هيئة علماء بيروت :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

---> تعريف (5)
---> بيانات (87)
---> عاشوراء (117)
---> شهر رمضان (121)
---> الامام علي عليه (48)
---> علماء (24)
---> نشاطات (7)

 

مجلة اللقاء :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

---> فقه (15)
---> مقالات (202)
---> قرانيات (75)
---> أسرة (20)
---> فكر (127)
---> مفاهيم (205)
---> سيرة (83)
---> من التاريخ (30)
---> مقابلات (1)
---> استراحة المجلة (4)

 

أعداد المجلة :

---> الثالث عشر / الرابع عشر (12)
---> العدد الخامس عشر (18)
---> العدد السادس عشر (17)
---> العدد السابع عشر (15)
---> العدد الثامن عشر (18)
---> العدد التاسع عشر (13)
---> العدد العشرون (11)
---> العدد الواحد والعشرون (13)
---> العدد الثاني والعشرون (7)
---> العدد الثالث والعشرون (10)
---> العدد الرابع والعشرون (8)
---> العدد الخامس والعشرون (9)
---> العدد السادس والعشرون (11)
---> العدد السابع والعشرون (10)
---> العدد الثامن والعشرون (9)
---> العدد التاسع والعشرون (10)
---> العدد الثلاثون (11)
---> العدد الواحد والثلاثون (9)
---> العدد الثاني والثلاثون (11)
---> العدد الثالث والثلاثون (11)
---> العد الرابع والثلاثون (10)
---> العدد الخامس والثلاثون (11)
---> العدد السادس والثلاثون (10)
---> العدد السابع والثلاثون 37 (10)
---> العدد الثامن والثلاثون (8)
---> العدد التاسع والثلاثون (10)
---> العدد الأربعون (11)
---> العدد الواحد والاربعون (10)
---> العدد الثاني والاربعون (10)

 

البحث في الموقع :


  

 

جديد الموقع :



 شهر الدعاء والتضرع الى الله

 ليلة القدر... لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ

 شَهْرَ اللّهِ وعطاءاته

  من فضائل الصيام وخصائصه العظيمة

 الصوم لي وأنا أجزي به

 لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان

  المسارعة الى اقتناص الفرص

 من وظائف وامنيات المنتظرين للامام المهدي (عج)

 الدعاء لإمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف

 شعبان شهر حَفَفهُ  الله بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوانِ

 

الإستخارة بالقرآن الكريم :

1.إقرأ سورة الاخلاص ثلاث مرات
2.صل على محمد وال محمد 5 مرات
3.إقرأ الدعاء التالي: "اللهم اني تفاءلت بكتابك وتوكلت عليك فارني من كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك"

 

خدمات :

  • الصفحة الرئيسية للموقع
  • أرشيف كافة المواضيع
  • إجعل الموقع رئيسية المتصفح
  • أضف الموقع للمفضلة
  • إتصل بنا
 

مواضيع عشوائية :



 لطائف وفوائد

 شهر رمضان شهر تهذيب النفس وبناء الذات

 قصيدة للصاحب بن عبّاد

  استقبال المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان

 من مكارم اخلاق الامام الصادق (ع)

 علاقة القرآن بشهر رمضان

 السيدة سكينة رضي الله عنها

 عن شهادة امير المؤمنين عليه السلام وبعض وصاياه

 نستنكر اعتقال سماحةالشيخ حسين المعتوق في الكويت

  حال المؤمن في الدنيا

 

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 2

  • الأقسام الفرعية : 17

  • عدد المواضيع : 1171

  • التصفحات : 7091009

  • التاريخ : 18/04/2024 - 19:48

 

 

 

 

 
  • القسم الرئيسي : مجلة اللقاء .

        • القسم الفرعي : فكر .

              • الموضوع : الطبيعة الإنسانية بين النفس والعقل .

                    • رقم العدد : العدد الثالث والثلاثون .

الطبيعة الإنسانية بين النفس والعقل

 

الطبيعة الإنسانية بين النفس والعقل

الشيخ حسن بدران

النظر في الطبيعة الانسانية، كحالة متميزة، يضعنا بنحو تلقائي أمام حالة من "النزوع الإنساني" يتم التعبير عنها عادة بتعبيرات تخص الوضع البشري، كالاحساس بمعنى الجمال، والدين، والاجتماع، وطرح السؤال، وامتلاك الإرادة، وممارسة الحرية، والقدرة على تطوير منظومة أخلاقية تسمح بتجاوز الأوضاع القائمة، والامساك بزمام الحركة في التاريخ، إلى جانب التفرد في القدرات العقلية والاجتماعية والحسية.. في المقابل، يميل أتباع "النزوع الطبيعي" إلى اعتبار هذا التميز مجرد تأويل بشري يمكن تلافيه من خلال تفكيك البنية النظرية للانسان بما يكفل العودة به إلى أحضان الطبيعة الأم. ووفقا لهذا الاتجاه، فإن الانشطة والفعاليات المتميزة انسانيا - بحسب الادعاء - قابلة للشرح وفق حتميات القانون المادي، شأنها في ذلك شأن الظواهر الأخرى التي تجد تفسيرها داخل القانون الطبيعي، فهو يجري على الجميع بلا استثناء، وأي تفرد أو تميز فيه يرتد الى خلل ما في تطبيق نظام الطبيعة. من هنا، ينبغي النظر - وفق هؤلاء - إلى الطبيعة الانسانية من زاوية "الفلسفة الطبيعية" بوصفها منظورا عالميا، يسعى لبناء فهم عام عن عالم الواقع وموقع الانسان فيه.

وقد تجاهلت الاهتمامات البحثية المعاصرة السؤال عن المصدر الخارجي للحياة والنظام الماثلين في الطبيعة، وذلك لأسباب منهجية تتعلق بدراسة الظاهرة في نفسها، أو في مجالها الادراكي الخاص بها، ذلك أن نظام الطبيعة واقع ماثل للعيان، يمتلك مبررات وجوده داخليا؛ إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى، ولا تتجاوز عما فيه تمام الشيء في طبيعته. بينما تنتمي التفسيرات التعليلية والتبريرية - التي تحيل إلى ما هو خارج الطبيعة - إلى مجال الاهتمام الفلسفي والديني، حيث تحتل الطبيعة المتضمنة لعناصر النظام والغائية مساحة واسعة من الاهتمام العقدي. ويطلق على فئة من منكري وجود الله تعالى، في التراث الاسلامي، اسم "الطبيعيين" و"أصحاب الطبائع"؛ كونهم يحيلون الأفعال المشهودة في العالم إلى الطبيعة ذاتها، بما في ذلك الافعال الهادفة الصادرة على وجه الصواب والحكمة؛ إلا أن أفعال الطبيعة، بما تتوفر عليه من الصواب والحكمة، لا تصدر إلا عن مبدأ يتوفر في ذاته على العلم والقدرة والعمد. وإذا لم تتوفر الطبيعة في ذاتها على تلك الملامح الذكية، فمن أين يأتي النظام؟ وما هو المصدر الذي يملأ الطبيعة بالحكمة، ويوقفها عند حدود لا تتجاوزها!. هذا هو السؤال النقدي الذي يختصر روح النقاش الدائر آنذاك بين الدينيين والطبيعيين. إن مجرد ظهور النشاطات الهادفة في الطبيعة لا يستلزم بالضرورة أن تكون صادرة عنها بالذات، بل يجب أن تصدر عن جهة تمتلك في ذاتها لكافة العناصر الإيجابية الناشطة في الظاهرة بحسب قانون التناسب والسنخية بين العلة والمعلول. وما نشاط الطبيعة سوى ذلك القانون الذي أجراه الله تعالى على ما أجراها عليه. وكما أن فكرة "قانون الطبيعة" لم تسعف الطبيعيين من خلال حصر الفاعلية في الطبيعة، كذلك فكرة "فوضى الطبيعة"؛ والتي تستند إلى أن انتظام الحوادث ليس بالذات بل بالعرض والاتفاق، وأن ما نسميه نظاما يوجد إلى جانبه فوضى وتشوهات خلقية. حيث يسجّل على هذا التصور أن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو استثناء في الطبيعة، لا يوجب أن يكون جميعها كذلك؛ وليس هو بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على مثال واحد جريا دائما متتابعا؛ إذ أن الاتفاقي لا يدوم ولا يقع أكثريا[1]. وليس بعيدا عن أجواء هذا النقاش، تلك الأنظار العقدية التي كانت تحدق إلى عالم الغيب من منظار مادي، والتي بلغت الى حد تأسيس رؤية عن تجسّم الذات الالهية، وما إذا كان من الممكن رؤية الله بالحس، وما يتبع ذلك من آراء متضاربة تتعلق بصفات الله الخبرية، وهي الصفات التي تنسب إلى الله تعالى الأعضاء والأفعال الجسمية. هذه الاهتمامات ذات الشأن المادي كانت تشغل العقل الاسلامي بالفعل في مرحلة سابقة لغايات دينية، لا تمت إلى بحث الطبيعة بصلة.

وعلى هذا النحو، لم يكن الباحثون قديما يتطرقون إلى تفسير الرابط بين النفس والجسد من زاوية معرفية بحتة تهدف إلى المواءمة بين طرفين من طبيعتين مختلفتين، بمقدار ما كانت تطلعاتهم الدينية هي المحك في توجيه آرائهم وطبيعة أفكارهم. ومع ذلك، فقد وجد من القدماء من وحّد بين مساري النفس والجسد، بايلاء الجسد أهمية قصوى، وإرجاع النفس إليه واختزالها به. فقد بدا الإنسان، بنظرة متداولة في جانب من التراث، كما لو أنه هو هذا الماثل أمامنا بجسده الحي. ولئن كانت النفس مغايرة للجسد، إلا أنها تعود بشكل أو بآخر إلى حيثية جسمانية؛ هكذا توزعت الآراء في تفسير حقيقة النفس بين كونها هي النار السارية في الهيكل المحسوس. أو الهواء. أو الماء. أو العناصر الأربعة والمحبة والغلبة أي الشهوة والغضب. أو الاخلاط الأربعة. أو الدم. أو شخص المزاج الخاص. أو أنها جزء لا يتجزأ في القلب. وكثير من المتكلمين على أنها الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره، والتي من شأنها أن يحس بها. وجمهورهم على أنه جسم مخالف بالماهية للجسم الذي يتولد منه الأعضاء، نوراني علوي خفيف حي لذاته، نافذ في جواهر الأعضاء، سار فيها سريان ماء الورد في الورد، والنار في الفحم، لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال، بقاؤه في الأعضاء حياة، وانتقاله عنها إلى عالم الأرواح موت. وقيل: إنها أجسام لطيفة متكونة في القلب سارية في الأعضاء من طريق الشرايين، أو متكونة في الدماغ نافذة في الأعصاب الثابتة منه إلى جملة البدن. فالنفس بحسب الاعتبارات الكلامية الآنفة من قبيل الأجسام، وهذا النوع من التفسير يغلب على الوعي المباشر أكثر منه على الوعي التأملي العميق؛ ذلك أن التفسير المادي قابل للفهم المباشر؛ والإشارة إلى النفس باعتبارها شيئا "مجردا عن المادة" هي إشارة تحيل إلى الاضمار والتغاير والتقابل، وهي عوامل ضد معرفية كونها لا تحيل على التفسير والشرح والتماثل. وعلى سبيل المثال؛ فإن المعرفة المباشرة بالأشياء تحصل بواسطة الحواس، وبدون الحواس لا تتحقق تلك المعرفة، ومرجع الحواس إلى الجسد. ثم إن النشاطات الأخرى التي نقوم بها من القيام والقعود والمشي والوقوف... هي فعاليات صادرة بنحو مباشر عن الجسد. مضافا إلى أن افتراض وجود طبيعة أخرى للنفس، غير الطبيعة المادية، هو افتراض تفكيكي استنتاجي، والحالة الوجدانية للمرء تأبى عن وجود مثل هذا التنافر داخل بنية ذاته الواحدة. وقد كان المتكلمون ممثلين في الغالب للاتجاه العملي العام، باستثناء بعض الحالات الخاصة التي توغل في الفكر التنظيري. من هنا، لا ينبغي أن يفهم من تفسيراتهم المتقدمة إرادة تغليب الاتجاه المادي في مقابل الاتجاه الروحي، وإن كان قد يلزم عليهم مثل ذلك. وإنما ينبغي مقاربة تفسيراتهم للنفس كما لو أنها أقرب إلى تفسير المزاج الناظم للعلاقة بين المجرد والمادي، وهو الذي من شأنه أن يفسّر كيفية الارتباط بين النفس والجسد. وبذلك يتضح أن النقاش حول تصور العلاقة يعود في أصله إلى تحديد تصوراتنا عن الجسد والنفس، اذ يصعب على الاتجاه العملي العام أن يتعامل مع النفوس كما لو أنها اشباح تختبئ وراء مواد. الأمر الذي يضعنا وجها لوجه أمام الواجهة الفعلية لاشكالية الطبيعة الانسانية والتي تكمن في كيفية تفسير ارتباط النفس بالجسد تفسيرا مقبولا في السياق العلمي المعاصر؛ ذلك أن تميّز النفس عن الجسد جوهريا قد يفضي إلى تصور عشوائي يقضي بنفي الخصوصية التي تنظّم العلاقة بين نفس خاصة وجسد خاص، وإلا فما الذي يبرّر استمرار وجود الجسد للنفس رغم تغيرات الزمن!. هذه الخصوصية التي وجدها الفلاسفة في المزاج والاعتدال الخاص؛ ذلك أن لكل نفس بدن لا يليق بمزاجه واعتداله إلا لتلك النفس الفائضة عليه، بحسب استعداده الحاصل باعتداله الخاص، سواء كانت النفس متميزة عن البدن منذ أول وجودها، أو كان تميزها عنه لاحقا وعلى أساس الحركة الجوهرية. مهما يكن، فقد تنبّه المتكلمون إلى وجود عناصر أساسية صادرة عن الانسان لا تنتمي بطبيعتها إلى أفاعيل الأجسام، كونها تحيل إلى الثبات والوعي والارادة... وحيث إن الأجسام غير متنوعة بحسب الفصول والمبادئ؛ فلا يمكن إسناد تلك العناصر إليها، وإنما تأتّى لهم اثبات تميز النفس عن طريق الأدلة السمعية والعقلية؛ حيث تتميز النفس بثباتها، خلافا للبدن الذي هو في تبدل وتحلل على الدوام [الثبات]، كما أن الانسان لا يغفل عن وجود ذاته، وقد يغفل مع ذلك عن البدن [الوعي]، مضافا إلى أنه قد يريد ما يمانعه البدن مثل الحركة إلى العلو [الارادة][2].

ويرى ملا صدرا أن مبحث النفس الإنسانية يمكن أن يلحظ من جهتين، جهة ترتبط بالعلم الطبيعي، وجهة ترتبط بالعلم الإلهي. ويقول في بداية السفر الرابع: "النظر في النفس بما هو نفس نظر في البدن. ولهذا عدّ علم النفس من العلوم الطبيعية الناظرة في أحوال المادة وحركاتها، فمن أراد أن يعرف حقيقة النفس من حيث ذاتها مع قطع النظر عن هذه الإضافة النفسية يجب أن ينظر إلى ذاتها من مبدأ آخر، ويستأنف علما آخر غير هذا العلم الطبيعي"[3]. فالبحث عن النفس من جهة ما لها من إضافة استكمالية بالنسبة للبدن يجب أن يكون في حيطة العلم الطبيعي[4]. ويصنفها في جملة العلم الإلهي من جهة كونها موجود روحاني يتحرّك ويسير نحو مبدئه. ويرى ميرداماد - أستاذ صدر المتألهين - أنه يبحث في العلم الطبيعي عن النفس من حيث إنها حال البدن الجسماني نزولا وهبوطا، وفي الإلهي عن حال جوهرها المجرد عروجا وصعودا [5].

ولا يتردد الفلاسفة في القول بتجرد النفس، وأنها متعلقة بالبدن تعلق التدبير والتصرف. يدل على تجردها أن المادة لا تكون صورة لغير المادي، والنفس تتمثّل المعنى مجردا وتعقله. فتتصور المعاني المشتركة بين أشياء متعددة، بتجريدها من الأوضاع والكيفيات، وتتعقل الأضداد، ونحوها من المعاني والصفات التي يمتنع حلولها في المادة. إلى ما هنالك من أدلة أقاموها على اثبات تجرد النفس وتميزها.

فالنفس ليست مادة؛ وإن صح أن يطلق لفظ النفس على ما هو مادي، كالنفس النباتية التي هي مبدأ أفاعيل التغذية والتنمية والتوليد. والنفس الحيوانية التي هي مبدأ الحس والحركة الإرادية. والنفس الناطقة الانسانية. وتفسر حينئذ النفس بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة. إلا أن هذا الاطلاق لا ينفي تجرد النفس تجردا تاما باعتبار آخر تكون فيه عقلا.

 فالعقل جوهر مجرد عن المادة، وهو إن تعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف يطلق عليه حينئذ اسم النفس. ثم إن الاقرار بمبادئ متعددة لأفاعيل النفس، لا ينفي اتحاد هذه المبادئ بالنفس اتحاد المراتب الناقصة بالكاملة، فالنفس في وحدتها كل القوى. كما تنبه الفلاسفة إلى عمق الاشكالية الكلامية الماثلة في تصورهم لمفهوم العلم؛ إذ يقوم النشاط المادي في تفسير علاقة النفس بالجسد على قاعدة الوعي التلقائي، أي على الخاص الحسي، ومن ثم ينقضّ على المشترك العقلي من خلال توحيد المرجعية الادراكية للخاص والمشترك في الجسم. فيتم تصوير العلاقة على أساس أن المدرك للكلي هو بعينه المدرك للجزئي، وحيث إن المدرك للجزئي جسم، والمدرك للكلي هو النفس، فتكون النفس جسما. من هنا، عمد الفلاسفة في سياق نقد النظرية الكلامية إلى إعادة تنقيح مفهوم العلم من خلال ارساء تصور دقيق يرتكز على أساس نشاط نفسي، فالنفس هي التي تدرك، لا الحواس. والنفس تدرك الكليات بالذات، والجزئيات بواسطة الآلات (الحواس). والنفس تدرك لذعة الجوع التي في الجسد، وقد لا تدركها عند انشغالها مع أن الجسد يفعل مقتضاه. فالحواس شرط في إعداد النفس للعلم، وليست علة ايجادية. وقد جرّهم ذلك إلى تفسير ادراك النفس الحيواني للاشياء باضفاء نوع من التجرد الناقص لها. كما عملوا على تأصيل مفهوم الكلي، حيث تظهر نفسية النفس بجلاء في ادراكها للكليات. على أنه انما يصح الاشكال الكلامي فيما إذا كان ادراك الكلي هو ناتج لادراك مجموعة من الجزئيات، مع حذف خصوصياتها الفردية. والغاء الخصوصية هو مجرد اجراء تطبيقي آلي يطلق عليه التجريد العقلي، وفسّر بأنه يحيل الجزئي البيّن إلى كلي مبهم من خلال عملية التجريد والحذف، وهذا المعنى يتناسب مع النزوع الاسمي القائم على إنكار الكلي الطبيعي. بخلاف المبنى الارتقائي، الابداعي، القائم على خلاقية النفس في عملية ادراك الكلي الطبيعي، وهذه النفس تؤول إلى العقل حين تبلغ مرحلة التجرد التام عن البدن، والعقل يحيل الاشياء إلى معانيها من خلال الكشف عن حقائقها الذاتية. هذا النقاش سوف يكشف عن الأبعاد العميقة للصراع الفكري الذي كان يخاض شرقا وغربا من خلال تقديم رؤية حول العقل، رؤية سوف تنعكس إلى داخل المجال العقلي نفسه، وسوف تتمثل في حيثيات عمل العقل بوصفه عقلا أداتيا أو عقلا إبداعيا فاعلا.

ثم إن الطبيعة تنشد في أفعالها ما هو الأوفق بالنظام الأفضل، وذلك على قاعدة الايمان الذي يحيل أحداث الطبيعة إلى مفهوم العناية الالهية وفق مبادئ عقلية تجد مرتكزاتها في الفطرة الانسانية، وهذا القول لا ينبغي أن يفهم كما لو أنه يتأتى باسقاط فوقي يعمل على الغاء الفعالية الانسانية، بل إن الفعالية الانسانية نفسها متضمنة في هذه العناية. يقول الفيض الكاشاني: "إن الأنواع ليست حاصلة عقيب الحركات والاستعدادات، والقسر لا يكون دائميا، بل إن العناية اقتضت ما هو الأوفق بكل نوع، على الوجه الذي يصح أن ينسب إلى إرادة خالية عن شوب تغيّر وانفعال، وهذا ضرب من البرهان اللمي الذي يقام على وجود الأشياء، من جهة العناية المتعلقة بما هو الأوفق بالنظام الأفضل..."[6]. وأساس هذا الايمان هو أن الطبيعة ليست مسرحا فارغا من أي شيء، أو مسرحا لدمى متحركة، بل هي مسرح ممتلئ بالشخصيات الحقيقية التي تتحرك بمقتضى قوانين الحياة التي أوجدتها العناية. بمعنى آخر إن الظواهر التي تنعكس على المسرح ليست سوى تعبيرات عن الحقائق التي تملأ الواقع وتصنع واقعيته. فالطبيعة ليست شيئا مستقلا بذاته موجود كطبيعة كلية، كما أنها ليست وعاءا فارغا من كل شيء، وإنما تظهر الطبيعة في نماذج متعددة؛ في انسان واسد وحجر وأشجار ونار... وهي نماذج واقعية وليست أشباحا، ويكمن وراء كل مظهر حقيقة نوعية تعتبر هي المؤثر المباشر في تحديد معالم ذلك المظهر. وهذه الحقيقة ليست شيئا آخر مخالفا للطبيعة نفسها، بل ان مفهوم الطبيعة هو تصور مضلل إذا ما عزلناه عن سائر المفاهيم والحقائق التي نسميها نوعية. إن عبارة الفيض هنا "الأنواع غير حاصلة عقيب الحركات والاستعدادات" هي عبارة جذرية على مستوى القراءة والفهم، من شأنها أن تفتح لنقاش واسع يدور رحاه على أسبقية الوجود على الماهية أو العكس، وعلى تحديد نوعية العلاقات القائمة في بنية الطبيعة الانسانية، من كونها تمثلات عارضة على الطبيعة الانسانية المنجزة، أو كونها ديناميات جدلية تمهد وتعد لجوهر الحالة الثقافية الانسانية، وهل يمكن التمييز بين الكمالات الاولية والثانوية بعزل بعضها عن بعض، أم أن الاعراض هي شؤون حركة الجوهر وتجلياته. كل هذا يضعنا أمام خيارات مشروعة في ترسيم نظرية تقوم على تفسير العلاقة بين النفس والجسد على قاعدة جدلية تأخذ في الحسبان موقع كل طرف الذي تفترضه طبيعته الخاصة. ولا شيء ينتشلنا من وعورة هذا المسلك سوى ايماننا الارتكازي والمستند من الناحية المعرفية على ثنائية ما، تقوم بين المظهر والجوهر. وهو إيمان يقوم على إحالة العلل الاعدادية الى الظواهر، وإحالة العلل الايجادية الى الحقائق، على أن التمييز بين الظواهر والحقائق هو في واقعه مجرد تمييز نظري. فالنفس جسمانية الحدوث بحسب المظهر، روحانية البقاء بحسب الجوهر، على أن لا يفهم من ذلك كما لو أن الجسمي في علاقة ندية مع الروحي. ووفق ذلك، لا يمكن إعطاء دور تأسيسي للطبيعة في علاقتها مع النفس إلا بمقدار ما تظهر النفس في الطبيعة، وتتكشف وظيفتها في الشروط الاعدادية كما لو أنها هي الشروط الايجادية.

 فالطبيعة لها نوع أصالة في عملية خلق الانسان، وذلك باعتباره خلقا من الطين أو الارض؛ "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جمع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود، والسهل والحزن، والطيب والخبيث"[7]. والطبيعة هنا – بعيدا عن التفسيرات الرمزية - هي مؤشر امكاني استعدادي لا غير، ولا يمكن أن تكون الطبيعة أكثر من ذاتها، فإن ايجادية الطبيعة عين اعداديتها. وكون النفس جسمانية الحدوث هو بلحاظ خلق الاعداد، وأسبقية الوجود على الماهية. وكون الأنواع ليست حاصلة عقيب الحركات والاستعدادات هو بلحاظ خلق الايجاد، وأسبقية الماهية على الوجود. والخلق في الحالتين واحد، ولا يتعدد إلا بمقدار ما تفترق الظواهر عن الحقائق في عالم الاعتبار. ذلك أن الإنسان لا ينتقل في ترحاله إلى عالم الله تعالى في اتجاه أحادي؛ يتخذ مساره انطلاقا من البنية المادية للجسد، إلى التبصر النفسي المقداري، ثم إلى التحقق العقلي بالمعنى. وإن كان في أقوال العلماء ما يشير إلى ذلك فينبغي أن يفهم في الإطار النظري لاغير. وإنما يدخل الانسان في علاقة متكافئة بحسب علائقها مع كافة حيثيات وجوده، بحيث تتيح له هذه العلاقة انتقالا وازنا على أساس بنيته الكلية الشاملة.

وفي ذات السياق، يبدو الانسان، وفقا لمنهجيات بحثية معاصرة تناولت مسألة العلاقة بين النفس والجسد، أقرب إلى الطبيعة منه إلى النفس أو العقل. وينصب البحث حول نظرية من شأنها لو تم العثور عليها أن تفسر كيفية قيام علاقة بين نموذجين مختلفين في طبيعتهما؛ وتتوزع المقترحات وفق اتجاهين رئيسين:

 أحدهما ثنائي يؤمن بوجود بعد نفسي إلى جانب الجسد، وإن كان يصطدم، باعتماده هذه الثنائية، بجدار من اللامعنى؛ حين يفترض وجود جزء فينا عصي عن الفهم العلمي.

والآخر يتملكه قلق طغيان الجسد بسبب النزوع الاحادي الذي يقصر الوجود البشري على البعد الفسيولوجي البحت. ومع ذلك يجمع الطرفان على إنكار الفصل التام ما بين النفس والجسد واعتبار النفس جوهرا مستقلا عن البدن. هذه هي المؤاخذة التي أثيرت بوجه ديكارت ونظريته عن التفاعل المتبادل والتي تفسر العلاقة بين النفس والجسم على أن الحالات النفسية والعمليات العقلية تؤدي إلى إحداث تغيرات معينة في الجسم، كما أن بعض التغييرات الفسيولوجية تكون علة لاحداث حالات نفسية وعمليات عقلية - نقدا واسعا لجهة احتفاظه باستقلالية النفس عن الجسم، واعتبار كل منهما جوهرا قائما بنفسه، ولهذا لم تنجح نظريته في ردم الهوة بينهما، واعتبرت نظريته قاصرة عن تقديم تفسير مقبول يلقي الضوء على الظروف المحددة التي تنشأ في ظلها العمليات الشعورية من جراء العمليات الفسيولوجية. والنقد نفسه يتوجه على نظرية الظاهرة الثانوية للعالم البيولوجي توماس هكسلي (ت 1895) والتي ترى في الانسان آلة واعية بلغ فيه الوعي أعلى درجات التطور البيولوجي في عالم الحيوانات. وأن الانسان مؤلف من جسم وعقل، الجسم هو الاصل والعقل فرع نابع عنه في سلم تطوره. ليس العقل جوهرا ديكارتيا متميزا وإنما يصدر عن الجسم كما يتصاعد الدخان من آلة بخارية.. بل يفرز المخ العقل كما تفرز المرارة الصفراء. ووفق هذه النظرية، يقع التأثير العلّي بين حالات النفس وحالات الجسم من جانب واحد؛ إذ يؤثر الجسم وتغيراته الفسيولوجية في حالات النفس، أما حالاتنا النفسية فليس في مقدورها أن تكون علة لأي حادثة فسيولوجية في المخ. وإلى جانب هذه النظرية طرحت نظرية الانبثاق (لويد مورجان، صموئيل اسكندر، برود) من خلال القول أن العقل الانساني حين انبثق أو نشأ عن الجسم في تطوره البيولوجي المعقد في التركيب والوظائف - اكتسب خصائص أساسية جديدة تختلف عن خصائص البدن وليس في متناول علم وظائف الاعضاء أن يدرسها أو يبين خصائصها أو يتنبأ بها. وتعاني هذه النظرية من قصور في تفسير كيفية نشوء شيء عن الجسم مختلف في طبيعته عن الطبيعة المادية. وكيف يمكن أن تكون حالات الجسم علة لإحداث حالات النفس. وهناك نظرية الموازاة بين النفس والجسم (سبينوزا، مالبرانش، ليبنتز، فيشنر) والتي تستند إلى واقعة أساسية ترى أن بين حالاتنا الشعورية وحالاتنا النفسية وبين الحالات البدنية علاقة وثيقة مطردة، ليست هي علاقة العلية؛ ويجب ألا تتم العلاقة العلية إلا بين طرفين من طبيعة واحدة. نفترض أن بين الحالات النفسية والعقلية من جهة، وبعض الحالات البدنية والتغيرات الفسيولوجية من جهة اخرى موازاة أو مصاحبة أو تلازما في الحدوث: حين أقوم بعملية عقلية يقابلها في الحدوث حادثة فسيولوجية، وحين تحدث بعض الحوادث الفسيولوجية تواكبها حالة نفسية معينة، دون ان يكون بين حدوث النوعين من الحالات والحوادث علاقة علية. وتتخذ هذه النظرية صورا مختلفة مع مالبرانش الذي قال بنظرية المناسبات بمعنى أن حدوث حادثة عقلية – مثل ارادتي تحريك ذراعي – بمثابة فرصة لله ليحدث تغييرا معينا في بدني تتبعه حركة الذراع. وكذلك الحال في كل الحوادث النفسية والفسيولوجية. والله علة هذه الموازاة الدقيقة. ومع ليبنتز فيما يسميه التجانس المحدد منذ الأزل بمعنى أن العقل (الموناد الاسمى في الانسان) لا يؤثر في الجسم (المونادات التي تؤلف الجسم) تأثيرا عليا. كما أن الجسم لا يؤثر في العقل لأن كلا منهما كاف نفسه مستقل عن الآخر (كل موناد وحدة تامة مغلقة على ذاتها)، لكن حين تحدث حالة نفسية يقابلها تغير جسمي بطريقة بالغة الدقة، وحين تحدث بعض التغيرات البدنية يقابلها ظهور حالات نفسية معينة دون أن توجد بينها علاقة تأثير وتأثر وإنما هي مجرد مصاحبة محكمة. وذلك مظهر للتجانس والانسجام الذي حدده الله منذ الأزل للانسان والكون. ومع فيشنر الذي شبّه العلاقة بين الحوادث النفسية والفسيولوجية بنص وترجمته، أو بترجمتين لنص واحد بلغتين مختلفتين. كأن الحوادث النفسية والفسيولوجية مظهران متوازيان لحقيقة واحدة. وأخيرا مع كوهلر الذي بعد تأكيده تمايز الحالات النفسية والحوادث الفسيولوجية بحيث لا تقوم علاقة علية بينهما، يعلن قبوله لنظرية الموازاة كموقف مؤقت ريثما يقدم لنا علما الطبيعة والنفس اكتشافات جديدة تساعدنا على تفسير الاقتران. ولا تفصح لنا هذه النظرية عن الأساس في تقرير ما إذا كانت هذه المصاحبة موازاة أو عليّة، والحال أن الوعي المباشر بما يحدث لنا من تغيرات فسيولوجية في المخ أو الاعضاء غير ممكن لنا! مضافا إلى أن المشكلة ليست تجريبية، فلا جدوى من توقع اكتشافات علمية تجريبية في المستقبل تكشف لنا عن العلاقة بين النفس والجسم. ولعل النظرية الفسيولوجية (الذاتية) قد تداركت هذا الخلل حين اعتبرت أن الانسان مجرد كائن مادي بحت، وفسرت الحياة الشعورية تفسيرا فسيولوجيا خالصا، بأن ردتها إلى ما يحدث في المخ: حين أقول أن لدي خبرات نفسية أو أمارس عمليات عقلية فإني أتحدث عن حوادث فسيولوجية في المخ، وإذن فالعقل وحالاته ليس سوى تغيرات في المخ. ويبقى أن هذه النظرية هي مجرد فرض فلسفي متطرف، لا يقبل الحسم عبر اكتشاف معطيات تجريبية. فالانسان ليس مجرد جسم مادي يخضع لقوانين الطبيعة والأحياء ووظائف الاعضاء وإنما هو جسم وعقل، ولكن مع تفسير العقل تفسيرا خاصا يسمح بالملاحظة العامة الموضوعية، بحيث يمكن الحديث عن نظرية تجريبية. من هنا، تقترح النظرية السلوكية الفلسفية إعطاء النفس أو العقل تصورا آخر مخالفا للتصور الديكارتي، الجسم شيء لكن النفس ليست شيئا آخر داخل الجسم بطريقة غامضة، بل النفس أو العقل لا معنى له أو دلالة سوى أنه نماذج معينة من السلوك في البيئة الخارجية أو استعداد له إذا توفرت ظروف مناسبة. وقد طورت هذه السلوكية الفلسفية السلوكية السيكولوجية في عدة نقاط، منها أنها لم تعد تفسر السلوك بلغة علم وظائف الاعضاء. ولم تعد تقصر السلوك على السلوك الفعلي الراهن وانما تسمح بالسلوك الممكن في المستقبل، ولم تنظر إلى الانسان نظرة مادية خالصة تخضع كل حالاته الشعورية لقوانين علوم الطبيعة والأحياء ووظائف الاعضاء. الانسان كائن مادي لكنه كائن مادي فريد من جهتين على الاقل:

ان الانسان هو النموذج الوحيد بين الكائنات المادية الذي يمكنك ان تتحدث عن ظواهر وحالات نفسية وعمليات عقلية من احساس او تذكر او تفكير، بالاضافة إلى انك تقع في خلط منطقي ان قلت ان القضية "انا اكتب بحثا فلسفيا" مرادفة للقضية "جسمي يكتب بحثا فلسفيا"، فالقضية الثانية عديمة المعنى.

وتواجه هذه النظرية اعتراضات شتى، منها وجود حالات نفسية وعمليات عقلية نكابد خبرتها ولا تؤدي إلى سلوك بالفعل او بالقوة، كما أن مجال سلوكنا أضيق من مجال خبراتنا الشعورية[8].

ويبدو أن شبكة المنهجيات المعقدة التي ألقت بظلالها على المشكلة، قد فاقمت من زخم التحديات التي واجهت الباحثين في هذا المجال المعرفي الشائك، وإلى جانب هدم الرؤى التقليدية انطلاقا من أزمة مفهوم الجوهر، وانجازات علم وظائف الاعصاب، وعلم التأويل اللغوي، وسائر حقول الابستمولوجيا والانطولوجيا والأنثروبولوجيا النفسية... كانت الأسئلة تتراكم وتتناسل بنحو يكشف عن حجم التعقيد الذي تتطلبه أية معالجة ممكنة، وهي الأسئلة التي تحتل حيزا واسعا من الاهتمامات التي تشغل العقل الغربي المعاصر، والتي يمكن مقاربتها كالتالي: هل الصيغة القانونية التي تزعم أن شيئا ما يدعى العقل مرتبط بشيء ما يدعى الجسد هي صيغة مناسبة؟. وهل العقل يوجد ككيان؟ وكيف يمكن أن يتصف اللامادي بالوجود؟. ألا يستحسن أن نتحدث عن العقلي بدل العقل؟ وإذا كان العقل ليس شيئا يرتبط بالجسد، وإنما يخص الانسان، هل من الضروري الاعتراف ببعد عقلي بحد ذاته، أم لا بد من ربطه بالانسان كشخص يمكن موضعته على ضوء الأنثروبولوجيا النفسية؟. وإذا لم يكن العقل شيئا بحيث يمتلك طبيعة موضوعية، هل هو مجرد خاصية وحدث، أو أنه ليس أكثر من أسلوب ووظيفة تربط المعنى بالخبرة الفردية!. وهل يمكن وجود بعد انساني مستقل وغير قابل للاختزال إلى الجسدي؟. وهل يجب أن نتحدث عن الدماغ والجهاز العصبي المركزي بدل الحديث عن الجسد؟. أليس من المتعين ان نتحدث عن "عمليات" نفسية وعقلية مقابل التغيرات الفسيولوجية في الجسم؟ وهل من الضروري وجود لغة وصفية للظاهرات النفسية مستقلة عن اللغات المكونة جسديا؟. وهل أن المعرفة الطبيعية قابلة لشرح الوجود بكل حيثياته، بحيث يمكن للعلوم الحيوية والعصبية أن تتكفل بشرح الانسان كجسد، ويمكن لها أن تلبي المصالح المعرفية المرتبطة بالانسان عن طريق هذه العلوم وحدها؟[9].

هذه هي طبيعة التساؤلات التي يمكن ملاحظتها بشكل أو بآخر في طيات مباحث الفلسفة العلمية، والتي تتفق في مجملها على تجاوز الصيغة التقليدية المقدّمة عن الانسان والتي تحيل وجود النفس إلى كيان ميتافيزيقي، على الرغم من الصعوبة التي تحول دون تقديم صياغة واضحة عن الانسان لا يتخللها جنوح نحو ارساء الطبيعة على القاعدة الفيزيائية العامة. ويبدو أن الهاجس الذي يتملك مجمل الأبحاث المعاصرة يتمحور حول تبرير الحالة العلمية كوجود ذهني له شأنية الحكاية والكشف عما وراءه، بغية التوصل إلى شرح فسيولوجي أو عصبي عن الكيفية التي يقبض بها العقل على الواقع، هذا الوجود الخاص "المتميز بالكشف" يصطدم دائما بمستلزمات الطبيعة المادية التي لا تمتلك في ذاتها حيثيات الوعي القصدي.

وترجع المواقف التي تسعى لاشباع هذا السؤال المعرفي إلى اتجاهين، أحدهما يسعى لانكار الواقع النفسي التجريدي للعملية العلمية، من خلال إحالة العلم نفسه إلى مجموعة عوامل عصبية فسيولوجية بحتة، بحيث لا يمكن معها القبض على أية وقائع كلية شاملة. والآخر يقر بالبعد النفسي، ويردّه الى مجرد سيرورة نفسية (سيكولوجية) تعبر عن ذاتها من خلال الوعي، والذاكرة.

يتضح إلى هنا أن الموقف من مشكل الطبيعة الانسانية يرتد إلى أسباب معرفية تتعلق بما إذا كان من الممكن إيجاد ترسيم يكشف عن الأصول النظرية التي من خلالها يتم استجلاء الجوهر من وراء المظهر. ذلك أن الجوهر الذي تتمحور حوله الفلسفات العقلية ويقوم على الكشف والتفسير، يرتد بنفسه إلى معطى عقلي، ولا يمتلك أي رصيد ضمن منظومة العلم التجريبي والفلسفة العلمية. وقد تناولت البحوث الفلسفية الكيفية التي تتم من خلالها الإحاطة العلمية بالاشياء. كما تطرقت إلى تفسير العقل والنشاط العقلي.

 وينبغي أن نميز بين شيئين في العقل:

1. مضمون العقل ومحتواه، هو العقل نفسه. وقبل ذلك يسمى عقلا هيولانيا؛ والمعلوم الذهني هو عين المضمون العقلي. إذ يتشكل العقل وفق جدلية المادة والتجرد، الامكان والفعلية، ويتحدد على أساس ذلك موقعه من عقل هيولاني، وعقل بالفعل، وعقل بالملكة، وعقل مستفاد... وكلما اقترب العقل من الفعليات تحقق له نصيب من التجرد. والعقل بهذا المعنى (المصدري) أشبه ما يكون بحدث وخاصية، لا بجوهر. ويتم تفسير العلاقة بين العقل ومعقولاته، على أن ما يسمى بالعقل هو مادة المعقولات، والمعقولات هي صوره العلمية. كما يتم تفسير حصول العلم على أنه عبارة عن اتحاد العقل بالصور العلمية؛ إلا أنه اتحاد بنحو المادة والصورة. والمادة في ذاتها مبهمة، غير متعينة، وإنما يحصل لها التعين - بأن تصير نوعا خاصا - بواسطة الصورة. فالمادة بحاجة الى الصورة في تحققها. كما أن الصورة بحاجة الى المادة في تشخصها.

 إذاً، نسبة العلم الى العقل هي نسبة الصورة الى المادة؛ فالعقل لا يكون في حالة التعقل بمثابة الشيء الذي يُنسب له المعلوم، وانما يصير نفس المعلوم؛ ويتحول الى وجود علمي هو وجود ذلك الشيء الذي علمه. وليس التعقل فعلا من أفعال العقل، وإنما العقل نفسه عين الادراك والتعقل. فلا تحقّق للعقل بدون العلم. ولا قوام للعلم إلا بكونه معقولا. فالمعقولية نفس هويته؛ إذ وجود العلم في نفسه عين وجوده للعقل. وتدرّج العقل في مراتب العلم عبارة عن تدرّجه في أطوار الوجود. فالعلم ليس مجرد كمال ثانوي، وانما تتسع دائرة العقل وجوديا بقدر معلوماته. والنتيجة التي نريد التوصل إليها هي أن العقل يتحد بالمعلوم الذهني؛ فإن كان المعلوم بطبيعته الذهنية جوهرا، كان العقل جوهرا. وإن كان المعلوم بطبيعته الذهنية عرضا، كان العقل عرضا. وهذا بمعزل عن طبيعة المعلوم التجريبية.

2. يتميز المضمون العقلي عن سائر الموجودات في أنه يحكي عمّا وراءه من وقائع تجريبية، وهذه الحكاية ليست جوهرا ولا عرضا، وإنما هي حكاية عنهما فحسب. وقد ذهب الفلاسفة المسلمون إلى القول باحتواء الانسان ذهنيا على حقائق الاشياء إلى حد المضاهاة بين الواقع العيني والواقع الذهني، وهذا الوجود الذهني وإن كان - بوجوده - عرضا قائما بالنفس، وفق أكثر التفسيرات شيوعا، إلا أنه حاكٍ مع ذلك عن الواقع الخارجي إلى حد التطابق. بحيث تبلغ المعرفة ذاتيات الاشياء وحقائقها ولو في الجملة. وبرروا لذلك معرفيا؛ اذ لو لم يكن العلم مطابقا، للزمت السفسطة. كما برروا له وجوديا؛ اذ العلم ذو وضعية وجودية، فما بعد العلم ليس كما قبله. ولو لم تكن الحكاية مطابقة للوقائع، لانتفى العلم بوضعيته الوجودية، ولكان الحاصل في الذهن موازيا لما قبل (الجهل). وهكذا يبدو أن الجانب المعرفي يعتضد بالجانب الوجودي في تفسير واقعية العلم، ولا ينفصل عنه بحال. ذلك أن عنصر الكشف والحكاية، هو ما يميز العلم كوجود بين موجودات هذا العالم.

والملاحظة الجديرة بالذكر، هو أن المفاهيم الحاصلة في الذهن، وإن كانت تحاكي حقائق الاشياء صوريا، إلا أنها لا تمتلك واقع تلك الاشياء. فإنّ تصورنا للطبيعة البشرية، كأن نتصورها مثلا من مقولة الجوهر، لا يعني أن المفهوم الذي حصلنا عليه صار بنفسه جوهرا – بوجوده الحكائي - بدعوى أن ادراكنا للطبيعة البشرية هو إدراك مطابق لذاتها. ونحن لا نحتوي على الواقع الخارجي بنفسه، وإنما تظل المسافة بيننا وبينه شاسعة، غاية الأمر أن نتساءل هنا حول ما اذا كان ما حصلنا عليه مما هو غير مطابق للخارج – وجوديا – هل هو مطابق له – ذاتيا – أم لا.

وملخص القول، ان العقل ليس جوهرا بذاته، بل هو يتبع معلومه الذهني في الجوهرية والعرضية. وهذا المعلوم وإن كان قد يحكي عن واقع ما، هو جوهر في نفسه أو عرض، إلا أن نفس الحكاية شأن آخر. وينبغي التنبيه على أن هذا المبنى يقوم على إرجاع ثنائية الصورة والمادة إلى الاعتبار الذهني التحليلي، بحيث لا تكون المادة متحصلة، بل قوة محضة، فيكون تركيبها مع الصورة اتحادي (صدر المتألهين، الطباطبائي). بخلاف المبنى القائل بثنائيتهما الواقعية، بحيث تكون المادة متحصلة جوهريا، ويكون تركيبها مع الصورة حينئذ تركيبا انضماميا (السبزواري، المشاء).

ومهما يكن الموقف من العقل، فلا شك أن المسار الذي يطويه الانسان في تفكيره وادراكه، هو مسار متميز ويحكي عن مضمون جوهري قابل للتحقق التدريجي في عالم إمكاني، والتعبير عن خصوصيته الفريدة من خلال تجاوز الأوضاع المبتذلة والنزوع الغائي الذي يسمو بالطبيعة ويضفي عليها المعنى والقيمة والخلاقية.



[1] هذا الموضوع احتل حيزا واسعا من النقاش في فترة مبكرة من التاريخ الاسلامي، وكتبت فيه رسائل ومدونات، على سبيل المثال: توحيد المفضل، ط 3، مكتبة الداوري، قم ايران.

[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 58، تحقيق محمد باقر البهبودي، الطبعة الثانية، 1983م، مؤسسة الوفاء ، لبنان، ص 68 – 73.

[3] الأسفار الأربعة، صدر الدين الشيرازي، ج9، ط3، 1981م، دار احياء التراث العربي ، بيروت، ص10.

[4] المبدأ والمعاد، صدر الدين الشيرازي، مقدمة وتصحيح جلال الدين الآشتياني، انتشارات انجمن فلسفه، 1354، ص7.

[5] عيون مسائل النفس، حسن زاده آملي، حسن، مؤسسة انتشارات اميركبير، تهران، 1371، ص297 – 298.

[6] عين اليقين، الفيض الكاشاني، تحقيق فالح العبيدي، الجزء الثاني، الطبعة الاولى، 2007م، دار الحوراء، بيروت، ص24.

[7] مسند أحمد، الامام احمد بن حنبل، الجزء الرابع، دار صادر، بيروت، ص400.

[8] في النفس والجسد، محمود زيدان، دار الجامعات المصرية، الفصل الثامن برمته (العلاقة بين النفس والجسم) ص 183 - 202.

[9] لغز العقل، سرجيو مورافيا، تج عدنان حسن، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 2002م، 14 – 16.

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/03/14   ||   القرّاء : 4131


 
 

 

 

تصميم ، برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net

هيئة علماء بيروت : www.allikaa.net - info@allikaa.net