رأى الرسول أن ذلك من قريش نقض للعهد، وبذلك عادت حالة الحرب بينهم وبين المسلمين، فجهز النبي جيشه، وأخذ عدته لفتح مكة، وقد بعث احد المسلمين ويدعى حاطبا بخطاب إلى قريش يخبرهم بما أجمع عليه النبي أمره من نجدة الخزاعيين وفتح مكة.... نزل أول سورة الممتحنة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ...  ".

 

غزوة ثقيف وهوازن :

 

وبفتح مكة خضعت قريش للمسلمين، ولكن بقي للشرك في جزيرة العرب باقية كثقيف وهوازن من قبائل العرب، عقدوا أمرهم بينهم على غزو المسلمين قبل أن يغزوهم، وجمعوا لهم من كل صوب، فخرج النبي إليهم بجيش جرار فيه ألفان من أهل مكة حتى وصل حنينا " وادياً قريباً من الطائف وتم النصر لأولياء الله، وفي ذلك يقول الله تعالى في سورة التوبة: " لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ... ".

وبالقضاء على ثقيف ومن معهم من هوازن خضعت جزيرة العرب لدين الله .

اليهود بالمدينة:

عاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم  اليهود من يوم أن دخل المدينة على حرية التدين، وعلى الأمن والاستقرار، وعلى أن لا يعينوا عليه عدوا، ولكن ما لبثوا أن نقضوا العهد، وظاهروا المشركين في حروبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان بنو قينقاع أول طائفة منهم نقضت العهد، عقب غزوة بدر، ونزل فيهم قوله تعالى من سورة الأنفال: " وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ".
  فحذرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فقالوا يا محمد: " لا يغرنك ما لقيت من قومك، فإنهم قوم لا علم لهم بالحرب، ولو لقيتنا لعلمت أننا نحن الناس " فحاصرهم النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  وانتهى أمر حصارهم بجلائهم إلى أذرعات " قرية بالشام " كما انتهى أمرهم بالهلاك العام.
ثم تلا بني قينقاع في نقض العهد بنو النضير حينما دبروا اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ديارهم، فطلب منهم الرسول الجلاء عن المدينة، كما جلا عنها بنو قينقاع،  فأبوا أن يخرجوا حتى دهمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشتت شملهم، كان ذلك في ربيع الأول من السنة الرابعة، وقد نزلت فيهم " سورة الحشر " وذلك حيث يقول الله تعالى: " هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ ... ".

 وصنع مثل صنيع هؤلاء وهؤلاء بنو قريظة، وقد قبلوا حكم سعد ابن معاذ فيهم، فحكم بقتلهم، وهكذا تتبع المسلمون بقية اليهود في الجزيرة حتى أبادوا منهم من أبادوا، وشتتوا من شتتوا، وبذلك نكست في جزيرة العرب راية اليهود، كما نكست فيها راية المشركين.

 

الروم:

وبعد ذلك توجه المسلمون الى بلاد الروم، إذ قتلوا الرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب إلى ملك الروم يدعوه به إلى الإسلام، فجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنفذه إليهم، وكانت موقعة حامية هي موقعة " مؤتة بالشام " استشهد فيها ثلاثة من قواد المسلمين،  و كانت هذه الغزوة أول الغزوات بين المسلمين والروم.
وفي السنة التاسعة تتابعت الأخبار بأن الروم جمعوا للمسلمين الجموع واعتزموا غزوهم، فتجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج بجيشه قبل أن يفاجئوه في بلده، ولما وصل إلى " تبوك " وجدهم قد عدلوا عن فكرتهم، فأقام هناك عدة أيام عاهد فيها بعض الأمراء، بقصد تأمين الحدود بينه وبين الروم ثم عاد إلى المدينة وهو يفكر في أمر الروم اعتقاداً منه أنهم لا يعدلون عن غزو المسلمين، فجهز الجيش الذي أنفذه  المسلمون بعد ارتحاله  صلى الله عليه وآله وسلم

 

المنافقون:

وقد منيت الدعوة بجانب هؤلاء وهؤلاء بطائفة ثالثة  وهم المنافقون  الذين  تظاهروا بالدخول في الإسلام، حتى بدت ميولهم إلى المشركين في أول موقعة حربية، وهي غزوة بدر، وقد أشارت سورة الأنفال إلى ذلك حيث تقول: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ )    تهكموا من أن يخرج المؤمنون مع قلتهم وضعف عدتهم إلى المشركين مع كثرتهم في العدد والعدد، كما لم يترك المنافقون  فرصة يلحقون فيها الأذى بالمسلمين إلا انتهزوها،  وتحدثت عنهم  سورة آل عمران في غزوة أحد ،  وسورة الأحزاب في غزوة الأحزاب، وسورة الحشر في غزوة بني النضير ،   وتحدث عنهم كثير من سور القرآن، كسورة  المنافقون " إلى أن استنفر النبي أصحابه إلى غزو الروم، فتجلت نياتهم الفاسدة، وظهرت في أقبح صور العداء.

 

في هذا الجو، ولمعالجة هذا الوضع الذي صار إليه المسلمون، وتخليصه من آثار الشرك والمشركين، ومفاسد أهل الكتاب، وذبذبة المنافقين ـ نزلت سورة التوبة  ترسم للمؤمنين الصادقين خط سيرهم وطريقة تعاطيهم مع المشركين، وأهل الكتاب، وكذلك المنافقين .

 

 

 

 

من خصائص هذه السورة  

(باعتبار معيّن) او من اواخر ما نزل أولاً: آخر سورة نزلت في القرآن الكريم

روي أنّ آخِر سورة نزلت براءة ، نزلت في السنة التاسعة بعد عام الفتْح ، عند مرجعه ( صلّى الله عليه وآله ) من غزوة تبوك ، نزلت آيات من أوّلها ، فبعث بها النبي مع عليّ ( عليهما السلام ) ؛ ليقرأها على مَلأ من المشركين (تفسير الصافي للفيض : ج1 ، ص680 .) .

ولكن جاء في رواياتنا أنَّ آخِر ما نزل هي سورة النصر ، روي أنّها لمّا نزلت وقرأها ( صلّى الله عليه وآله ) على أصحابه فرحوا واستبشروا ، سوى العباس بن عبد المطلب فإنَّه بكى ، قال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( ما يبكيك يا عمّ ؟ قال : أظنُّ أنَّه قد نُعيت إليك نفسك يا رسول الله ، فقال : إنَّه لَكما تقول ) ، فعاش ( صلّى الله عليه وآله ) بعدها سنتين (مجمع البيان للطبرسي : ج10 ، ص554 .)

وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( وآخِر سورة نزلت : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ) ) (تفسير البرهان للبحراني : ج1 ، ص29 .) .

فطريق الجمْع بين هذه الروايات : أنَّ آخِر سورة نزلت كاملة هي سورة النصر ، فقال ( صلّى الله عليه وآله ) : ( أمَا إنَّ نفسي نُعيَت إليَّ ) (مجمع البيان : ج2 ، ص394 .) ، وآخِر سورة نزلت باعتبار مفتتحها هي سورة براءة .( يراجع التمهيد في علوم القرآن)

 

 


ثانيا : ترك البسملة في أولها

لماذا تركت التسمية في أولها قراءة و كتابة ؟

للعلماء و المفسرين في ذلك أقوال :
1 - أنها ضمت الى الانفال بالمقاربة فصارتا كسورة واحدة اذ الاولى في ذكر العهود و الثانية في رفع العهود ( عن أبي بن كعب ) .

2 - انه لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة البراءة نزلت بالشدة والتهديد  بما لا يتلاءم والرحمة المتضمنة في البسملة

وقد ورد هذا التعليل   في مجمع البيان للشيخ الطبرسي عن علي عليه السلام أنّه قال «لم تنزل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ على رأس سورة «براءة» لأنّ بسم اللّه للأمان و الرحمة ونزلت براءة لرفع الأمان و السيف فيه .  

3 - ما روى عن ابن عباس انه قال قلت لعثمان بن عفان ما حملكم على ان عمدتم الى براءة وهي من المئين والى الانفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال : ان النبي (ص) عندما تنزل عليه الآيات فيدعو بعضمن يكتب له فيقول له هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا ، وكانت الانفال من أول ما نزل من القرآن بالمدينة و كانت براءة من آخر ما نزل من القرآن و كانت قصتها شبيهة بقصتها فظننا أنها منها رسول الله (ص) و لم يبين انها منها فوضعناهما في السبع الطوال ولم نكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و كانتا تدعيان القرينتين . تفسير القرطبي : 8/ 63

وفي رواية ان ابن عباس سأل عثمان ابن عفان  قال له : ( لما جعلتم سورة الأنفال وهي من المثاني وبعدها سورة التوبة وهي من المئين ولم تجعلوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال عثمان   إن النبي صلى الله عليه وآله كانت إذا نزلت عليه السورة أو الآية يقول ضعوها في مكان كذا في سورة كذا بعد كذا وكذا وإن سورة الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وإن سورة التوبة من آخر مانزل فمات النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يبين لنا هل هما سورة واحدة أم لا فاختلف الصحابة فمنهم من قال إنهما سورة واحدة ومنهم قال إنهما سورتان فلم يفصلوا بينهما وجعلوا بينهما فرجة حتى يعرف أنهما سورتان منفصلتان ولم يكتب بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) ) حتى يبقى قول من قال إنهما سورة واحدة

 رواه الحاكم وقال صحيح على شرطيهما (البخاري ومسلم ) ولم يخرجاه  في الصحيحين

لكن قال الألباني: " إن الحديث ضعيف " وأغرب منه قال العلامة أحمد محمد شاكر محقق كتاب المسند قال : " إن الحديث موضوع لا أصل له "

 أما من رأى صحة الحديث من العلماء: الترمذي حسّنه أخذ به وذهب إلى أنه ما دام حسّنه فهو صحيح عنده والأثر مقدم على العقل

_ ويعتقد بعض المفسّرين أن سورة براءة- في الحقيقة- تتمة لسورة الأنفال، فلم تذكر البسملة بين هاتين السورتين لارتباط بعضهما ببعض. 

 ثالثاً : سورة التوبة تنبؤنا عن خصائص مرحلة جديدة

المغزى العميق من الأحكام النوعية  الواردة في هذه السورة أن هناك مرحلة عاشها المسلمون في مكة، الى ما قبل فتح مكة , تلك المرحلة  كانت تقتضي التفاهم، التعاهد، التعاقد، كان هناك مصالح تقتضيها حالة المسلمين ، لكن بعد فتح مكة هناك مستجدات لا بد من أن تراعى بعد أن أعزّ الله دينه ونصر نبيه ( صلّى الله عليه وآله )

فهناك تطور جذري ونوعي في علاقة المسلمين مع الآخرين من خلال هذه السورة، قضى بإنهاء العهود المبرمة التي كانت قائمة بين المسلمين والمشركين حتى ذلك الحين واعلنت عَدَمُ إِقْرَارِهِمْ عَلَى السُّكْنَى وَالْمُجَاوَرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مَعَ بَقَائِهِمْ عَلَى شِرْكِهِمْ  .

وكان يسُمح للمشركين بالطواف في المسجد الحرام، أو عمارته ، لكن هذا الشيء انتهى، لم يعد يسمح لهم لا بالطواف، ولا بالسعي، ولا بأي منسك من مناسك الحج عندهم .(مما يأتي تفصيله)

من مصادر البحث

القرآن الكريم

تفسير تسنيم لآية الله الشيخ جوادي آملي

الامثل في تفسير القرآن

تفسير المنار للشيخ رشيد رضا

تفسير الشيخ محمود شلتوت

التمهيد في علوم القرآن للشيخ محمد هادي معرفت

ومصادر أخرى


  • المصدر : http://www.allikaa.net/subject.php?id=578
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2015 / 04 / 30
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28