مراحل حياة سيّد الشهداء عليه السلام
مراحل حياة سيّد الشهداء عليه السلام
ولد الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام في الثالث من شعبان للسنة الرابعة من الهجرة في المدينة المنوّرة
وقد اختار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لحفيده الثاني اسم "حسين" ، وهو اسم من أسماء أهل الجنّة لم يكن معروفاً حتّى ذلك الحين بين أعراب الجاهليّة.
وعندما جاء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لرؤيته أخذه في أحضانه فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى. ثمّ أخذ ينظر إليه ويبكي وعندما سئل عن سبب بكائه أجاب قائلاً: "تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ج1، ص377.
وقد اقترنت السنوات السبع الأولى من حياة الإمام الحسين عليه السلام مع السنوات الأخيرة من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يتعهّد أمر حفيده مظهراً للناس شعاعاً من أشعة علاقته تجاه الحسين عليه السلام، يقول يعلى بن مرّة أنّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى طعامٍ دُعوا إليه فإذا حسينٌ مع الصبيان يلعب في السكّة (الطريق)، قال: فتقدّم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أمام القوم وبسط يديه فجعل الغلام يفرّ هنا وههنا، ويضاحكه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت قفاه، ثمّ قنّع رأسه فوضع فاه على فيه فقبّله وقال: "حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله من أحبّ حسيناً" صحيح ابن حبّان، ج15، ص428؛ سنن ابن ماجة، ج1، ص62؛ المتّقي الهنديّ، كنز العمّال، ج6، ص233.
لقد كان النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على علم بشهادة الحسين عليه السلام على يد أمّته وقد أخبر بذلك بعض أصحابه، ومن جملة ذلك ما قاله النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لزينب بنت جحش: "أتاني جبرائيل فأخبرني أنّ أمّتي ستقتل ابني هذا -يعني الحسين- وأتاني بتربة من تربته حمراء" كنز العمّال، ج6، ص223.
إنّ الحسين عليه السلام هو خامس أصحاب الكساء، حيث إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جمعه مع أبيه الإمام عليّ عليه السلام وأمّه فاطمة عليها السلام وأخيه الحسن عليه السلام تحت الكساء، وقد سمّاهم بأنّهم "أهل بيتي" وطلب من الله أن "يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيراً" الطحاويّ، مشكل الآثار، ج1، ص334.
ومن بعد ذلك نزلت آية التطهير في شأن الحسين وبقيّة أهل البيت عليهم السلام حيث يقول تعالى:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ الأحزاب، الآية: 33.
وفي السنة الحادية عشرة للهجرة جلس الحسين عليه السلام وهو في السابعة من عمره الشريف في عزاء جدّه العزيز صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نفس تلك السنة أيضاً وبعد مدّة قصيرة جدّاً لم يلبث الحسين عليه السلام أن فجع بأمّه الزهراء عليها السلام فكان شاهداً على شهادتها وهي في ريعان شبابها.
في عهد أبيه
تابع الإمام الحسين عليه السلام حياته وحيداً يرقب إقصاء أبيه ومظلوميّته في فترة ليس فيها لعليّ عليه السلام أيّ ناصرٍ ومعين ومدافع عنه سوى أقربائه وأهل بيته وقد وصفهم قائلاً: "فنظرت فإذا ليس لي رافدٌ ولا ذابٌّ ولا مساعد إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن المنيّة" نهج البلاغة، الخطبة 217.
وعندما جلس الإمام عليّ عليه السلام على مسند الخلافة وبايعه الناس تكلّم الحسين إليهم في المسجد وقال فيما قال:
"معاشر الناس، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول: إنّ عليّاً مدينة هدى، فمن دخلها نجى، ومن تخلّف عنها هلك" الشيخ الصدوق، الأمالي، ص280.
وسعى الإمام الحسين عليه السلام جاهداً حين الخروج إلى صفّين باستنهاض أهل الكوفة ودعوتهم للالتحاق بجيش أمير المؤمنين عليه السلام فقال لهم بعد أن اعتبرهم الأحبّة الكرماء: "ألا إنّ الحرب شرّها ذريع وطعمها فظيع، وهي جرع مستحساة فمن أخذ لها أهبتها واستعدّ لها عدّتها ولم يألم كلومها فذاك صاحبها، ومن عاجلها قبل أوان فرصتها واستبصار سعيه فيها فذاك كمن لا ينفع قومه وأن يهلك نفسه، نسأل الله بقوّته أن يدعمكم بالفئة" محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج32، ص405.
وفي أثناء المسير إلى صفّين وعندما وصل الجيش إلى أرض كربلاء وقف أمير المؤمنين عليه السلام على شطّ الفرات فتغيّر لون وجهه المبارك وبكى وتأوّه وقال لولده الحسين عليه السلام: "اصبر يا أبا عبد الله فلقد لقي أبوك منهم (آل أبي سفيان) مثل الذي تلقى من بعدي" الفتوح، ص505.
وكان الحسين عليه السلام في صفّين إلى جانب أخيه الحسن عليه السلام على الميمنة قائداً وعندما ضُرب أمير المؤمنين عليه السلام كان الحسين عليه السلام في المدائن ووصله الخبر29 عبر رسالة من الإمام الحسن عليه السلام فحضر شهادة أبيه عليه السلام.
مع وحدة أخيه
وبعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بيومين بايع أربعون ألفاً الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، ولم تكد تمضي سبعة أشهر على خلافته حتّى واجه مسلسلاً من جفاء أهل الودّ ظاهراً وفتنِ الناكثين للبيعة من "أشباه الرجال كما وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام، وكذلك أساليب معاوية العدائيّة.
وفي هذه الفترة وقف الحسين إلى جانب وحدة أخيه حامياً ومسانداً ومؤازراً له في حربه ضدّ معاوية.
إلّا أنّ الإمام الحسن عليه السلام ومع مواجهته لضعف الجيش وخوفه وجبنه وركونه إلى الدنيا وخيانة قوّاده وانسحاب البعض أفواجاً أفواجاً من ذوي الشأن وغيرهم اضطرّ في نهاية المطاف مُكرهاً للقبول بالصلح وتسليم الخلافة إلى معاوية. وها هو يقول لأخيه الإمام الحسين موضحاً السبب في ذلك: "... بأيّ معين وناصرٍ أقاتل عدوّي، وبأي عضدٍ ومغمومٍ أطالب بحقّي، ألا ترى ما فعلت هذه الجماعة مع أبينا المعظّم، وما يصنعون اليوم معي، فأيّ اعتمادٍ يعتمد على هذه الطائفة وأيّ أملٍ يعقد عليهم؟"
الفتوح، ص764.
ونهض الإمام الحسين عليه السلام بعد زمن الصلح والذي يمكن تسميته بزمن الغربة والوحدة في حماية أخيه والدفاع عنه بعدما واجه الإمام الحسن عليه السلام أيّاماً عصيبة ممتزجة بشماتة الأصحاب ولومهم مع عداوة معاوية وآل أميّة وقد تعرّض سلام الله عليه للكثير من حملات الافتراء والتشويه
والجدير بالذكر أنّ أهمّ أهداف معاوية كانت رفع منزلة صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من جهة والقضاء والحدّ من منزلة ومكانة وفضائل أهل البيت عليهم السلام من جهة أخرى، وفي هذا المجال كان شغله الشاغل وهمّه الدائم معاداة الإمام عليّ عليه السلام فأوعز إلى عمّاله بذلك وممّا قاله للمغيرة الذي عيّنه والياً على الكوفة سنة 41هـ : ولست تاركاً إيصاءك بخصلة لا تتحمّ عن شتم عليّ وذمّه والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب عليّ والاقصاء لهم وترك الاستماع منهم34.
بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام انتقل منصب الإمامة الإلهيّ إلى الإمام الحسين عليه السلام، وفي عقد الإمامة الأوّل له كانت الخلافة بيد معاوية الذي فرح وسرّ عندما بلغه خبر استشهاد الإمام الحسن عليه السلام وسجد لله شكراً على ذلك.
وسعى معاوية إلى تثبيت سلطة الأمويّين وإبعاد وإقصاء أهل البيت عليهم السلام حتّى أنّه قسّم فدكاً بين مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان وابنه يزيد.
ومن طرفٍ آخر فقد كان الحسين عليه السلام وفيّاً للعهد والصلح الذي أمضاه أخوه الإمام الحسن عليه السلام فأعلن عدم إمكان القيام في وجه معاوية وأنّ ذلك خلاف المصلحة، ولذا فقد قال لبعض مواليه من شيعة الكوفة عندما دعوه إلى القيام والثورة: "وليكن كلّ رجلٍ منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حيّاً، فإنّها بيعة كنت والله لها كارهاً، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم ورأينا ورأيتم" أنساب الأشراف، ج3، ص151.
لقد سعى معاوية من خلال لعنه للإمام عليّ عليه السلام إلى أن: "يربو عليه الصغير ويهرم عليه الكبير ولا يذكر له ذاكرٌ فضلاً"
وفي مقابل هذا الفكر الباطل سعى الإمام الحسين عليه السلام إلى تبيين المنزلة الإلهيّة الرفيعة لأمير المؤمنين عليه السلام فقال يوماً في محضر معاوية:
"أنا ابن ماء السماء وعروق الثرى، أنا ابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثاقب والشرف الفائق والقديم السابق، أنا ابن من رضاه رضى الرحمن وسخطه سخط الرحمن"، ثمّ ردّ وجهه للخصم (معاوية) فقال له: "هل لك أبٌ كأبي أو قديم كقديمي، فإن قلت لا، تُغلب، وإن قلت نعم، تكذب" نور الله التستريّ، إحقاق الحقّ، ج11، ص595.
في سنة 59 للهجرة وقبل موت معاوية بسنة قام الحسين عليه السلام، وقبل التوجّه إلى الحجّ بدعوة بني هاشم والموالين والأتباع والوجهاء وكلّ من قدم إلى الحجّ للاجتماع فاجتمع إليه في منى أكثر من سبعمائة رجلٍ وفيهم مائتا رجلٍ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقام فيهم خطيباً44 ومنتقداً لمعاوية الساعي إلى تثبيت السلطة في بني أميّة قائلاً لهم: "أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية -يعني معاوية- قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم"، فدعا الحاضرين إلى إذاعة ونشر أحقيّة الحاكميّة الدينيّة المتمحورة في شخص أمير المؤمنين عليه السلام، وناشد بالله الصحابة التابعين في سبعة عشر مورداً من الفضائل المنحصرة في أمير المؤمنين عليه السلام وأحقيّته في خلافة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وقد صدّق الحاضرون كلّ ما سمعوه من الإمام الحسين عليه السلام، ومن ثمّ أكّد الإمام عليهم قائلاً:
"اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم. فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب، والله متمّ نوره، ولو كره الكافرون" كتاب سليم بن قيس، ص206.
ب ـ مواجهته للتصفية الدمويّة:
قام معاوية إلى جانب سعيه في حذف اسم عليّ عليه السلام وفضائله وأخباره بتصفية دمويّة لأصحاب ومحبّي أمير المؤمنين عليه السلام فقتل بالسيف وجوهاً معروفة- أمثال حجر بن عديّ- في محبّتها لعليّ عليه السلام ونشرها لأفكاره من جهة، ومخالفتها لظلم معاوية وبدعه من جهة أخرى.
لقد كان حجر من المدافعين الأشدّاء عن أمير المؤمنين عليه السلام فوقف بكلّ شهامة أمام محاولات بني أميّة للنيل منه وتوهينه. وقام زياد بن أبيه باعتقاله وأرسله مع أصحابه مكبّلين بالسلاسل إلى الشام، وفي رسالته إلى معاوية يصف زياد حجراً بأنّه رأس الطواغيت الموالين لأبي تراب عادّاً له من المخالفين لمعاوية، بشهادة بعض من الوجوه والأعيان عنده. أبو الفرج الأصفهانيّ، الأغاني، ج17، ص153.
"يا معاوية... وأيم الله لقد أوترت غير قوسك ورميت غير غرضك وتناولتها بالعداوة من مكان قريب ولقد أطعت امرءاً ما قدم إيمانه ولا حدث نفاقه..." الأربليّ، كشف الغمّة، ج2، ص240.
وكتب سيّد الشهداء عليه السلام إلى معاوية مندّداً به وقائلاً له: "ألست قاتل حجر وأصحابه العابدين المخبتين، الذين كانوا يستفظعون البدع ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فقتلتهم ظلماً وعدواناً، من بعد ما أعطيتهم المواثيق الغليظة والعهود المؤكّدة، جرأة على الله واستخفافاً بعهده، أولست قاتل عمرو بن الحمق الذي أخلَقَت وأبلَت وجهه العبادة، فقتلته من بعد ما أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من شعف الجبال... أولست قاتل الحضرميّ الذي كتب إليك فيه زياد أنّه على دين عليّ كرم الله وجهه ودين عليّ هو دين ابن عمّه صلى الله عليه وآله وسلم الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين، رحلة الشتاء والصيف، فوضعها الله عنكم بنا مِنّة عليكم" ابن قتيبة الدينوريّ، الإمامة السياسة، ج1، ص180.
ج ـ مخالفته تنصيب يزيد وليّاً للعهد:
وفي محاولة مفاجئة قام معاوية بالتمهيد لإعلان يزيد وليّاً للعهد وهذا ما لم يكن له سابقة في الإسلام، وقد بدأ بهذا الأمر منذ سنة 56 للهجرة من الشام ومن ثمّ طلب من أعيان المدينة الرضوخ لهذه الولاية، ولكن الإمام الحسين عليه السلام مضافاً إلى سائر الأصحاب اعترضوا عليه في ذلك وفي هذه المدّة جرت مراسلات عديدة بين الإمام عليه السلام وبين معاوية وفي إحداها يحذّره من ذلك، يدعوه إلى الخوف من الله في هذا الأمر، قائلاً له: "واعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب ويلعب بالكلاب"50. محمّد بن الحسن الكاشانيّ، معادن الحكمة، ج1، ص582.
وكتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى معاوية يقرّعه فيه ويؤنّبه على أمور صنعها قال فيه: "ثمّ ولّيت ابنك وهو غلام يشرب الشراب ويلهو بالكلاب فخنت أمانتك وأخربت رعيتك ولم تؤدّ نصيحة ربّك، فكيف تولّي على أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من يشرب المسكر، وشارب المسكر من الفاسقين، وشارب المسكر من الأشرار، وليس شارب المسكر بأمين على درهم فكيف على الأمّة، فعن قليلٍ تَرِد على عملك حين تطوى صحائف الاستغفار" النعمان بن محمّد التميميّ، دعائم الإسلام، ج2، ص133.
ومن أجل استتباب الأمر ليزيد قام معاوية بالقدوم إلى المدينة ومن ثمّ إلى مكّة واستدعى ابن عبّاس والإمام الحسين عليه السلام، وحين قال معاوية قد أصبتُ ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما... وأنّه وصل إلى حدّ الكمال وهو خير لأمّة محمّد في إدارة أمورها، ردّ عليه الحسين عليه السلام قائلاً: "... وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً أو تنعت غائباً أو تخبر عمّا كان احتويته بعلمٍ خاصّ وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ فيه من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والحمام السبق لأترابهن، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول" الإمامة والسياسة، ج1، ص186؛ تاريخ اليعقوبيّ، ج2، ص228.
فغضب معاوية من ردّ فعل الإمام الحسين عليه السلام وقال لابن عبّاس لقد ساءني رفض الحسين بن عليّ البيعة لابني يزيد وتوهينه إيّاه نفس المصدر، ص804.
وعلى الرغم من رفع قادة جيش الشام سيوفهم وتهديدهم الإمام الحسين وثلاثة آخرين كانوا معه، وطلب الإذن من معاوية لضرب أعناقهم إن لم يبايعوا يزيد، وظنّ الناس أنّ الحسين عليه السلام ومن معه قد بايعوا، إلّا أنّ الحسين عليه السلام يخرج إلى الناس ويقول لهم: "والله ما بايعنا يزيد، لا سرّاً ولا جهراً"
"ولا تؤذه، ولكن أرعد له وأبرق، وإيّاك المكاشفة له في سلّ سيفٍ أو محاربة طعن رمحٍ..."
"ثمّ أنتم أيّها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر..." وها هنا يتوجّه الإمام عليه السلام إليهم بالسؤال المفاجئ:
لقد سلّط الإمام عليه السلام الضوء على مسألة خطيرة في الأمّة تستدعي ردّ فعلٍ من النخب والعلماء وتدعوهم إلى التفكّر والتأمّل فقال لهم:
، وباعتقاد الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام فإنّ: "مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه..."، وبالتالي فإنّ وهن أمثال هؤلاء النخب في الإسلام وتقصيرهم في "حفظ مكانة العلماء" سيؤدّي إلى سلب هذه ا"وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تقرعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تقرعون، وذمّة رسول الله محقورة، والعمي والبكم والزمن في المداين مهملة، لا ترحمون ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعتبون، وبالإدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون..."لمنزلة منهم ويعلّل الإمام عليه السلام ذلك بقوله: "وما سلبتم ذلك إلّا بتفرّقكم عن الحقّ واختلافكم في السنّة بعد البيّنة الواضحة".
ومن ثمّ يظهر سيّد الشهداء عليه السلام العجب والأسى من تصدّي الأمويّين للخلافة والحكومة فيقول:
"فيا عجباً وما لي لا أعجب والأرض من غاشٍ غشوم، ومتصدّقٍ ظلوم وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا، أللهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنُري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك...".
ومن ثمّ ينهي الإمام الحسين عليه السلام خطابه بهذه الكلمات: "فإنّكم إلّا تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا الله وعليه توكّلنا، وإليه أنبنا وإليه المصير" نفس المصدر، ص327 ـ 329.
عدم الاعتراف بسلطة يزيد
بعد موت معاوية في سنة للهجرة جلس ابنه يزيد على مسند الخلافة، وأرسل من فوره رسالة إلى واليه على المدينة يطالبه فيها بأخذ البيعة من الإمام الحسين عليه السلام وكبار الصحابة وأعطى أوامره بأن يرسل إليه برأس الحسين إن امتنع الإمام عليه السلام عن البيعة.
"إِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، وعلى الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد الفتوح، ص827؛ بحار الأنوار، ج44، ص326.
ومن قبل قال عليه السلام لمعاوية: "فكيف تولّي على أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من يشرب المسكر وشارب المسكر من الفاسقين وشارب المسكر من الأشرار
فأجابه الإمام عليه السلام: "يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت والله يزيد بن معاوية أبداً..." الفتوح، ص832.
من المدينة إلى مكّة
"أمّا بعد، فإنّ الناس منتظرون لا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد اخضرّت الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار، فأقدم إذا شئت، فإنّما تقدم إلى جندٍ لك مجنّدة..." الفتوح، ص841.
"وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أحييت، فإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد" وقعة الطفّ، ص107؛ محمّد بن طاهر السماويّ، إبصار العين، ص95.
السعي من أجل الإصلاح والتغيير
إنّ خطر قتل الإمام عليه السلام في مكّة اتخذ بعداً جدّياً، فقد كان جنود يزيد متخفّين بلباس الإحرام في موسم الحجّ يتحيّنون الفرصة لقتل الإمام عليه السلام.
وفي آخر ليلة أمضاها الحسين في مكّة يقول لأخيه محمّد بن الحنفيّة:
"يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت"
"خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه..." اللهوف، ص61
وفي يومه الأوّل في هذا المنزل وبعد إقامة صلاة الظهر والعصر بحضور أصحابه وأصحاب الحرّ أشار الإمام عليه السلام في خطبته الأولى معهم إلى دعوة أهل الكوفة له فلم يجبه الحرّ، وفي الخطبة الثانية أكّد عليه السلام على معرفة الحقّ وأنّ الحقّ لمن؟ فقال:
ثمّ استفسر الإمام عليه السلام من بعض الكوفيّين عن أوضاع مدينتهم، فقال له مجمع بن عبد الله العائذيّ: "أمّا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستحال ودّهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألبّ واحدٍ عليك، وأمّا سائر الناس بعد فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك".
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ .
"أللهم اجعل لنا ولهم الجنّة نزلاً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرٍّ من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك" .
ولمّا وصل موكب الحسين عليه السلام إلى نينوى، وصل رسول من الكوفة يحمل كتاب ابن زياد إلى الحرّ بن يزيد، وممّا جاء فيه: "أمّا بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلّا بالعراء في غير حصنٍ وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتّى يأتيني بإنفاذ أمري"
"كتب إليَّ أهل مصركم هذا أن أقدم، فأمّا إذا كرهوني فأنا أنصرف عنهم".
منع الماء
وفي كلّ يوم كان يزداد عدد جيش العدوّ، وفي المقابل كانت تزداد الضغوط والتضييق على الإمام وأصحابه، إلى أن كتب ابن زياد في اليوم السابع إلى عمر بن سعد كتاباً يأمره فيه بأن يحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء وأن لا يدعهم يذوقوا من الماء قطرة.
فأمر ابن سعد عمرو بن الحجّاج أن يسير في خمسمائة فارس فينيخ على الشريعة ويحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء.
ولكنّ العبّاس عليه السلام قام ومعه بعض الأصحاب بإحضار مقدارٍ من الماء إلى أهل البيت عليهم السلام، "وفي هذه الأثناء اشتدّ العطش من الحسين وأصحابه وكادوا أن يموتوا عطشاً"
تأخير الهجوم
وفي عصر اليوم التاسع من المحرّم وبينما كان الحسين عليه السلام جالساً أمام خيمته مستنداً إلى سيفه وقد خفق برأسه على ركبتيه. نادى عمر بن سعد بجيشه: يا خيل الله اركبي وأبشري، وسمعت زينب عليها السلام الصيحة فدنت من أخيها تخبره بهجوم الأعداء، فقال لها الحسين عليه السلام:
"إنّي رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام فقال لي إنّك تروح إلينا...".
ثمّ طلب من أخيه العبّاس أن يذهب للقائهم واستعلام الحال منهم، وتوجّه العبّاس نحوهم وسألهم فأجابوه: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم ولمّا أخبر العبّاس الإمام الحسين بجواب القوم، قال له: "ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار".
وبعد أن استشار ابن سعد قوّاد جيشه قَبِلَ بطرح الإمام عليه السلام بالتأجيل إلى غد.
اختبار الأصحاب
وفي غروب ذلك اليوم جمع الإمام عليه السلام أصحابه الذين قال عنهم بأنّه "لا أعلم أصحاباً خيراً ولا أوفى من أصحابي... لم ولن تقصّروا في حقّي". ومن ثمّ قال لهم:
"هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، ثمّ ليأخذ كلّ رجلٍ منكم بيد رجلٍ من أهل بيتي ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري".
وحلّت ليلة عاشوراء، وجلس الحسين عليه السلام في خيمته حاملاً سيفه بيده يكرّر هذه الأبيات:
"يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ كَمْ لَكَ بِالإِشْرَاقِ وَالأَصِيلِ
وما أن سمعت زينب هذه الأبيات على لسان أخيها لم تملك نفسها أن وثبت وجاءت نحوه وقالت: واثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة...
"لو ترك القطا ليلاً لنام".
وقام الحسين عليه السلام إليها يصبّ الماء على وجهها بعد أن وقعت مغشيّاً عليها وقال لها: "يا أختاه اتق الله، وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيءٍ هالك إلّا وجه الله الذي خلق الخلق بقدرته..."
"أللهم أنت ثقتي في كلّ كربٍ ورجائي في كلّ شدّة وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقة وعدّة..."
الخطبة الأولى
وركب الحسين عليه السلام على فرسه قاصداً نحو الكوفيّين لإتمام الحجّة وقطع العذر فوقف في مقابلهم وناداهم بأعلى صوته، وعلى حدّ قول الناقل لهذا الخبر: "فوالله ما سمعت متكلّماً قطّ قبله ولا بعده أبلغ في منطقٍ منه"، ثمّ قال الحسين عليه السلام:
"الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناءٍ وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقيّ من فتنته، فلا تغرّنّكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها...".
فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ، والله ما تعمّدت كذباً منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبا سعيد الخدريّ، وسهل بن سعد الساعديّ، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟".
"فإن كنتم في شكٍّ من هذا! أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيلٍ منكم قتلته؟ أو مالٍ لكم استهلكته، أو بقصاصٍ من جراحةٍ" فلم يجبه أحدٌ منهم، وحينئذٍ توجّه الإمام عليه السلام إلى أشراف أهل الكوفة وزعمائها الموجودين في جيش ابن سعد فسمّاهم وناداهم وذكّرهم بدعوتهم له، فقال لهم:
"يا شبث بن ربعيّ، يا حجّار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جندٍ لك مجنّدة!". فأنكروا أمام الإمام عليه السلام إرسال الرسائل إليه، فقال لهم: "أيّها الناس، فإن كنتم لا تريدون فذروني ألتجئ إلى مكان آخر".
وقال له قيس بن الأشعث ما ندري ما تقول وعرض عليه التسليم والبيعة، فقال له الحسين عليه السلام:
"لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد".
"ويلكم، ما عليكم أن تنصتوا إليّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاصٍ لأمري غير مستمع لقولي. فقد مُلئت بطونكم من الحرام وطبع الله على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون، ألا تسمعون؟" .
"تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً، حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم، ولا أملٍ أصبح لكم فيهم".
ثمّ عرّض الإمام عليه السلام بجيش ابن سعد الرافع راية العداوة والظلم سائلاً لهم: "فهلّا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليهم كطيرة الدَّبا، وتداعيتم إليهم كتهافت الفراش" ومن ثمّ كشف عليه السلام القناع عن وجوه الكوفيّين اللئيمة وعرّفهم بهذه الأوصاف:
"فسحقاً لكم يا عبيد الأمّة، وشذّاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيري عترة الأوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمّة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين...".
ثمّ حذّر أهل الكوفة قائلاً:
"ثمّ أيم الله، لا تلبثون بعدها إلّا كريث ما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور..." ومن بعد هذا الكلام قام الإمام عليه السلام بالدعاء على هؤلاء القوم الناكثين للعهد والملتحقين بجيش أعداء الله166.
ثمّ إنّ عمر بن سعد وضع سهمه في كبد قوسه ورمى به نحو أصحاب الحسين عليه السلام وقال: "اشهدوا أنّي أوّل من رمى، فرمى أصحابه كلّهم بأجمعهم في أثره رشقة واحدة".
وعند زوال الشمس من يوم العاشر جاء أبو ثمامة الصائديّ يؤذن الحسين عليه السلام بحلول وقت الصلاة فقال له: "ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها".
وبعد إقامة الصلاة بدأ أصحاب الحسين عليه السلام بالنزول إلى الميدان واحداً تلو الآخر، وبعد المبارزة والقتال سقطوا شهداء وتهيّأ بنو هاشم للقتال، وكان أوّل المبارزين منهم عليّ الأكبر عليه السلام الذي نزل إلى الميدان فبارزهم ثمّ خرّ شهيداً، ومن بعده استشهد بقيّة آل هاشم ومن جملتهم أبو الفضل العبّاس عليه السلام وفي تلك اللحظات الأخيرة استدعى الإمام عليه السلام طفله الرضيع وبينما هو في حجره رماه حرملة بسهمٍ في عنقه ففار الدم منه وعندئذٍ قال الإمام عليه السلام: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله"174.
ولم يبق مع الحسين عليه السلام أيّ ناصرٍ ومعين فبقي وحيداً فريداً ينظر يميناً وشمالاً، فلم يَرَ أحداً من أصحابه وأهل بيته إلّا صرعى بدمائهم على وجه الأرض، فنادى الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وزهير بن القين وحبيب بن مظاهر وعليّ الأكبر وسائر الشهداء وصرخ قائلاً: "أيّها الكرام، ادفعوا عن حرم الرسول الطغاة اللئام، ولكن صرعكم والله ريب المنون وغدر بكم الدهر الخؤون، وإلّا لما كنتم عن دعوتي تقصّرون، ولا عن نصرتي تحتجبون، فها نحن عليكم مفتجعون، وبكم لاحقون، فإِنَّا لِلهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ".
كان الإمام الحسين عليه السلام يرى أنْ:"موت في عزٍّ خير من حياة في ذلّ" وكان كلّما برز إليه أحد قتل، ويحمل على الميمنة وهو يقول:
ثمّ يحمل على ميسرة القوم وهو يقول:
أَنَا الحُسَيْنُ بْنَ عَلِي آلَيْتُ أَنْ لا أَنْثَنِي
وهجم عليه مالك بن نسر وضربه بالسيف على رأسه فشقّ برنسه ووصلت الضربة إلى أمّ رأسه وجرى الدم منه وامتلأ البرنس دماً، وخلع الإمام درعه ولبس خوذة بعد أن عمّم رأسه بخرقة سوداء، ولبس جبّة من خزّ، وقاتل قتال الفارس الشجاع، وكان يتّقي الرماة ويفترص العورة، ويشدّ على الخيل
كونوا أحراراً
"ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون" .
فحمل شمر على الإمام الحسين عليه السلام وحمل الإمام عليه السلام على العدوّ وهو يقول:
"أعلى قتلي تحاثون؟ أما والله لا تقتلون بعدي عبداً من عباد الله اللهُ أسخط عليكم لقتله منّي، وأيم الله إنّي لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثمّ ينتقم لي منكم..."
وكلّما دنا أحدهم من الحسين عليه السلام رجع عنه، حتّى صاح بهم ابن سعد طالباً منهم أن يجهزوا عليه، يقول بعض أتباع بن سعد: والله ما رأيت قتيلاً مضمّخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكر في قتله.
قَتَلُوكَ عَطْشَاناً وَلَمْ يَتَرَقَّبُوا فِي قَتلِكَ التَنْزِيلَ وَالتَّأْوِيلا