السياق القرآني ودوره في تحديد مدلول الآيات والألفاظ
السياق القرآني ودوره في تحديد مدلول الآيات والألفاظ
الشيخ سمير رحّال
للسياق أهمية كبرى في تحديد دلالة واستكشاف مراد المتكلم، ولا بد في سبيل الوصول إلى تلك الدلالات من وضع الكلمة، أو الجملة، في سياقها الذي وردت فيه، ونعني بالسياق الجو العام الذي وردت فيه وما يكتنفها من قرائن ودلائل، حيث هناك الكثير من الكلمات الموضوعة لأكثر من معنى، ولا يمكن استكشاف المعنى المراد إلا بملاحظة المورد الذي وردت فيه، الذي على أساسه نستطيع تقديم أحد المدلولات على ما سواه حتى لو لم يكن هو المعنى الأكثر تداولاً.
وكذلك الأمر في الجملة الواحدة، فعلى رغم ظهورها بقطع النظر عن السياق في مطلب معين إلا أننا نستكشف أمراً آخر بملاحظة السياق.
وكمثال على ذلك كلمة «عين» الموضوعة للعين الباصرة والعين فكلمة عين، صحيح أنه يتبادر إلى الذهن عند إطلاقها العين الباصرة، ولكن هذا لا ينفي المعاني الأخرى والمحدد للمراد هو سياقها.
وكذا كلمة إفعل مثلاً فهي تدل على وجوب إتيان أمر ما، ولكن وصفها في سياق آخر قد يفيد معنى التهديد، أي المعنى المناقض للمعنى الأول تماماً.
كما هو الحال عندما يقول أب لولده «إفعل الأمر الفلاني» فقد يفهم الولد الطلب لشيء ما ولكن ترافق تلك الصيغة. بجو معين قد يفهم منه الولد نهياً ويكون قول إفعل بمثابة لا تفعل.
ما يعنينا في هذا المجال الحديث عن السياق القرآني ودوره في تحديد دلالات الآيات وألفاظ تلك الآيات، فمثلاً يستخدم القرآن الكريم صيغة الأمر ويقصد بها معناها الظاهر كما في قوله تعالى: «وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» أي هناك أمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكن هذه الصيغة نفسها قد يقصد بها الإباحة كما في قوله تعالى: «وإذا حللتم فاصطادوا» لورودها بعد حظر الصيد حال الإحرام «لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم» وقد يقصد بها التهديد كما في قوله تعالى: «فاعبدوا ما شئتم من دونه» أو التعجيز «فأتوا بسورة من مثله» وهكذا، فالمحدد للمراد ومداليل الآيات مع كون الصيغة واحدة هو السياق أي ملاحظة الآيات الأخرى المقترنة بها.
وكمثال آخر على تحديد مدلول كلمة معينة في النص القرآني؛ استناداً إلى السياق ما ورد عن علي (ع) في تفسير معنى كلمة «الأب» بما تأكل الأنعام في قوله تعالى: «وفاكهة وأبّاً، متاعاً لكم ولأنعامكم» حيث قال: «إن معنى اللفظ في الآية ذاتها... فالفاكهة لكم والأبّ لأنعامكم».
وفي حديث آخر أن عمر مرّ يوماً بشاب من فتيان الأنصار وهو ظمآن، فاستسقاه فخلط له الفتى الماء بعسل وقدّمه إليه فلم يشربه وقال: «إن اللَّه تعالى يقول (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) فقال له الفتى «إنها ليست لك ولا لأحد من أهل القبلة أترى ما قبلها (ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) فقال عمر كل الناس أفقه من عمر. فنرى كيف أن الأنصاري لم يدرك هذا المعنى إلا من خلال السياق الذي وردت فيه الآية.
بل يمكن من خلال السياق إستكشاف خطأ من يتلو القرآن في حال خطئه، ومثاله أن أحد العرب سمع رجلاً يتلو آيةً هكذا «والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من اللَّه واللَّه غفور رحيم».
فقال الأعرابي أخطأت، قال: وكيف؟ قال: إن المغفرة والرحمة لا تناسبان مع قطع يد السارق. فتذكّر الرجل الآية وقال: «واللَّه عزيز حكيم» فقال الأعرابي نعم، بعزّته أخذها، وبحكمته قطعها.
ومما يؤسف له أن كثيراً من الناس يقتطعون الآية أو جزء الآية من سياقها ليستفيدوا ما يشاؤون من معاني ومضامين تنسجم مع ما يرغبون كما في قوله تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» حيث اتخذها البعض مبرراً للتهرب من المسؤوليات الملقاة على عواتقهم وفراراً من أدنى تضحيات يقدمونها في سبيل هدف أسمى مع أن الآية جاءت في سياق آيات تحث المؤمنين على الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى كجهاد مالي يضاف إلى الجهاد بالأبدان والأرواح والأنفس، من خلال تجهيز الغزاة، وأن عدم الإنفاق والبخل يؤدي إلى إضعاف جبهة المسلمين وبالتالي هلاكهم وإبادتهم قال تعال: «... وأنفقوا في سبيل اللَّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن اللَّه يحب المحسينين» فالتهلكة يقصد بها هنا ما يترتب على عدم الإنفاق.
ولا يقتصر الأمر على الشأن العملي، والآيات المرتبطة بالسير العملي للمسلمين، الذي ربما يكون ناشئاً عن الجهل، بل يتخطى الأمر ذلك إلى الأمور العقائدية وهذا ما لا يقتصر على عامة الناس بل ربما تخطاهم إلى ذلك أو فعلاً حصل ذلك لمن تسمّوا بعلماء. ففي قوله تعالى مثلاً: «وقالت اليهود يد اللَّه مغلولة غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء» قد يفهم منها البعض كما هو حال المجسّمة أن للَّه تعالى يدين حملاً لليد على المعنى الحقيقي لليد، أي القطعة المكّونة من لحم ودم، وأن حاول البعض أن يقول هي يد ولكن لا ندري كيف هي تخفيفاً للأمر، ولكن بملاحظة السياق يمكن بوضوح فهم المقصود وهو أن اللَّه تعالى جواد كريم لا كما يقول اليهود بأنه بخيل وأن يد اللَّه مغلولة.
هذه نماذج تثبت أهمية ملاحظة السياق القرآني في تحديد مدلول الآية أو جزء الآية أو حتى الكلمة الواحدة، ولكن هل السياق هو العامل الوحيد في تحديد ذلك بحيث لا شيء آخر يشاركه في ذلك أو حتى يلغي دوره وينسحب السياق أمامه تاركاً له تحديد المدلول؟
لا شك أن هناك عوامل أخرى، كأسباب النزول والروايات الصحيحة الواردة في ذلك والسبب في ذلك هو أن السياق غاية ما يفيد في المقام هو ظهور الآية في مدلول معين وهو من حيث المبدأ حجة، إلا أن تقوم قرينة في المقام تصرف هذا الظاهر عن ظاهره وبالتالي إذا ورد في الروايات الصحيحة سواء كانت المبيّنة لأسباب النزول أو الحاملة للآية على غير ما هي ظاهرة فيه، ينبغي والحال هذه الركون إلى تلك الروايات ورفع اليد عن تلك الظواهر وذلك من باب تقديم القرينة على ذي القرينة.
ومما يؤكّد هذا الأمر ما ورد عن الإمام الصادق (ع) من الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء آخر وعلى هذا فلا يصح الاعتماد على دلالة السياق لآي الذكر الحكيم كليّة» ويقول في ذلك صاحب تفسير المنار: «إن من عادة القرآن أن ينتقل بالإنسان من شأن إلى شأن آخر، ثم يعود إلى مباحث المقصد الواحد المرة بعد المرة»(1).
ويقول الشيخ الطبرسي (عند حديثه عن آية التطهير) وتبرير حديثها عن أهل البيت (ع) خاصة مع أن سياقها هو الحديث عن نساء النبي (ص) بأنها ليست هذه المرة الأولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتصل مع بعضها وتتحدث عن مواضيع مختلفة «إن هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم فإنهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه والقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب وأشعارهم»(2) ونمثل لما ذكرنا بموردين أحدهما ما ورد في سورة المائدة حيث يقول تعالى في سياق حديثه عن عما حرم اللَّه «حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير... فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن اللَّه غفور رحيم» (المائدة: 3).
في سياق هذه الآية ومن ضمنها يورد تعالى قوله: «اليوم يئس الذين كفروا من دينكم... اليوم أكملت لكم دينكم» حيث يمكن القول وكما ذهب إلى ذلك مفسّرو الجمهور من أن المقصود من إكمال الدين في الآية هو إكمال الفرائض والحدود والحلال والحرام بالتنزيل في الوحي، وبه استولى اليأس على الكفار وانقطع رجاؤهم عن هذا الدين، ويردّون تفسير ذلك بولاية الإمام علي (ع) بعدم وجود علاقة بين هذا الجزء من الآية بهذا المعنى (ولاية علي (ع) وبين الفقرات السابقة واللاحقة المتحدثة عما يحلّ ويحرم.
متغافلين عن الروايات الواردة في تفسير ذلك والتي بلغت حدّ التواتر نصاً ومعنى وعن الخاصة والعامة من أن المراد بالآية الشريفة هو يوم غدير خم الذي نصّب فيه رسول اللَّه (ص) علياً بالولاية وإماماً مفترض الطاعة مع وجود قرائن أخرى على ذلك غير روايات أسباب النزول.
إضافة إلى أن الآيات القرآنية لم تجمع على أساس النزول التدريجي والذي يؤكده وجود آيات مكية ضمن سور مدنية، وما ورد من روايات عن النبي (ص) وأمره بوضع آيات ضمن موارد غير متوافقة معها في النزول وتبعاً للمناسبات التي لاحظها النبي (ص) الذي جمع القرآن بإشرافه.
أما المورد الآخر فهو قوله تعالى: «إنما يريد اللَّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً» حيث يقال أن سياق الآيات يدلّ على أن المراد بآية التطهير نساء النبي (ص) ولكن هل هذا السياق الذي وضعت فيه الآية كافٍ للقول بأن هذه الآية مختصة بنساء النبي (ص) كما يقول البعض، أو أنها شاملة لكل أفراد بيت النبي (ص) نساءً ورجالاً (لأن الضمائر الواردة في الآية جاءت بصيغة المذكر وبالتالي فلا يصح إختصاصها بالإناث).
والجواب طبعاً هو النفي، تطبيقاً لما تقدم بيانه من أن السياق وحده لا يحدد دلالة الآية، ولورود الروايات الكثيرة جداً الواردة في كتب الفريقين والتي تحصر أهل البيت بأفراد خمسة والتي تعتبر قرينة على المراد، بل يستفاد كما يقول الشيخ الطبرسي من الروايات أن هذه القطعة قد نزلت منفصلة وقد وضعها الإمام علي (ع) لدى جمعه آيات القرآن في عصر النبي (ص) أو بعده «ويؤيده أن آية (وقرن في بيوتكن) على إنسجامها واتصالها لو قدّر ارتفاع آية التطهير من بين جملها، فموقع آية التطهير من آية (وقرن في بيوتكن) كموقع آية (اليوم يئس الذين كفروا) من آية محرمات الأكل من سورة المائدة 312».
ومن ذلك كلّه نتبين أهمية السياق القرآني في تحديد مدلول الألفاظ والآيات القرآنية ولكن دونما تجاهل لقرائن أخرى داخلية ضمن الآية، أو خارجية مرتبطة كالروايات الصحيحة التي اتفق المسلمون على أنها تفسير وبيان لكتاب اللَّه تعالى.
(1) تفسير المنار، رضا، محمد رشيد، ج2، ص451.
(2) مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الطبرسي، ج8، ص357.