من تجليات الحكمة في الشخصية النبوية
من تجليات الحكمة في الشخصية النبوية
لقد وصف القرآن الكريم النبي الأعظم بأنه معلّم الحكمة
المنطلق الأول: الحكمة في التراث الروائي الوارد عن أهل البيت
عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
عن الإمام الصادق في تعريف الحكمة ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا﴾ قال: ”الحكمة المعرفة، والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم.“
وذكرت هذه الروايات موردين للحكمة
المورد الأول: العلاقة مع الله
وحددها الإمام أمير المؤمنين علي ع بعنصرين
العنصر الأول: الخوف من الله
قال: ”رأس الحكمة مخافة الله“
قال تعالى﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾
العنصر الثاني: عدم الاسترسال في الشهوات
عن الإمام علي : ”حد الحكمة الإعراض عن دار الفناء، والتوله بدار البقاء“
المورد الثاني: العلاقة مع المجتمع، مع الإنسان الآخر
ورد عن الإمام علي : ”الحكمة أن لا تنازع من فوقك، ولا تستذل من دونك، ولا تتعاط ما ليس في قدرتك“.
كما ورد في القرآن الكريم: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾
وقال الإمام أمير المؤمنين علي : ”لا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم“
وورد عنه أنه قال: ”قلب الأحمق في فمه، وفم الحكيم في قلبه“
الفرق بين الحكيم والأحمق أن الحكيم كثير الصمت، وافر العقل، لا يتكلم إلا في موضع يقتضي الكلام. وأما الأحمق فهو ثرثار، يكثر كلامه فيكثر خطؤه
أما الطريق إلى الحكمة فيتقوّم بدعامتين
الدعامة الأولى: عدم الاستغراق في الشهوات
عن الإمام علي : ”لا تجتمع الشهوة والحكمة“
فالخاضع لشهوته، لا يمكنه أن يكون حكيمًا، متأنيًا، ضابطاً متقنًا لتصرفاته.
الدعامة الثانية: الإخلاص
عن الإمام علي : ”من أخلص العبادة لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه“
تجليات الحكمة في شخصية الرسول الأعظم
القرآن الكريم يقول: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾، فلو لم يكن الرسول حكيمًا في حد ذاته، لما كان مؤهلًا لأن يكون منبعًا للحكمة، ومعلمًا للحكمة ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾.
تجليات الحكمة في شخصية النبي (ص)
التجلي الأول: بناء القاعدة
والقاعدة هي عبارة عن: أن تختار من هم أكثر فهمًا لأهدافك، وأكثر إخلاصًا إليك. لذلك الرسول من حكمته: انطلق من أسرته وعشيرته لأنهم أكثر الناس فهمًا لأهدافه، وإخلاصًا إليه كأبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وجعفر الطيار، وعلي بن أبي طالب.
التجلي الثاني: محو الطبقية.
بما أن مشروع النبي مشروع تغييري نهضوي، ولإحياء الأمم إلى يوم القيامة، كان أول بنود هذا المشروع: محو الطبقية. ”كلكم لآدم وآدم من تراب“ ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾، ماذا فعل النبي؟ أول خطوة عملية: حرر مجموعة من العبيد وجعلهم قادة، كعمار بن ياسر، بلال بن رباح، سلمان الفارسي، تحولوا من أرقاء أذلاء، إلى قادة بارعين وبارزين في المجتمع الإسلامي..
التجلي الثالث: اختيار الموقع المناسب للمشروع
لانجاز أي مشروع، لا بد من اختيار الزمن المناسب والمكان المناسب. الرسول كذلك مر بمرحلتين: مرحلة الدعوة، ومرحلة بناء الدولة.
مرحلة الدعوة 13 سنة قضاها في مكة، لكن عندما جاء وقت الانطلاق لبناء الدولة، ولتحويل المشروع إلى مشروع عملي، انطلق إلى المدينة المنورة ; لأنها المكان المناسب، والموقع المناسب لمشروعه النهضوي التغييري. انطلق إلى المدينة المنورة في تجلي واضح لحكمته العملية ، وبنى أول مسجد كان منطلقًا للتغير. ﴿لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا﴾
التجلي الرابع: أن النبي(ص) قام بنوعين من التربية: تربية عامة لكل الجيل، وتربية خاصة لخصوص الكادر الذي يعتمد عليه في أعباء الرسالة
والقرآن يتحدث عن هذين النوعين من التربية
النوع الأول وهو التربية العامة قام بها النبي (ص) لكل المجتمع يعبر عنه القرآن الكريم: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾
لكن هناك تربية خاصة، حظي بها مجموعة خاصة ممن حوله، هيأهم ككادر يعتمد عليه في حمل أعباء الرسالة ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
التجلي الخامس: الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف
التجلي الذي ركزت عليه الآية القرآنية، هي في حد ذاتها حكمة، قالت: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ﴾
الجمع بين تهذيب الأخلاق وإغداق المعارف هو في حد ذاته: تجليًا واضحًا من تجليات الحكمة: ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
لو اقتصر على التعليم لم يكن حكمة. لو اقتصر على التزكية لم يكن حكمة.
التجلي السادس: استيعاب المختلف
استيعاب المختلف رأس الحكمة العملية. استيعاب المختلف: حكمة جسدها النبي (ص) . كيف تعامل النبي(ص) مع المنافقين؟ يعرف أنهم منافقون. استوعبهم، يصغي لكلامهم. حتى قال ابن أبي سلول: إن محمدا أذن. نحن نقول له شيء يصدقنا، الله يقول له شيء يصدقه. هو مجرد أذن. ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
كان هذا مصداقًا لاستيعاب المختلف.
مثلًا، النبي(ص) لما ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام أمروا صبيانهم وسفهاءهم ان يلقفوه بالحجارة والأشواك وهو يتلقاها ساكتًا إلى أن استند إلى جدار بستان. رفع يديه إلى السماء، قال: ”اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون“ استيعاب المختلف.
النبي(ص) عندما فتح مكة صارت قريش بين يديه، قال: ”ما ترون أني فاعل بكم؟ أنتم شردتموني، قاتلتموني، قتلتم خيرة أصحابي، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.“ العفو عند المقدرة علامة القوة وليس علامة الضعف. العفو عند المقدرة مظهر عظيم من مظاهر الحكمة قام به النبي محمد (ص).