وفاة الزهراء صلوات اللّه عليها
اعلم انّ الاقوال في وفاتها عليها السلام اختلفت كثيرا ، والأظهر عندي انّ وفاتها في الثالث من شهر جُمادى الآخرة ، كما انّه مختار بعض العلماء ، ولي عليه شواهد لا يسع المقام ذكرها .
فيكون بقاؤها بعد ابيها صلىاللهعليهوآله (95) يوما ، وان ورد في رواية معتبرة انّ مكثها بعد ابيها كان (75) يوما ، وله وجه وتأويل لا يسع المقام لذكره ، والأفضل العمل بكليهما ، وإقامة العزاء فيهما كما هو المعمول والمتداول . وعلى أي حال ، لم تبق عليها السلام بعد أبيها صلىاللهعليه وآله إلا أياما قليلة ، وكانت دائمة الحزن والبكاء ، وقد لقيت في تلك الأيام من المصائب والأذى والآلام ما اللّه عالم به .
والمتأمل في خطاب أمير المؤمنين عليهالسلام مع النبي صلىاللهعليهوآله بعد دفنها يعرف عظم ما جرى عليها ، ومن هذا الخطاب قوله عليهالسلام :
« وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها ، فأحفها السؤال واستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثّه سبيلاً ، وستقول ويحكُمُ اللّه وهو خير الحاكمين »( الكافي 1:381 .) .
روى إبن بابويه بسند معتبر عن مولانا الصادق عليهالسلام انّه قال : البكاؤون خمسة : آدم ، ويعقوب ، ويوسف ، وفاطمة بنت محمد ، وعليّ بن الحسين عليهمالسلام ، فأمّا آدم فبكى على الجنّة حتى صار في خديه أمثال الأودية ، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له : «تَاللّهِ تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَلِكِينَ »( يوسف : 85 .) .
واما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له : اما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار واما ان تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحد منهما .
اما فاطمة فبكت على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها : قد آذيتنا بكثرة بكائك ، فكانت تخرج الى المقابر ـ مقابر الشهداء ـ فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف .
واما عليّ بن الحسين فبكى على الحسين عليهالسلام عشرين سنة أو أربعين سنة ، ما وُضِعَ بين يديه طعامٌ الاّ بكى حتى قال له مولى له : جعلت فداك يا بن رسول اللّه انّي أخاف عليك ان تكون من الهالكين ، قال : « إنَّمَآ أَشْكُواْ بَثِّى وَحُزْنِىآ إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ »( يوسف : 86 .) . انّي ما اذكر مصرع بني فاطمة الا خنقتني لذلك عبرة(( الخصال 1:272 ، وعنه في البحار 43:155 .).
روى الشيخ الطوسي بسند معتبر عن إبن عباس انّه قال : لما حضرت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته فقيل له : يا رسول اللّه ما يبكيك ؟ فقال : ابكي لذرّيتي وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي ، كأني بفاطمة بنتي وقد ظلمت من بعدي وهي تنادي يا ابتاه فلا يعينها أحد من أمتي .
فسمعت ذلك فاطمة عليها السلام فبكت ، فقال رسول اللّه صلىاللهعليه وآله : لا تبكين يا بنية ، فقالت : لست ابكي لما يصنع بي من بعدك ولكني ابكي لفراقك يا رسول اللّه ، فقال لها : ابشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي ، فانّك أول من يلحق بي من أهل بيتي (البحار 43:156 ، عن امالي الطوسي .) .
وروى في كتاب روضة الواعظين وغيره انّه : مرضت عليها السلام مرضا شديدا ومكثت
أربعين ليلة في مرضها ، فلما نعيت إليها نفسها ، دعت ام أيمن واسماء بنت عميس ، ووجهت خلف عليّ عليهالسلام وأحضرته فقالت : يا بن عمّ ، انّه قد نعيت إلي نفسي وإنني لأرى ما بي لا أشك الاّ أنني لاحقة بابي ساعة بعد ساعة ، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي ، قال لها علي عليهالسلام : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه ، فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت ثم قالت :
يا بن عم ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني ، فقال عليهالسلام : معاذ اللّه ، انت اعلم باللّه وأبرّ وأتقى واكرم وأشد خوفا من اللّه أن أوبخك غدا بمخالفتي ، فقد عزّ عليّ بمفارقتك وبفقدك ، الاّ انّه امر لابد منه ، واللّه جدد عليّ مصيبة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقد عظمت وفاتك وفقدك ، فانّا للّه وانا اليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وألمّها وأمضّها وأحزنها ، هذه واللّه مصيبة لا عزاء عنها ورزية لا خلف لها .
ثم بكيا جميعا ساعة ، وأخذ عليّ رأسها وضمها الى صدره ثم قال : أوصيني بما شئت فانّك تجديني وفيّا أمضي كلّما أمرتيني به وأختار أمرك على أمري . ثم قالت : جزاك اللّه عنيّ خير الجزاء ، يا بن عم أوصيك اوّلاً أن تتزوج بعدي بابنة امامة فانّها لولدي مثلي ، فانّ الرجال لابد لهم من النساء .
ثم قالت : أوصيك يا بن عم أن تتخذ لي نعشا ، فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته ، فقال لها : صفيه اليّ ، فوصفته فاتخذه لها ، فاول نعش عمل في وجه الارض ذلك . ثم قالت : أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقّي ، فانّهم أعدائي واعداء رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، وأن لا يصلّي عليّ أحد منهم ولا من أتباعهم ، وادفني في الليل اذا هدأت العيون ونامت الابصار(روضة الواعظين 1:151 ، عنه في البحار 43:191 .) .
وروي في كشف الغمّة وغيره انّه : لما احتضرتها عليها السلام الوفاة أمرت اسماء بنت عميس أن تأتيها بالماء فتوضأت وقيل اغتسلت ، ودعت الطيب فتطيبت به ، ودعت ثيابا جدد فلبستها وقالت لأسماء : انّ جبرائيل عليهالسلام أتى النبي صلىاللهعليهوآله لما حضرته الوفاة بكافور من الجنّة فقسمه أثلاثا ، ثلث لنفسه وثلث لعليّ وثلث لي وكان اربعين درهما .
فقالت : يا أسماء إئتني ببقية حنوط والدي ، فضعيه عند رأسي فوضعته ، ثم تسبّحت بثوبها وقالت : انتظريني هنيئة ثم أدعيني فان أجبتك والا فاعلمي انّي قد قدمت علي أبي .
فانتظرتها هنيئة ثم نادتها فلم تجبها ، فنادت يا بنت محمد المصطفى ، يا بنت اكرم من حملته النساء ، يا بنت خير من وطأ الحصا ، يا بنت من كان من ربه قاب قوسين أو أدنى . قال : فلم تجبها ، فكشفت الثوب عن وجهها فاذا بها قد فارقت الدنيا ، فوقعت عليها تقبلها وهي تقول : فاطمة اذا قدمت على ابيك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فأقرئيه عن اسماء بنت عميس السلام .
فبينا هي كذلك دخل الحسن والحسين فقالا : يا اسماء ما ينيم أمّنا في هذه الساعة ؟ قالت : يا بني رسول اللّه ليست امكما نائمة ، قد فارقت الدنيا ، فوقع عليها الحسن يقبلها مرة ويقول : يا اماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني ، وأقبل الحسين يقبل رجلها ويقول : يا اماه انا ابنك الحسين كلميني قبل ان ينصدع قلبي فأموت .
قالت لهما اسماء : يا بني رسول اللّه انطلقا الى ابيكما عليّ فأخبراه بموت أمكما ، فخرجا حتى اذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء ، فابتدرهم جميع الصحابة فقالوا : ما يبكيكما يا بني رسول اللّه لا ابكى اللّه أعينكما ، لعلكما نظرتما الى موقف جدّكما صلىاللهعليهوآله فبكيتما شوقا اليه ؟
فقالا : لا أو ليس قد ماتت امّنا فاطمة عليها السلام ، قال : فوقع عليّ على وجهه يقول : بمن العزاء يا بنت محمد ؟ كنت بك أتعزى ففيم العزاء من بعدك ؟ ثم قال :
لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الفراق قليل
وانّ افتقادي فاطما بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليل(كشف الغمّة 2:122 .)
وفي روضة الواعظين : ثم توفيت عليهاالسلام ... فصاحت نسوة المدينة صيحة واحدة ، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة أن تزعزع من صراخهنّ وهنّ يقلن : يا سيدتاه يا بنت رسول اللّه .
وأقبل الناس مثل عرف الفرس الى عليّ عليهالسلام وهو جالس ، والحسن والحسين عليهماالسلام بين يديه يبكيان فبكى الناس لبكائهما ، وخرجت ام كلثوم وعليها برقعة وتجرّ ذيلها متجلّلة برداء عليها تسحبها وهي تقول : يا ابتاه يا رسول اللّه الان حقا فقدناك فقدا لا لقاء بعده أبدا ، واجتمع الناس فجلسوا وهم يرجون أن تخرج الجنازة فيصلون عليها ، وخرج أبوذر فقال : انصرفوا فانّ ابنة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله قد أخّر اخراجها في هذه العشيّة ، فقام الناس وانصرفوا .
فلما أن هدأت العيون ومضى من الليل ، أخرجها عليّ والحسن والحسين عليهما السلام وعمار والمقداد وعقيل والزبير وأبوذر وسلمان وبريدة ، ونفر من بني هاشم وخواصه ، صلّوا عليها ودفنوها في جوف الليل وسوّى على حواليها قبورا مزورة مقدار سبعة حتى لا يعرف قبرها وقيل أربعين قبرا كما في رواية .
وقيل : قبرها سوي مع الأرض مستويا فمسحها مسحا سواءً مع الأرض حتى لا يعرف أحد موضعه(روضة الواعظين 1:151 .) وذلك لإخفاء قبرها وأن لا يصلّي عليه أحد أو يهمّ بنبشه ، ولذا وقع الخلاف في موضع قبرها عليهاالسلام ، قيل انّه بالبقيع جنب قبور الائمة عليهمالسلام ، وقيل انّ
قبرها بين قبر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وبين منبره لقوله : بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ، وقيل إنها دفنت في بيتها ، وهذا أصح الأقوال كما تدل عليه الروايات الصحيحة .
وقد روى الشيخ الطوسي والكليني باسانيد معتبرة عن الامام زين العابدين والامام الحسين عليهماالسلام انّه :
لما مرضت فاطمة عليها السلام بنت رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وصّت الى عليّ بن ابي طالب عليهالسلام أن يكتم أمرها ويخفي خبرها ولا يؤذن أحدا بمرضها ، ففعل ذلك وكان يمرّضها بنفسه وتعينه على ذلك اسماء بنت عميس (رحمها اللّه) على استسرار بذلك كما وصّت به .
فلما حضرتها الوفاة وصّت أمير المؤمنين عليهالسلام ان يتولى امرها ويدفنها ليلاً ويعفي قبرها ، فتولّى ذلك أمير المؤمنين عليهالسلام ودفنها وعفى موضع قبرها ، فلما نفض يده من تراب القبر ، هاج به الحزن ، فأرسل دموعه على خدّيه وحوّل وجهه الى قبر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فقال :
السلام عليك يا رسول اللّه ، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرّة عينك وزائرتك ، والبائتة في الثرى ببقيعك ، المختار اللّه لها سرعة اللحاق بك ، قلّ يا رسول اللّه عن صفيتك صبري ، وضعف عن سيدة النساء تجلّدي ، الاّ انّ في التأسي لي بسنّتك والحزن الذي حلّ بي لفراقك موضع التعزّي ، ولقد وسّدتك في ملحود قبرك بعد ان فاضت نفسك على صدري ، وغمّضتك بيدي ، وتولّيت أمرك بنفسي .
نعم وفي كتاب اللّه أنعم القبول ، انا للّه وانا اليه راجعون قد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة واختلست الزهراء فما أقبح الخضراء والغبراء يا رسول اللّه .
اما حزني فسرمد واما ليلي فمسهّد لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار اللّه لي دارك التي فيها انت مقيم ، كمد مقيّح ، وهمّ مهيّج ، سرعان ما فرق اللّه بيننا والى اللّه أشكو . وستنبئك ابنتك بتظاهر امتك عليّ وعلى هضمها حقّها فاستخبرها الحال ، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد الى بثّة سبيلاً ، وستقول ويحكُمُ اللّه وهو خير الحاكمين .
سلام عليك يا رسول اللّه ، سلام مودع ولا قال ، فان انصرف فلا عن ملالة وان أقم فلا عن سوء ظنّي بما وعد اللّه الصابرين ، الصبر أيمن وأجمل ولو لا غلبة المستولين علينا ، لجعلت المقام عند قبرك لزاما ، والتلبّث عنده معكوفا ، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزيّة ، فبعين اللّه تدفن بنتك سرّا ، ويهتضم حقها قهرا ، ويمنع ارثها جهرا ، ولم يطل العهد ولم يخلق منك الذكر ، فالى اللّه يا رسول اللّه المشتكى وفيك أجمل العزاء ، فصلوات اللّه عليها وعليك ورحمة اللّه وبركاته(2) .
ونقل العلامة المجلسي عن مصباح الانوار مرويّا عن الصادق عليهالسلام عن آبائه الكرام انّه : لما وضع أمير المؤمنين عليهالسلام فاطمة عليهاالسلام في قبرها ، قال :
بسم اللّه الرحمن الرحيم ، بسم اللّه وباللّه وعلى ملّة رسول اللّه محمد بن عبد اللّه صلىاللهعليهوآله ، سلمتك ايتها الصدّيقة الى من هو أولى بك منّي ، ورضيت لك بما رضى اللّه تعالى ، ثم تلا :
« مِنْهَا خَلَقْنَكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى » .
فلما دفنها امر برشّ الماء على القبر ثم جلس عنده بقلب كئيب حزين ، وعين دامعة فجاء اليه عمّه العباس فأخذ بيده ونحّاه عن القبر .
قال الشيخ الشهيد في مزار الدروس : ويستحب زيارة فاطمة عليها السلام ابنة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وزوجة أمير المؤمنين وأم الحسن والحسين عليهما السلام .
قالت عليها السلام: « واخبرني أبي انّه من سلّم عليه وعليّ ثلاثة أيام أوجب اللّه له الجنة ، فقيل لها : في حياتكما ؟ قالت نعم وبعد موتنا » ، وليزر بيتها والروضة والبقيع .
قال العلامة المجلسي : روى السيد إبن طاووس رحمهالله انّه من زار فاطمة عليها السلام فليقل :
السلام عليك يا سيدة نساء العالمين ، السلام عليك يا والدة الحجج على الناس أجمعين ، السلام عليك ايتها المظلومة الممنوعة حقها (ثم ليقل) اللهم صلى على امتك وابنة امتك وزوجة وصي نبيك ، صلاة تزلفها فوق زلفى عبادك المكرمين من أهل السماوات وأهل الارضين .
فقد روي انّ من زارها بهذه الزيارة واستغفر اللّه غفر اللّه له وأدخله الجنّة (الدروس 2:6 .) .