فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ
قال الله تعالى : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ البقرة (197)
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ».
نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة وهو يتضمن النّهي عنها، و هذا أبلغ.
أي: إنّ الحج بطبعه و الحكمة في تشريعه يأبى هذه الأمور كما يستفاد من تكرار لفظ «الحج» أيضا.
والرّفث يراد به كلّ ما يستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد يكنّى به عن نفس الجماع، فالرّفث بالفرج الجماع، و باللسان المواعدة عليه، و بالعين الغمز له.
والرفث وإن أبيح فى غير الحج فهو محرم فى الحج.
أما الفسوق وهو وإن كان حراما في غير الحج أيضا ولكن تكون حرمته في الحج أشدّ و آكد، فإنّ قصد الحاج السّفر إلى اللّه تعالى و الإقبال عليه عزّ و جلّ، و مع تلبسه بالفسوق يكون خارجا منه وبعيدا عنه تعالى، و لأنّ في الحج تكون حالة الارتباط و الاتصال بساحة ذي الجلال فما أقبح القطع والانفصال في مثل هذا الحال.
ومادة (فسق) تأتي بمعنى الخروج، يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، و يستفاد من موارد استعمالاتها أنّ الفسق خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، و منه الفسق في الشرع و هو الخروج عن الطاعة، وهو أعم من الكفر، و العصيان أعم منهما، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فيما يقرب من أربعين موردا كلّها تشعر بالذّم، و في المتعارف يستعمل فيمن عرف بذلك. و يقال للفأرة: الفويسقة، لأنّها تخرج من بيتها مرة بعد أخرى
و(جدال) تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنّزاع، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه، ومن هذا استعملت في الجدال بين اثنين، لأنّ كلّ منهما يشدّ الكلام و يحاول إثبات صحّة رأيه و نظره. او أن يلف كل واحد من الطرفين على الآخر ليطوقه بالحجة.
وما كان منه لغير اللّه فهو قبيح، وما كان لإظهار الحقّ فهو حسن، وما كان لتثبيته وإيضاحه فهو أحسن.
وقد فسّر الجدال في الآية المباركة في السنة بقول: «لا واللّه، وبلى واللّه».
والظاهر أنّ الآية المباركة تنهى عن أمور كانت متبعة عند العرب في زيارتهم لبيت اللّه الحرام و حجهم له، فقد كانت الأسواق في الموسم تعقد للمفاخرة بين القبائل وكان يجري فيها، التنابز بالألقاب والخصام و المراء، وغير ذلك من المناهي المتعلقة باللسان فناسب ذلك النهي عن هذه الأمور في الحج و إلا فهي محرّمة في جميع الأحوال، و لبيان أنّ الحج بطبعه لا يقبل هذه الأمور فإنّه السّفر إلى اللّه و الإقبال عليه لغرض أسمى، ولا تناسب بين ما كان كذلك وبين ما هو من شأنه البعد والفرقة والانفصال.
ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره فى أثناء الحج، و ليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند اللّه، وليشتغل بأنس اللّه، وليتحمل فى جانبه كل شىء، و يكفى أنه فى بيت اللّه و فى ضيافته.
في الكافي في قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ قال الصادق (عليه السلام): «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه و ذكر اللّه كثيرا، وقلّة الكلام إلا بخير، فإنّ من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال اللّه عز و جل: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِ و الرّفث: الجماع، و الفسوق: الكذب و السباب، والجدال: قول الرجل: لا و اللّه و بلى و اللّه- الحديث-».
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى».
فبعد أن نهانا الحق بقوله: «فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ» وتلك أمور سلبية وهى أفعال على الإنسان أن يمتنع عنها، و هنا يتبع الحق الأفعال السلبية بالأمر بالأفعال الإيجابية، أفعال الخير التى يعلمها اللّه.
إن اللّه يريد أن نجمع فى العبادة بين أمرين، سلب و إيجاب، سلب ما قال عن الرفث و الفسوق و الجدال، و يريد أن نوجب ونوجد فعلا. «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ». و ما هو ذلك الخير؟ إنها الأمور المقابلة للمسائل المنهى عنها، فإذا كان الإنسان لا يرفث فى الحج فمطلوب منه أن يعف فى كلامه و فى نظرته وفى أسلوبه و فى علاقته بامرأته الحلال له، فيمتنع عنها مادام محرما و يطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من بر وخير.
وفى الجدال نجد أن مقابله هو الكلام بالرفق و الأدب و اللين وبحلاوة الأسلوب وبالعطف على الناس، هذا هو المقصود بقوله: «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ».
والخير الظاهر يراه كل الناس، والتعبير ب «يَعْلَمْهُ اللَّهُ» أى الخير مهما صغر، و مهما قل فإن اللّه يعلمه، و كثير من الخيرات تكون هواجس بالنية، و يجازى اللّه على الخير بالجزاء الذى يناسبه.
قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
الزاد: ما يتهيّأ للسفر، و هو يختلف كمية و كيفية باختلاف حالات السفر
والسفر على قسمين: سفر في الدنيا، و سفر من الدنيا. و في كلّ منهما لا بد من الزاد وزاد الأول هو: الطعام و الشراب و المركب و نحوه.
وزاد الثاني: هو معرفة اللّه تعالى و الطاعة، و الاستعداد للآخرة.
أن الزاد هو ما تقى به نفسك من الجوع و العطش، و إذا كان التزود فيه خير لاستبقاء حياتك الفانية، فما بالك بالحياة الأبدية التى لا فناء فيها، ألا تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد فى الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة الباقية.
إذن فقوله: «فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» يشمل زاد الدنيا والآخرة.
واللّه سبحانه و تعالى يذكرنا بالأمور المحسّة و ينقلنا منها إلى الأمور المعنوية، ولكن إذا نظرت بعمق و صدق و حق وجدت الأمور المعنوية أقوى من الأمور الحسية. ولذلك نلاحظ فى قوله سبحانه وتعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً (من الآية 26 سورة الأعراف) هذا أمر حسى. ويفيدنا و يزيدنا سبحانه «ريشا» إنه- سبحانه- لا يوارى سوءة فقط، و إنما زاد الأمر إلى الكماليات التى يتزين بها، وهذه الكماليات هى الريش، أى ما يتزين به الإنسان
ثم قال الحق: وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ (من الآية 26 سورة الأعراف)
أى أنعمت عليكم باللباس والريش، و لكن هناك ما هو خير منهما و هو «لِباسُ التَّقْوى». فإن كنت تعتقد فى اللباس الحسى أنه ستر عورتك ووقاك حرا وبردا وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر حسى، و لكن الأمر الأفضل هو لباس التقوى.
وقد بيّن سبحانه أنّ خير الزاد لهذا السفر هو التقوى، أي فعل الطاعات و ترك المعاصي، و ترك ما يوجب سخط اللّه تعالى، و التقوى هي الصراط المستقيم إلى الإنسانية الكاملة والجنان العالية، و هي الارتباط الوثيق مع مالك الدنيا و الآخرة.
و من تعريف الخبر (التقوى) يستفاد أنّ الأمر مقطوع به، و لا يدخله الشك، و أنّ الحكم على التحقيق كذلك.
و الآية تنحل إلى برهان قويم، وترجع إلى قول: تزودوا بخير الزاد، وخير الزاد التقوى، فتزودوا بالتقوى، والكبرى معلومة بالأدلة الأربعة.
ثم إنّ ظاهر الآية المباركة العموم بالنسبة إلى تمام الحالات و الأزمنة و الأمكنة و إنّما ذكر في المقام بالخصوص لاقتضاء الحالة بتزود التقوى لأنّه السفر إلى اللّه تعالى.
وأما ما عن ابن عباس أنّه قال: «كان أهل اليمن يحجون و لا يتزوّدون و يقولون نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت الآية المباركة» فهو من باب ذكر المصداق لا الحصر الحقيقي، ويمكن تعميم الأمر بالتزود في خصوص الحرم الإلهي حتى بالنسبة إلى ما تعارف بين الحجيج من حمل الهدايا معهم إلى بلادهم.
قوله تعالى: وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ.
اللب: هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام، خصّهم بالذكر لأنّهم المؤهّلون لذلك، فإنّهم يعرفون حاجتهم إلى التزوّد بالتقوى، وما للتقوى من فضل عظيم خطير، وأنّ بالعقل يخشى اللّه وتتقى المعاصي.
ومن حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.كما لا بد من قطع النظر عن كلّ شيء سواه، و هذا هو الذي يستشعره ذو اللب الخالص و العقل السليم.
والتقوى مفتاح بركات السماء و الأرض، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ [الأعراف- 96]، وهي أساس الفلاح، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة- 100]، و هي الوسيلة لجلب السعادة للإنسان.
وهذه الآيات تدل على الترغيب إلى اكتساب الفضائل و التجنب عن الرذائل، والتشبّه بربّ الأرباب جلّ شأنه، و استكمال الإنسان بجميع ما أعد له من الكمال، فيترتب عليه جميع ما أعد له من الجزاء الموعود في القرآن و الكتب السماوية ترتب المعلول على العلّة التامة المنحصرة.